بعد تسعة أشهر من الحرب

كان السبب الرئيس وراء اندلاع الحرب في أوكرانيا، يكمن في الاستراتيجية الأمريكية التي وسّعت حلف الناتو، ليضم أغلب بلدان حلف وارسو، وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقاً. وهو ما أوصلها إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة اعتبرتها روسيا تهديداً لأمنها القومي.

وكانت روسيا قد طالبت بتحييد أوكرانيا، بحيث تبقى صديقة لكل من روسيا وأمريكا وأوروبا. ولكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبدفع أمريكي، رفض ذلك، ووضع دستوراً لأوكرانيا يهدف إلى الانضمام لحلف الأطلسي (الناتو).

ولهذا يخطئ من يعتقد أن روسيا لجأت لشنّ عملية عسكرية في أوكرانيا، لأسباب تتعلق بدافع احتلال أوكرانيا، ضمن سياسة توسعية. فالأزمة التي دامت أكثر من سبع سنوات (منذ 2014) بين روسيا من جهة، وكلٍ من أمريكا وحكومة أوكرانيا، دارت حول ضمّ أوكرانيا لحلف الناتو، أو حيادها كما تطالب روسيا.

فالحرب التي اندلعت في أوكرانيا توّجت سنوات من الصراع الروسي الأمريكي. وكانت أمريكا قبل اندلاعها، قد أكدت أن الحرب واقعة من جانب روسيا لا محالة، لأنها كانت متأكدة من أن تسليحها لأوكرانيا لا تستطيع روسيا أن تمرّره، وذلك بسبب مساسه الخطير بأمنها القومي.

ولكن عندما تعلن إدارة بايدن، في الوقت نفسه، أن عدوها الأول هو الصين، وتتحرك لتأزيم العلاقة بين الصين وتايوان، فهذا يعني أنها انتقلت إلى مرحلة عالمية جديدة تتسّم بحرب ضد روسيا من خلال أوكرانيا، وتهيّء لحرب مماثلة، أو ما يشبهها، مع الصين، الأمر الذي قلب الوضع العالمي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، رأساً على عقب. فالاقتصاد كان الأكثر تأثراً من حيث ارتفاع أسعار السلع، وإشاعة اللا يقين في مسار التجارة الدولية، ومستوى العيش حتى في الغرب نفسه.

لقد مرّت تسعة أشهر على الحرب في أوكرانيا، ومن دون حراك واحد في محاولة وضع حد لها، أو الحد من تصعيدها، بل العكس، فقد راحت أمريكا ومعها أوروبا تصعدان في تسليح الجيش الأوكراني، كلما تراجع وضعه الميداني. ولهذا بدأت روسيا تضرب في البنية التحتية، فيما الشتاء القارس بدأ زحفه السريع الذي يتطلب المزيد من الكهرباء، وقد تعطلت حتى الآن نصف محطات الطاقة الكهربائية.

ماذا يعني الاستمرار في الحرب وتصعيدها بعد تسعة أشهر، بالرغم مما أحدثت من خسائر إنسانية ومادية، وما راحت تلحقه من أضرار؟ وبالرغم مما تنذر به من الدمار من خلال الأسلحة التقليدية، كما الاقتراب من طرق أبواب النووي المحدود، والقابل للدخول في اللا محدود؟

عندما بدأت الحرب أخذت شكل عملية عسكرية روسية مقابل شعب أوكراني يدافع عن نفسه ووطنه، ولكن من يتابع اليوم مشهد تدفق الأسلحة من أمريكا وبريطانيا وأوروبا، للمشاركة في الحرب ضد روسيا، يرى تلك الحرب تخرج من أن تكون روسية- أوكرانية، لتصبح حرباً عالمية أمريكية- أوروبية ضد روسيا

هنا يحتاج التدخل العسكري الأوروبي، خصوصاً الألماني والفرنسي، إلى قراءة معمقة لهذه المشاركة مع أمريكا في تأجيج الحرب، وذلك في الوقت الذي أبدت فيه الدولتان من خلال عدّة مواقف رسمية، نقداً شديداً للسياسات الأمريكية، التي تصرفت وتتصرف بأعلى درجات الأنانية، في الإفادة الاقتصادية على حساب الاقتصاد الأوروبي، بل في جني المكاسب من أوروبا نفسها؟

فأوروبا متناقضة مع أمريكا اقتصادياً تناقضاً لا يمكن الاستهتار به، أو التقليل من شأنه في إلحاق الأضرار بأوروبا، ولكنها تكاد تتطابق معها في الدعم العسكري لأوكرانيا، وفي الموقف السياسي ضد روسيا والصين. وهذا الازدواج والتناقض أمر يخالف "طبائع الأشياء" كما يقولون، أو مخالِف للأساسيات في الشؤون العسكرية والاقتصادية والسياسية.

صحيح أن أهمية الاقتصاد تتراجع عندما يتقدم الصراع السياسي والعسكري، ولكن في الحالة الأمريكية- الأوروبية ثمة مشكلة في المسلك الأمريكي الأناني إزاء الاقتصاد الأوروبي، في الوقت الذي يخوضان فيه حرباً مشتركة، مما يوجب على أمريكا أن تراعي وضع الحليف الذي فرضت عليه حرباً لم تستشره فيها، وراح يخسر اقتصادياً ليس لمقتضيات الحرب فحسب، وإنما لاستغلال أمريكا المباشر له، وهو يتحوّل إلى شراء النفط والغاز منها، بدلاً من النفط والغاز الروسيين مثلاً، وفي مجالات عدة أخرى.

والسؤال: هل هذه المعادلة قابلة للاستمرار أوروبياً، إذا ما طالت الحرب، ولم تصبح حرباً مباشرة تخوضها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا؟

لعل الشتاء القادم، وما سيترتب عن الحرب في أوكرانيا، من نتائج عسكرية من جهة ومن نتائج إنسانية حياتية على المعيش من جهة أخرى، سيقرران مصير هذا التناقض أو الاستمرار فيه، كما سيدلان على المسار القادم للعالم، في المديين القريب والمتوسط.

ثم كيف إذا ما صعدت أمريكا مع الصين، وأدخلتها، بشكل أو بآخر، في حرب عسكرية، أو اقتصادية أو سياسية، كما هو الحال مع روسيا، باعتبار روسيا الحليف العسكري الكبير للصين؟ ولهذا فإن المطلوب إخراج روسيا من الصراع للتفرغ لما يبيّت من حرب على الصين، وذلك لأن الصين هي المرشحة لتصبح الدولة الكبرى العالمية رقم 1، لتحلّ محلّ أمريكا في الموقع. فالبقاء في موقع الدولة الكبرى رقم 1 بالنسبة إلى أمريكا، مسألة حياة أو موت.

وباختصار، إن أساس المشكل يتجسّد في السيطرة على العالم، كما يتعلق في النهب العالمي غير المحدود، من خلال الدور الذي يلعبه الدولار في المعاملات التجارية والمالية في العالم بأسره. ولهذا فإن فقدان هذا الدور لا تتقبله أمريكا، قبل أن تصل إلى حافة الدمار الشامل، وهو ما تعبّر عنه الاستراتيجية الأمريكية الراهنة ابتداءً من الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وسوم: العدد 1009