ناصر أبو حميد الأسير حياً ومريضاً وشهيداً

عندما يعيد التّاريخ نفسه

جميل السلحوت

يقول كارل ماركس:" إنّ التّاريخ يعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة." أمّا جدّي وجدّه وجدّ جدّه-رحمهم الله- فقد قالوا:" ما بتقطّش من ذنيه الثنتين إلّا الحمار."

ويبدو أنّنا نحن العرب في تاريخنا المعاصر لم نتّعظ من حكمة أجدادنا، ولا من مقولة ماركس، والأمثلة على ذلك كثيرة جدّا، يعرفها القاصي والدّاني، وسآخذ على ذلك مثالا كنت وأبناء جيلي ومن يكبروننا عمرا شهداء عليه، وعاش مآسيه أبناؤنا وأحفادنا وستعيشه الأجيال القادمة أيضا إن لم نتغيّر وإن لم نتّعظ من التّاريخ.

بعد هزيمة حرب حزيران عام 1967 والتي سمّاها المرحوم محمد حسنين هيكل "نكسة"، وتلقّفها العرب قادة وشعوبا وإعلاما وأحزابا، أصدرت الأحزاب "الطّليعيّة"     في العالم العربيّ، ومنها الأراضي الفلسطينيّة وهي: حركة القوميّين العرب، الحزب الشّيوعي الأردنيّ، وحزب البعث العربيّ الإشتراكيّ، وجاء فيه أنّنا "قد انتصرنا في تلك الحرب العدوانيّة، لأنّ العدوّ الإسرائيليّ لم يستطع إسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا، ولم يستطع هدم الكيان الأردنيّ!"، وكأنّ وقوع ما تبقّى من فلسطين "الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة"، ومرتفعات الجولان السّوريّة وسيناء المصريّة، ومزارع شبعا اللبنانيّة تحت الاحتلال لا يساوي شيئا أمام بقاء نظامين عربيّين في الحكم! وحتّى يومنا هذا لا أعرف ما المقصود "بالكيان الأردنيّ"، ولا أعلم إن كان هذا التّعبير يعني مدحا أم قدحا للأردنّ الشّقيق. وكذلك الحال بالنّسبة لعشرات آلاف الشّهداء والجرحى والأسرى، ومئات آلاف المشرّدين من ديارهم، ومآسي الملايين الذين وقعوا تحت احتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، فلم يكونوا في الحسبان أيضا!

وتتكرّر المأساة عند انقلاب حركة حماس في قطاع غزّة منذ العام 2007، وفصل القطاع عن الضّفّة الغربيّة، وإقامة "إمارة غزّة الإسلاميّة" بقرار من القيادة العالميّة لحركة الإخوان المسلمين، رغم أنّ قطاع غزّة "المحرّر" محاصر برّا وبحرا وجوّا، ومساحته أقلّ من 400 كيلومتر يسكنه حوالي مليون فلسطينيّ، أي أكثر المناطق في العالم اكتظاظا بالسّكّان، ولا يوجد فيه مقوّمات إقتصاديّة توفّر العيش الكريم لمواطنيه، وبغضّ النّظر عن الخلافات بين حركتي فتح وحماس إلّا أنّ الضّحيّة هو فلسطين الوطن، والشّعب الفلسطينيّ.

