كلمة موجهة إلى الناشئة المتعلمة في الوطن العربي بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية

لا أرى شخصيا أن يعتبر احتفال منظمة اليونسكو باللغة العربية في العاصمة الفرنسية بمناسبة يومها العالمي مؤديا حقها  على الوجه الأكمل خصوصا وأن مكان الاحتفال هو القاعدة الخلفية لمن يعادونها ، ويرغبون في طمس معالمها ، وهويتها المقترنة بالهوية الإسلامية .

وعليه كان من المفروض أن تضطلع بهذا الاحتفال هيئات علمية في العواصم العربية خصوصا في هذا الظرف بالذات، والذي يشهد تآمرا صارخا عليها قد جندت له طوابير خامسة مأجورة في البلاد العربية  وخارجها .

ولمّا كانت الناشئة المتعلمة في الوطن العربي هي المعنية أساسا باللغة العربية التي تمثل هويتها اللغوية ارتأيت أن أوجه لها كلمة بهذه المناسبة استلهمتها من كلمة ألقاها العلامة الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب المجذوب رحمه الله ، وهو من كبار علماء دولة السودان الشقيق ، وكان أستاذا زائرا بجامعاتنا المغربية . ولقد ألقى كلمته المتعلقة باللغة العربية  بجامع القرويين في الثمانينات من القرن الماضي، أوصى خلالها طلاب الجامعات المغربية ممن يلتحقون بشعبة اللغة العربية وآدابها بأن يحفظوا قبل التحاقهم بها الربع الأخير من كتاب الله العزيز ، ويحفظوا المعلقات ، ولامية العرب ، وقال لا بأس أيضا بنونية  الشاعر ابن زيدون.  وربما بدا للحاضرين يومئذ ما قاله هذا الأديب الشاعر والمفكر الفذ ضرب من المبالغة إلا أن الرجل كان ينظر بعيدا، وهو من جيل من كانوا لا يلتحقون بالمؤسسات التربوية في مراحل التعليم الأولي إلا بعد ختم القرآن الكريم حفظا واستظهارا مع  بعض الأحاديث النبوية، والقصائد الشعرية  من عيون الشعر العربي ، وبعض المتون اللغوية، والفقهية جريا على عادة طلب العلم كما خلفه لنا السلف الصالح .

وإذا ما تأملنا ما أشار به الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله تعالى على طلاب العلم  في مرحلة التعليم العالي قبل الاقبال على التخصص في اللغة العربية وآدبها ، نجده قد أقترح عليهم الإعداد الضروري الذي لا مندوحة لهم عنه أو لنقل بعبارة أخرى  المعلوم بالضرورة من الاستعداد لولوج عوالم اللغة العربية ، ذلك أن في حفظ الربع الأخير من كتاب الله عز وجل ما يقوي الذاكرة على استيعاب كلام الله تعالى المعجز الذي يصقل الذوق اللغوي ، ويفتح آفاق الفكر واسعة ، فضلا عما فيه من بركة كما قال الدكتور المجذوب نقلا عن ابن خلدون رحمة الله عليه . ونجد في اقتراح الدكتور السوداني حفظ المعلقات سبعا أوعشرا ما ينقل طلاب العلم إلى أجواء اللغة العربية في بيئة غلبت فيها الفصاحة والبلاغة  قبل نزول القرآن الكريم ، وهو ما يسهل عليهم استيعاب حقيقة إعجاز كلام الله عز وجل من خلال مقارنته بالمتن الشعري الجاهلي الرصين  . ولقد حرص الاستشراق الغربي ، ومن فتنوا به  من المستغربين العرب على التشكيك في هذا المتن الشعري من أجل نسف قضية الإعجاز من أساسها إلا أن أهل العلم قد اعتمدوه في إثباتهم الإعجاز ، وكتب التفسير زاخرة بالاستشهاد على ذلك . ونصح الدكتور عبد الله الطلاب بحفظ لامية العرب، وهي قصيدة للشاعر ثابت بن أوس الأزدي المعروف بالشنفرى ، وهو من فحول الطبقة الثانية ، وهي قصيدة شرحها عدد من  مشاهير الأدب واللغة، نذكر منهم المفضل الضبي ، والتبريزي والزمخشري ، والمبرد ، وغيرهم  ، وما انكب هؤلاء على شرحها وهم من هم علما ودراية  إلا لأهميتها اللغوية والأدبية ،ومطلعها :

أقيموا بني أمي صدور مطيكم    فإني إلى قوم سواكم لأميل

وفيها يتحدث الشاعر عن عالمه المفضل في الفلوات مع الوحوش الكاسرة التي فضل صحبتها على  صحبة بشر دأبه الغدر والخيانة ...  وقد صاغها صياغة شعرية باهرة . وأما نصح الدكتور الطيب طلاب الأدب بحفظ نونية ابن زيدون التي مطلعها :

أضحى التنائي بديلا عن تدانينا       وطاب عن لقيانا تجافينا

وكان صاحبها معلق القلب بولادة بنت المستكفي أمير قرطبة، وهي من الشواعر التي اشتهرت بتطريز ثوبها ببيتين من شعرها هما :

أنا والله أصلح للمعالـــــــــــي         وأمشي مشيتي وأتيهة تيها

أمكّن عاشقي من صحن خدي      وأعطي قبلتي من يشتهيهــــا

فلأن قصيدة ابن زيدون كانت طافحة بمشاعر العاطفة الرقيقة حتى قيل إن من حفظها مات عشقا .

