مهنتنا مهنة الرسُل

أحمد الله أنني كنت وما أزال معلماً ،

كنت بين الفينة والأخرى أفكر في ترك مهنة التعليم لِمَا يصاحبها من تعب ومشقة وراتب يكاد يفي بالمطالب الرئيسية للحياة ليس غير، ولأن المدرس يبقى حياتَه كلها مُعَلـِّماً.

بيد أني كلما عزمت على ذلك عطفني عليها حوادث عارضة تدل على مكانة المعلم بين تلاميذه ، وتنبهه إلى رسالته السامية، ولعلي أذكر بعضها مما علق في ذاكرتي السبعينية.

  • آخر عهدي في التعليم في سورية كان العام الدراسي 1977- 1978 في إعدادية الأبزمو ، يقصدها أبناؤها وأبناء القرى حولها (السحارة وتقاد ) وغيرهما من القرى. وتمر أربعون سنة كاملة حين مررت على هذه الأماكن بعد اهتمامي بالدعوة في المدن والقرى والأرياف، فأراني عام 2018 أجلس في الأبزمو بين رجال جاوزوا الخامسة والخمسين وكلهم أبٌ أو جَدٌّ يحتفون بأستاذهم عثمان الذي زارهم، يحملون له كما يحمل هو أيضاً لهم الحب والود فقد كانوا وروداً في حديقته قبل اربعة عقود، وتستمر الصلة بيننا إلى الآن ، حفظهم الله تعالى ، ونفع بهم.
  • في الجامع الملك فيصل الكبير في الشارقة كنتُ أصلي سُنّة المغرب القبلية وحولي من الجانبين فراغ كبير ، يلتصق بي شاب يصلي السُّنَّة كذلك، نعم يلتصق بي ،فأقول في نفسي : ما اثقل ظله ، وأبتعد عنه قليلاً ، فيدنو منّي ، فأعلم أنه يقصد ذلك ، ولا أدري السبب ، وكيف أدري وأنا في الصلاة لم أسأله، ولم أره ابتداءً . سلمتُ ونظرت إليه ، شابٌّ وسيمٌ ، ذو لحية مرتبة ووجه مشرق ،فلما انتهى من صلاته، نظرَ إليّ مبتسماً ، وقام يقبل يدي ويعانقني ، فوجئت بذلك ..لم أسأله فقد سبقني إلى الحديث :
  • كيف أعرفك يا ولدي، من أنت؟
  • أحد تلاميذك في ثانوية دبي ، أما عرفتني؟
  • كيف أعرفك وأنت شاب في الخامسة والعشرين على الأقل وطلابي لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، وفي هذه المرحلة تتغير حال الفتى من الفتوّة إلى الرجولة.
  • عرفني بنفسه وأنه كان يذكرني دائماً فقد كنت – كما زعم – أباه الروحي الذي تعلم منه الحياة وعرف ربه، فالتزم دينه وسار على دربه.

دمعت عيناي ، وخفق فؤادي واحتضنه قلبي وضمته يداي وصدري من جديد ...

  • وفي أبيار علي ، جنوب المدينة المنوّرة وقد أحرمت يمر قربي شاب وزوجته وطفلاهما ، وقد أحرما يريدان العمرة كذلك، يمشي خطوات أمامي ، ثم ينظر إليّ ويبتسم ،ويعود يحتضنني، ويقبلني :

– استاذ عثمان – هنا! ، ما أورع اللقاء الفجائي يا أستاذي، وما أجمله ! منذ تركت ثانوية دبي لم أرك ، لكنك في قلبي ووجداني .

  • لا أكتم القارئ أنني فرحت لهذا اللقاء دون أن أتذكر الشاب ، وأنى لي أن أتذكر واحداً من مئات الطلبة الذي مروا في حياتي هذه السنين التي تجاوزت الثلاثة عشر عاماً في هذه الثانوية ، وكنت أدرِّس فيها على مر السنين الصفّين الحادي عشر والثاني عشر.ثم هي بعيدة عنّي زهاء عشر سنين.
  • قال أما أنا فلا أنسى من أخذ بيدي إلى الله وهداني به إليه .
  • قال هذا فارتجف جسمي ، وبكيت ، أجل بكيت وأسبلت عيناي الدمع غزيراً ،، يا ألله لك الحمد ولك الشكر على هبة الإيمان والدعوة إليك يا سيدي ، أرى كرمك ولطفك في الدنيا ، يدفعني أن أستمر على هذا النهج لألقاك يا سيدي وأنت – بفضلك – راض عني . لك الحمد والشكر يا مولاي ، ثبتني على الحق وعلى الصراط المستقيم.

هذا غيضٌ من فيضِ مهنة الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم. ولو أردت أن أستفيض لملأت كتاباً ، ولا شك أن إخواني الاساتذة مرَّ بهم مثل هذا وأكثر، فنحن جميعاً على هذا الدرب القويم .

ولعل بعضهم حين يقرأ خاطرتي هذه يسارع إلى ذاكرته الغنية بهذه المواقف ، لينثر بعض ما في كنانته.

أخوكم عثمان.

وسوم: العدد 1012