ووجه المقارنة بين بيان "الأحزاب الوطنيّة" بعد هزيمة حزيران 1967، وموقف حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزّة، فإنّ حماس "المنتصرة والمسيطرة على قطاع غزّة" لم تأخذ بعين الإعتبار معاناة مليوني مواطن في القطاع، حتّى بات غالبيّتهم يعانون من البطالة والفقر المدقع، ونقص في الأدويّة والرّعاية الصّحّيّة، ولولا المعونات الغذائيّة التي تقدّمها منظّمات وجهات دوليّة لفتك الجوع والأمراض بمئات آلاف المواطنين، ومن المحزن أن تصدر بيانات تفيد بأن حوالي 41% من تلاميذ المدارس في قطاع غزّة يذهبون إلى مدارسهم دون أن يتناولوا وجبة الفطور لعدم وجود ما يأكلونه في بيوتهم. ويحضرني هنا ما قاله المرحوم علي صبري أحد رموز اليسار النّاصريّ في مصر، والذي اعتقله مع آخرين عام 1917 نظام السّادات فيما سمّاه ثورة التّصحيح، وأفرجوا عنه بعد عشر سنوات قبل وفاته بعدّة أشهر لإصابته بالسّرطان؛ ليموت خارج السّجن، وأجاب على سؤال من أحد الصّحفيّين وهو: هل ستلغون اتّفاقات كامب ديفيد إذا عدتم إلى الحكم؟ فردّ بأنّ هذا السّؤال لا يجاب عليه بنعم أو لا، لأنّ السّادات بسياسة الإنفتاح دمّر الإقتصاد المصري، وأعطى مثالا على ذلك، بأنّ 70% من الشّعب المصريّ يعيشون على خبز الذّرة، وأنّ مزارع الدّواجن تعيش على الذّرة المستوردة من أمريكا، بعد تدمير القطاع الزّراعي في مصر، وأوّل ما يهمّ المواطن هو أن يجد ما يأكله وما يطعمه لأطفاله، وعندما نوفّر موارد رزق للمواطن سنتّخذ قراراتنا السّياسيّة. والحديث يطول.

ناصر أبو حميد، الاسم العلم، المناضل البطل، المقاوم العنيد، الفلسطيني الأصيل، الأسير الثائر في قيوده، والمنتفض في أغلاله، الشامخ في الزنازين، والحر خلف القضبان، صاحب الصوت الهادر من وراء الجدران، والإرادة الصلبة رغم أنف السجان، القابض على الجرح، الواثق رغم المرض، الصامت رغم الألم، شقيق الأسرى وأخو الشهداء، ابن الأم الصابرة والعائلة الصامدة، يترجل عن جواده ويرحل، ويستجيب لنداء ربه ويعجل، غير آبهٍ على عمر في السجون مضى، وغير آسفٍ على شبابٍ خلف القضبان ذوى، فالشهادة كانت أمنيته، ورضا الله كانت غايته، كما كانت المقاومة دربه، والنصر حلمه، والتحرير والعودة أمله.

ناصر أبو حميد أحد مؤسسي كتائب سعداء الأقصى التابعة لحركة فتح ليس كأي أسير فلسطيني آخر، فهو محكوم بسبعة مؤبدات وخمسين سنة، قضى منها متفرقة أكثر من خمس وعشرين سنة، وهو ابن عائلة قدمت خمسة من أبنائها أسرى، حكم عليهم العدو بالسجن مؤبدات كثيرة، وقد ترك في السجون الإسرائيلية خلفه أربعة منهم، يتنافسون على المقاومة، ويصرون على النصر، وكان خامس قد سبقهم شهيداً، وأمهم التي بقيت كالجبل الأشم بعد وفاة أبيهم صامدة صمود الرجال، صلبة القلب كصخرة، شامخة الرأس عالية الصوت موفورة الكرامة، تعاني وتتألم لفراق أحببتها، لكنها لا ترُي العدو ضعفها ولا تشعره أبداً أنه كسرها، بل تعده بالحرية والتحرير، وتهدده بالفناء وتتوعده بالرحيل، وهو يخشاها ويتجنب مواجهتها ويبتعد عنها ولا يصطدم معها، ليقينه أنها أقوى منه، وأشد ثباتاً ورسوخاً من جيشه وكل مستوطنيه.

أيا أيها الأسير الشهيد ناصر، ليس مثل أمك تضحية وصبراً وعطاء وجلداً أمُ، فقد فاقت الخنساء صبراً وأم نضال بذلاً، وأنتم فلذات أكبادها الخمسة، تذوي أعماركم في السجون أمامها، ويضيق عليكم السجان جدرانها، وهي لا تستطيع استنقاذكم، ولا تتمكن من التخفيف عنكم، ولكن قامتها لا تنحني، وإرادتها لا تنكسر، وكبرياؤها لا يخضع، ولا تُسر العدوَ بشكوى أو أنين، ولا تفرحه بندمٍ أو حنين، وهي على يقين أنها ستلقاه وستجتمع به، وإن كان إلى الجنة فرطها فهي معه وإلى جواره أبداً.

