مأساة الحلَّاج (الالتزام بالقضيَّة والإخلال بالعَروض!)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

-1-

ناقشنا في المقال السابق المسرحيَّة الشِّعريَّة "مأساة الحلَّاج"، لـ(صلاح عبدالصبور)، والالتزام الاشتراكي الذي تضمنته. ونشير هنا إلى ما في المسرحيَّة من اختلالات عَروضيَّة لافتة. منها: ما ورد من قوله: "لا يعرف مَن في راحته [قد] وضعه". وصوابه: "لا يعرف مَن في راحته وضعَه". فالنصُّ على تفعيلة البحر (المتدارك). ومن تلك العثرات التفعيليَّة في المسرحيَّة، قوله: "قد تدمع عيني عندئذٍ، [قد أتألم]". وقوله: "أمَّا ما يملأ قلبي خوفًا، يُضني رو[حي فزعًا وندامة]". وقوله: "ورجال [و]نساء قد فقدوا الحُريَّة". وقوله: "قُل: مَن صنع الـ[ـعِلَّة] والدَّاء؟". وقوله: "الكذَّابين الخوَّانين، لصوص الأطـ[ـفال، ومنتهكي الحرمات وتجار الدم]".(1) هذا على سبيل التمثيل لا الحصر. وإنَّما يَسُوغ في تفعيلة المتدارك: (الخَبْن: فعِلن) و(التشعيث: فالن/ القطع: فاعلْ)، لا غير. على أن الشُّعراء كثيرًا ما يقعون في مثل هذا، قديمًا وحديثًا. أمَّا قديمًا، فأنت في غِنًى عن التمثيل. وأمَّا حديثًا، فحدِّث ولا حرج. متجاوزين ما أجازه العَروضيُّون في حشو (المتدارك)، إلى ما يُشبِه (القبض)، وليس بقبض، وهو حذف الخامس الساكن، فتصبح تفعيلة (فاعلنْ): (فاعلُ). وأقول ليس بقبض؛ لأنَّ القبض زحاف، والزحاف لا يكون إلَّا في ثواني الأسباب.

واستعمال تفعيلة (فاعلُ) محض خطأ عَروضي؛ لأنَّها تجتمع بسببه المتحرِّكات على نحوٍ ثقيل، إذا جاءت بعد تفعيلة (فاعلُ) تفعيلةُ (فَعِلُنْ)؛ فتتوالَى متحرِّكاتٌ خمسةٌ بلا فاصل سكون. فضلًا عن انتهاء التفعيلة بمتحرِّك، وابتداء التي بعدها بمتحرِّك. ولئن جاز هذا في أبحرٍ أخرى، فإنَّه يثقل في المتدارك لتنافيه مع طبيعته الراقصة. بل لو أُجيزَ مِثل هذا- أي استعمال (فاعلُ) في المتدارك- لأُجيزَ، إذن، كلُّ اختلالٍ عَروضي، أو كلُّ نصٍّ نثريٍّ يَنسِب نفسه إلى النَّظْم، واقرأ، إذن، على الإيقاع الشِّعريِّ السلام؛ فلن يَبقَى بين المنظوم والمنثور من فارقٍ إيقاعي. ذلك أنْ ليست الموسيقى خاصَّةً بالشِّعر عند العَرَب، بل بإمكانك، أنْ تجِد التفعيلات في أيِّ تعبيرٍ نثريٍّ أو خطابيٍّ. وبذا فإنَّ (قصيدة النَّثر) تصبح (قصيدة تفعيلة)، وَفق هذا التحلُّل من ضوابط الموسيقَى الشِّعريَّة!

هذا وليس الضابط في الأمر بكثرة استعمال الشُّعراء؛ فلكَم وقع الشُّعراء في مزالق العَروض! وإنَّما الضابط بالنظر في نواميس العَروض العَرَبيِّ الغالبة، وهي تدلُّنا على اضطراب الإيقاع ما زاد توالي المتحرِّكات على ثلاثة. والسبب واضح، هو أنَّ الإيقاع في الموسيقى أصلًا قائمٌ على تناوب المتحرِّك والساكن، أمَّا أن تتعاقب المتحرِّكات فوق ثلاثة؛ فثقيلٌ حتى في النَّثر الخالص.

وإذا كان الضابط ليس باستعمال الشُّعراء في إجازة تفعيلة، كـ(فاعلُ) في البحر (المتدارك)، بل الضابط موسيقيٌّ بحت، فليس الضابط كذلك باستعمال الشُّعراء، للزَّعم أنَّ هناك بحرَين، منفصلًا أحدهما عن الآخَر، هما: (المتدارك) و(الخَبب)؛ بحُجَّة أنَّ الشُّعراء نادرًا ما جمعوا بين التفعيلات (فاعلن، وفَعِلُن، وفاعلْ) في نصٍّ واحد. ذلك لأنَّ الشُّعراء عادةً إنَّما ينسج بعضهم على منوال بعض، بالحفظ والترديد والمحاكاة. حتى إنَّ فلتات التجديد لا تظهر غالبًا إلَّا لدَى أولئك الشُّعراء الذين ضعفت لديهم خاصيَّة الحفظ والترديد والمحاكاة، منطلقين من حِسِّهم الموسيقيِّ وذوقهم الخاص.

-2-

وفي المقال التالي ننتقل بعد الشِّعر إلى مناقشة الالتزام الأدبي في ميدان النثر، من خلال مسرحيَّة (لجان بول سارتر)، يُظْهِر الكاتبُ فيها شرائحَ اجتماعيَّةً وسياسيَّةً وفكريَّةً مختلفة، تتصارع مَيْدَ البقاء، ومَيْدَ وصولٍ إلى المستقبل الحقيقيِّ الرَّاقي، وكلٌّ يرَى اتجاهه هو الأصوب الأجدَى. لينتهي المؤلِّفُ إلى الدَّعوة إلى (الوجوديَّة)، والاعتماد في تحقيق وجود الإنسان على الإنسان وحده.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عبدالصَّبور، صلاح، (1972)، ديوان صلاح عبدالصَّبور، (بيروت: دار العودة)، 2: 471- 473.

وسوم: العدد 1000