طغيان الزبد الإعلامي أسبابه وعواقبه

من الأمثال التي ضربها الله عز وجل للناس في القرآن الكريم ـ  ولله المثل الأعلى ـ  قوله جل في علاه : (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ))  ، وهو مثل جاء في سياق مقارنة ظهور الحق على الباطل حيث شبه الله تعالى الباطل بالزبد ، وهو رغوة تعلو الماء عند طغيانه والذي لا يتسرب إلى باطن الأرض، ولا نفع فيه ، كما شبه الحق بالماء الخالص من شوائب الزبد والذي يتسرب إليها ،فيحصل به النفع للناس يشربون منه ويسقون .

ولقد بدا لي أن هذا المثل الإلهي ما دام يتعلق بموضوع  ظهورالحق على الباطل ، يمكن أن يعتمد في كل أمر أو مجال  ينافس فيه الباطل الحق . ومن  المجالات التي طغى فيها الباطل بشكل مثير للانتباه والقلق معا في هذا الزمان مجال الإعلام الذي ساعد على انتشاره في الناس بشكل غير مسبوق، وعلى أوسع نطاق تطور تكنولوجيا التواصل حيث صار لكل فرد في المعمور وسيلة تواصل خاصة به تربطه بشبكة عنكبوتية .

وعند تأمل المنتوج الإعلامي المسوق عبر هذه الشبكة ،نجد الغلبة فيه لباطل القول. ولمّا كان الباطل كما صوره الله عز وجل في محكم التنزيل شبيها بزبد الماء الذي سرعان ما يذهب جفاء ، فإن زبد هذا الإعلام لا  يختلف حاله عن حال زبد الماء لأنه لا طائل من ورائه ، ولا نفع فيه  أو يرجى منه بل عواقبه وخيمة .

ولا شك أن وراء هذا الزبد الإعلامي مصورا، أومنطوقا ،وأمخطوطا، أو مرسوما ... جهات  مشبوهة لها من وراء تسويقه أهداف لم تعد خافية، وعلى رأسها باختصار شديد  التحكم في البشرية ، وسلبها إرادتها ، وتوجيهها وجهة  كل باطل ممكن ، وشغلها عن كل حق ممكن .

ومن الحيل التي تعتمدها تلك الجهات استعمال الإغراء المادي للتشجيع على انتشار الزبد الإعلامي بحيث يحصل كل من يعرض شيئا منه عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مقابل تكون قيمته بقدر ما يكون عدد المستهلكين له . ومع اتساع دائرة هذا الزبد الإعلامي، طال الضياع قيم الحق في كل أصقاع المعمور ، وحل محلها الباطل بكل أصنافه وأشكاله وألوانه ، وهو يطرق على الناس أبواب هواتفهم الخلوية أو حواسيبهم أو لوحاتهم الرقمية دون استئذان ، ويغريهم بولوج ساحته بكل أنواع الإغراء من عناوين جذابة ومشوقة أو صور مثيرة  للمشاعر والغرائز... إلى غير ذلك من أساليب الاستدراج المكشوفة  ثم يستجديهم لتسجيل  ولوج ساحته، وتسجل إعجابهم ليصلهم جديده ، وما في الباطل من جديد .

ومع أن الحق أبلج والباطل لجلج كما يقال ، فإن سواد الناس في هذا العالم ممن لا مناعة لهم تحميهم من لجلج الباطل ، يقبلون عليه بنهم  شديد وقد بهرج لهم ، وتم تنويمهم بما يشبه التنويم المغناطيسي ، فيتحولون مع مرور الوقت إلى مدمنين عليه كإدمان من يتعاطون المخدرات أو أكثر ، ويتحولون بذلك إلى أشخاص مستلبي الإرادة  قد صودرت منهم عقولهم ومشاعرهم وشخصياتهم ، وأغلبهم يدخل دائرة هذا الاستلاب مجربا بدافع الفضول لكنه سرعان ما يصبح  صيدا أوضحية لا خلاص له مما  ورط فيه نفسه داخل هذه الدائرة الموبوءة .

ومن نماذج الزبد الإعلامي على سبيل الذكر لا الحصر ما يسوق من فيديوهات عن بعض الرعاع والسوقة  الذين يصورون فيها  مشاهد مقرفة  من أحوالهم الخاصة  بما فيها التي تصور في دورات المياه ،ومع ما فيها من قرف، فإن أمثالهم من الرعاع والسوقة يقبلون على مشاهدتها  بنهم ،وقد صاروا ضحايا دائرة الزبد الإعلامي .

ومن نماذجه أيضا ما ينشر من أخبار عن مشاهير بمن فيهم المحسوبون على الفن  طربا وتمثبلا ...وبعضهم في الحقيقة  مجرد أهل عفن، و مشاهير الرياضيين  تشغل من يستهلكونها بالحياة الخاصة لهؤلاء من لباس ، وزواج ، وخصام ، وطلاق  ... وهذا النوع من الزبد الإعلامي أكثر استهلاكا بسبب  طغيان شعور الانبهار بالشهرة التي تحول كل مغمور إلى مشهور كما يتحول المعدن الخسيس إلى معدن ثمين عن طريق  الغش والتدليس مما يوسوس به إبليس .

وأخطر ما في الزبد الإعلامي استهلاكه الفظيع لأوقات المدمنين عليه من كل الشرائح الاجتماعية ، ومن كل الأعمار ، وهو استهلاك يكون على حساب الواجبات اليومية من دراسة  أو عمل ، أو منفعة   ... علما بأن خسارة الوقت لا عوض لها ، وهي من جملة ما يسأل عنه الإنسان بمجرد زوال قدمه من هذه الدنيا كما جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،لأن أثمن ما في هذه الحياة الوقت الذي من المفروض أن يستعرض الإنسان  خلاله مجموع ما يمكن إنجازه في كل قترة تتاح له  ، فيختار الأنفع نظرا لنفاسة الوقت التي هي بسبب محدوديته في هذه الحياة الدنيا مع استحالة استدراك ما يفوت منه .

وإلى جانب خسارة الوقت الفادحة ، تمنى العلاقات الإنسانية بخسارة أفدح ،وعلى رأسها العلاقات الأسرية والعائلية  حيث فكك الزبد الإعلامي أواصرها بسبب انشغال أفرادها  بالإدمان عليه عن  بعضهم البعض ، والتقصير الفظيع  في حق بعضهم على بعض ، وهذا استهداف خبيث وماكر للأسرة باعتبارها نواة المجتمع الصلبة التي إذا ما دمرت دمر المجتمع برمته .   

ومقابل إقبال السواد الأعظم من البشرية على الزبد الإعلامي ، نلاحظ إعراضهم على  ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم كنفع الماء لهم بحيث يقل الإقبال عليه بشكل فظيع، وتستثقله العقول المعطلة ،وتمجه الأذواق المريضة، وتضيق منه القلوب الخربة وقد ألفت التهافت والإدمان على الزبد .

فمتى ستفيق البشرية من أثر الإدمان عليه ، وتعي ما تريده بها الجهات المشبوهة المسوقة له  من شر مستطير ؟؟؟

وسوم: العدد 1002