سلامُ الله عليك ناصر وقد ارتقت روحك وسمت، وأصبحت في حواصل طيرٍ خضرٍ في قناديل تحت عرش الرحمن، فارتاحت روحك وزكت نفسك، والتأم جرحك وشفيت من مرضك، ولبست ثوب الطهر وستر الرحمن، وازدانت السماء لاستقبالك، وخفت ملائكة الرحمن للقائك، وفتحت أبواب الجنان لك وأمثالك، فسلام الله عليك ناصر في الخالدين، سلام الله عليك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وشهداء أمتنا الأخيار وأبطالنا الأبرار، نستودعك الله عز وجل وهو الذي لا تضيع عنده الودائع، ونسأله سبحانه وتعالى أن يريك ما تقر به عينك، ويطمئن إليه قلبك، وتسعد به نفسك، وترتاح إليه روحك.

نحن نعلم يا ناصر أنك كنت على موعدٍ مع الحرية، وأنك كنت تتهيأ قريباً لملاقاة أهلك ومصافحة أحبتك وتقبيل يد أمك، وأن هذا الأمل ما مات في قلبك وما خبا، وما تسلل الشك إلى قلبك وما عرف غير اليقين بالفرج، فقد أقسمت المقاومة على أن ترغم العدو على أن يطلق سراحكم، ويفك أسركم، وأن تعودوا إلى بيوتكم أحراراً، وإلى بلداتكم وقراكم أعزةً أبطالاً، وهي على ذلك بإذن الله عز وجل قادرة، وستفي بوعدها وتحقق هدفها، وسينعم إخوانك ومن تركت خلفك في السجون والمعتقلات بالحرية، وسيرفلون بثياب العزة والكرامة، وستكون –وأنت في كنف الرحمن- بحريتهم سعيداً، وبلقاء أهلهم والعودة إلى بيوتهم فرحاً مسروراً.

إنَّا على فراقك يا ناصر لمحزونون، وإن قلوبنا عليك موجوعة ونفوسنا مفجوعة، وعيوننا تبكيك دمعاً وألماً، فقد عانيت وتألمت، وضحيت وأعطيت، وبذلت ثلثي عمرك في السجون والمعتقلات، ونَحَتَ المرضُ جسدك وأوهى السرطان قوتك، وأوجعك ثقله وآلمك، وأضناك البعد وأسهدك الحرمان، وجَوَى قلبَك الشوقُ ورقه الحنينُ، وقد كنا عاجزين عن نصرتك، وغير قادرين على نجدتك، ولا نستطيع تخفيف آلامك أو وقف معاناتك، وكنا نتحسر ونحن نرى السجان يضيق على معصميك القيود، ويضع في رجليك الأغلال، ويقيدك وأنت المريض إلى أسرة المستشفيات، تعاني ألماً فوق المرض، وتشكو وجعاً أَمَضَّ من السرطان.

نم قرير العين ناصر، واهنأ نفساً وطب روحاً، واعلُ صرحاً واسمُ نجماً، واعلم أن ثرى فلسطين سيشرف بك، وستوارى فيه رغم أنف العدو وصلفه، وأنه وإن احتجز جثمانك ومنع تشييعك، فإنه سيذل وسيخضع، وستعود إلينا فوق أعناق الرجال بطلاً نرثيك، ومقاوماً باقياً، ومقاتلاً أبداً، وستسير فلسطين وشعبها في الوطن والشتات في جنازاتك المهيبة، ومسيراتك اللجبة، حتى يلعن الاحتلال نفسه حسرةً، ويعض أصابعه ندماً.

وسوم: العدد 1012