وخلاصة القول أن نصيحة الدكتور المجذوب ركزت على إقحام الطلاب المتأدبين في مجال إعجاز القرآن الكريم ، وجزالة الشعر الجاهلي ، ورقة الشعر الأندلسي ، وكأنه أراد أن يوجه أذواقهم إلى ما لذ من أطباق أساليب اللغة العربية الشهية ، وقد كانت أطباقا نموذجية تغري بالإقبال على غيرها مما لذ وطاب .

وما أريد  من وراء كلمتي إلى الناشئة المتعلمة في البلاد العربية ، وفي مختلف أسلاك التعليم من خلال هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، هو أن أذكرهم إن كانوا ذاكرين أو أنبههم إن كانوا غافلين  بمثل ما ذكر به الدكتور المجذوب طلاب السلك العالي قبل أكثر من أربعة عقود خلت، لكنني سأشفق على الناشئة في مستويات الأسلاك الابتدائية والثانوية الإعدادية والتأهيلية ، وأقترح أن يكون محفوظها من كتاب الله عز وجل أكثر مما تقدمه الكتب المدرسية  في كل مستوى ، وأن يكون بعض ذلك المحفوظ من السور القصار تدرجا في المستويات الأولى من السلك الابتدائي كما جرت العادة ، وفي ذلك بركة كما قال الدكتور المجذوب نقلا عن العلامة ابن خلدون ، وحقيقة تلك البركة أنها تصلح مخارج حروف اللسان العربي لدى الناشئة المتعلمة في تلك المستويات عوض عرضها على أطباء لعلاجها عضويا ، وقد كفاها الله تعالى بذكره الحكيم المتلو باللسان العربي المبين كل عيب  . وإلى جانب المتن القرآني الواجب حفظه ، لا بد من حفظ بعض متن الحديث الشريف ، و يجب أن ينتقى منه ما فيه تربية وتوجيه خاص بالناشئة  ، فضلا عما في صياغته من جمال يسمو بالأذواق  ويصقلها، وإلى جانب ذلك لا بد من حفظ نماذج من الأشعار التي يجمع أهل اللغة والأدب  قديمهم وحديثهم على جودتها وعلو كعبها، والتي تصقل الأذواق بشكل جيد عوضا عن بعض ما صار يقدم للناشئة  في الكتب المدرسية من قصائد  تحت ذريعة التبسيط، وهي لا تصقل ذوقا ، ولا  تطور فكرا ، وفي قصائد المديح النبوي ما يغني عن غيرها من الأشعار خصوصا في بعض المستويات التعليمية .

ولا بد من  حفظ بعض نماذج المتون اللغوية والدينية دون الاثقال على المتعلمين لأن المتون المنظومة أشد علقا بالذاكرة بسبب إيقاعها ، وهو ما يجعل حفظها سهلا يسيرا .

ولا بد ههنا  من التنبيه إلى الأصوات المحذرة من مهارة الحفظ ، والزاعمة أنها تعطل الذكاء  أو تميته ، وهو قول مثير للسخرية ، وذريعة من افتراء من يريدون تعطيل الذكاء لدى الناشئة المتعلمة ،علما بأن كل الامتحانات والاختبارات التي تخضع لها الناشئة المتعلمة تعتمد على ما تختزنه الذاكرة حفظا ، وهي التي تروض بحفظ الكلام البليغ  أولا ثم تعود  بعد ذلك على حفظ كل محفوظ مهما كان .

ومما يرفع من مستويات أداء اللغة العربية لدى الناشئة المتعلمة أيضا التمرس بكتابتها باستمرار عوض الاقتصار على الكم المحدود  من المكتوب داخل الفصول الدراسية ، وفي ذلك تحسين رسمها من جهة ، ومن جهة ثانية تطوير الذاكرة البصرية ، وهي جزء من الذاكرة العامة . ومعلوم أن الكتابة تستدعي القراءة ، وما أمر الله تعالى بالقراءة إلا بعد وجود المكتوب .

وأخيرا لا بد من ذكر تجربة ما يسمى بالتعليم العتيق ، وهو التعليم الموروث عن السلف الصالح الذي كشفت عن تفوق لغوي وازن لدى الناشئة التي تخضع له ، والذي يبدأ بحفظ كلام الله عز وجل أولا  ، ويكون بركة على حد قول العلامة ابن خلدون تفتح الآفاق لحفظ واستيعاب كل ما يستوجب الحفظ . ولا ننسى أن أقوى ما تكون عليه الذاكرة البشرية في مراحل التعليم الأولى ،والتي كان السلف الصالح يستغلها من أجل تطوير الملكة اللغوية لدى الناشئة المتعلمة ، وهو ما يجعله الذاكرة تحافظ على اتقادها باستمرار في باقي مراحل العمر .

وأخيرا نقول كل عام واللغة العربية بألف خير، وعقبى لها السمو والرقي الدائمين  حتى يأتي أمر الله تعالى بنهاية هذا العالم ، وحفظها الله تعالى من كيد الكائدين بما حفظ به ذكره الحكيم وقد جعلها وعاءه .

وسوم: العدد 1011