إذا ما تعارضت مصلحتان دنيوية وأخروية فعلى من منهما يكون الرهان عند أهل الإيمان؟

من المعلوم أن المبدأ والمصلحة خطّان متوازيان لا يلتقيان أبدا . والناس في هذه الدنيا باعتبارالمبدإ والمصلحة فريقان لا ثالث لهما : فريق الرهان على المبدإ ،وفريق الرهان على المصلحة ، ولا مجال هنا لتبادل الأدوار بين الفريقين تماما كما أنه لا يمكن للإنسان أن يكون في حيزين متباعدين جسديا في نفس الوقت .

والمصلحة في التصور الإسلامي بدورها نوعان : مصلحة دنيوية ، وأخرى أخروية ، والفرق بينهما أن الأولى تتحقق في الحياة الدنيا ، والثانية تتحقق في الآخرة . وهاتان المصلحتان أيضا خطّان متوازيان لا يلتقيان . وإن زعم أحد أنهما تلتقيان، قلنا له إذا ما حصل ذلك ، فالمصلحة الراجحة هي الأخروية ، وفي هذه الحالة  قد تكون المصلحة الدنيوية وسيلة تطلب بها المصلحة الأخروية ، ولا تعاب كما تعاب المصلحة الدنيوية التي تكون هدفا  وغاية في حد ذاتها لا وسيلة إلى المصلحة الأخروية ، بل قد تكون أيضا على حساب هذه الأخيرة تفضي إلى منفعة  دنيوية مقابل خسارة أخروية.

 والناس في الرهان على هاتين المصلحتين فريقان : مراهنون على المصحلة الدنيوية ، يعيشون من أجل الدنيا فقط ، ومراهنون على المصلحة الأخروية يسعون في دنياهم من أجل آخرتهم . وقد بين الذكر الحكيم الفرق بينهما في قوله تعالى : (( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا )) ، ففي هذه الآيات الثلاث من سورة الإسراء بيان لحال طلاّب الدنيا ، وطلاّب الاخرة أو بتعبير مناسب لما نحن بصدد بيانه من أمر المصلحتين الدنيوية والأخروية، أصحاب مصلحة دنيوية ، وأصحاب مصلحة أخروية . وسنة الله تعالى في الخلق أنه يمكّن كل فريق مما يطلب ،ذلك أن من كانت مصلحتهم دنيوية صرفة، أمدهم بما يشاء منها لمن يريد عطاء أوحرمانا،  وجعل عاقبتهم خسرانا أبديا فيه يذمون ويدحرون ، ومن كانت مصلحتهم أخروية مكّنهم منها مشكور سيعهم ، وجعل عاقبتهم فوزا أبديا فيه ينعمون.

ويتكرر عدة مرات  في كتاب الله عز وجل هذا التصنيف حسب المصلحتين الدنيوية والأخروية  من قبيل قوله في سورة النازعات : (( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )) ، والذين يؤثرون الحياة الدنيا إنما هم أصحاب المصلحة الدنيوية التي يؤثرونها على المصلحة الأخروية .

وقد يحتار الإنسان المؤمن عندما يجد نفسه أمام  خيار صعب بين مصلحتين دنيوية حاضرة  رهن يده تغريه ، وأخروية غائبة لكنها موعودة وعد صدق ، فيتردد بينهما ، والشيطان يحثه على الدنيوية، ويحذره من ضياع فرصة الفوز بها ، بنما صوت مبعث من إيمانه يحذره من كيد الشيطان ، ويحثه على ترجيح كفة المصلحة الأخروية على كفة المصلحة الدنيوية ،و يحثه الصبر على ذلك لأن إغراء هذه الأخيرة قوي لا تستطيع النفس مقاومته.

ولا يخلو مؤمن مهما كان من المرور بهذا الامتحان العسير والمصلحتان الدنيوية والأخروية  تتجاذبانه ، والأولى شديدة الإغراء  بملموس ومحسوس ، والثانية قد طواها الغيب إلى وقت اليوم المعلوم . وقد يدلس عليه عدوه إبليس اللعين، فيزيّن له المصلحة الدنيوية زاعما أنها وسيلته إلى المصلحة الأخروية لتوريطه فيها ،وهو الذي أغرى آدم وزوجه عليهما السلام  بمقايضة الأكل من الشجرة المحرمة عليهما بخلد وملك لا يبلى وهما محض وهمين  .

وما أكثر بني آدم الذين  يقايضون مقايضة أبويهما  الخاسرة آدم وحواء عليهما السلام ، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا ، وفيهم يقول الله تعالى : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) .

 و المؤسف أن من هؤلاء من يحسبون على الإسلام بل في طليعة المسلمين من دعاة، وعلماء ،ومفكرين ، ومسؤولين ...تعرض لهم المصلحة الدنيوية، فيميلون إليها ميلا شديدا  معرضين عن المصلحة الأخروية حيث يغيرهم المال أوالجاه ، أوالسمعة ، أوالمنصب، أوالتزلف إلى أصحاب الثروة والسلطان ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، يبيعون دينهم بعرض الدنيا الزائل .وهؤلاء نوعان : نوع منغمس في المصلحة الدنيوية وهو يلتزم الصمت ، بنما نوع آخر يجمع بين الانغماس فيها وبين ادعائه السعي من أجل المصلحة الأخروية، وواقع حاله يكذبه ، وقد يمضي في تزيين المصلحة الدنيوية للناس على حساب المصلحة الأخروية ، فلا ينكر منكرا بواحا  بل يجتهد في تبريره للمتورطين فيه متزلفا إليهم ، مستغلا في ذلك كلام الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم  مدعيا  منتهى العلم والخبرة بهما مفاخرا بذلك على غيره ، وهو يتهمه بالجهالة ، ويوظفهما أسوأ توظيف للتمويه على تعلقه بالمصلحة الدنيوية ، وهو في ذلك يخادع نفسه ويخدعها ،  ويغضبه نصح الناصحين إذا نصحوا له لأنه يرى نفسه فوق النصح الذي لا يستغني عنه ذو لب  رشيد مهما كان باعه في علم ومعرفة ،لأنه ما كل ذي علم ومعرفة يفيد منهما، وقد ذم الله تعالى من حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها ، فوصفهم بالحمر الحاملة حمولة لا تستفيد منها شيئا .

ولمّا كان النصح فريضة ، وجب نصح هؤلاء بالإقلاع عن التمادي في غرورهم ، والعودة عما هم عليه من انحراف عن الجادة خصوصا وأن كثيرا منهم قد أوشكوا على مغادرة الدنيا بحكم سنهم ،  ولهم  قدوة في السلف الصالح ممن امتحنوا أشد الامتحان ، فآثروا الآخرة على الدنيا ، وإن طلاب الدنيا ليحدثون غيرهم  عنهذا السلف الصالح ، ويأمرونهم بالاقتداء بهم في ابتلائهم  وهم مع شديد الأسف لا يقتدون بهم ، ويحدثونهم عن أفضل الجهاد بكلمة حق عند سلطان جائر ولكنهم لا ينطقون بها ، وهم ممن قال فيهم الله تعالى : (( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )).

وسوم: العدد 1008