«القدس العربي» تسجل شهادات مروعة في المنطقة المكلومة شمال سوريا… والحصيلة أكثر من 3500 قتيل

دمشق ـ «القدس العربي» : انتهت عمليات الإنقاذ والبحث عن ناجين، وأعلن الدفاع المدني السوري في المنطقة الخاضعة لسيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، عن الانتقال إلى مرحلة انتشال جثث الضحايا من تحت الأنقاض، بعدما تخطت حصيلة الزلزال نحو 3500 قتيل و3000 مصاب، في ريفي إدلب وحلب، وسط خيبات ومآسٍ نتيجة تجاهل المجتمع الدولي للمأساة الإنسانية التي خلفها الزلزال في المنطقة المنكوبة.

استنفدت فرق الإنقاذ كل الطاقات المتاحة في عمليات البحث والإنقاذ على مدار أسبوع من وقوع الزلزال المدمر، لكن في تلك المناطق، ثمة رابط إنساني عميق، يربط بين رجال الإنقاذ ومن دفن تحت الركام رغماً عنه وهو على قيد الحياة.

شهادات منقذين

المتطوع معن مطروق أحد عناصر الدفاع المدني من المتطوعين والمنقذين الذي استجاب لعمليات الإنقاذ في ريف إدلب يروي لـ «القدس العربي» أقسى المشاهد التي واجهها خلال عمليات الإنقاذ حيث قال: في صورة لا تغادر ذهني، طفل وحيد لوالديه، كان تحت الأنقاض، وهما ينتظران بفارغ الصبر تلك اللحظة التي يخرج فيها على قيد الحياة، ولكن وقت وصلنا له وتمكنا من إخراجه كان رأسه مفصولاً عن جسده، في منظر مأساوي وقاسٍ على قلوبنا نحن كمنقذين، سارعنا مباشرة لشرح الموقف للأقرباء، بحيث نبعد الوالدين عن المكان دون أن يشاهدا طفلهما بهذه الصورة، خصوصاً أن الأب كان يحاول أن يحمي طفله بجسده خوفاً عليه من الردم والركام.

وأضاف: استمددنا القوة من الإيمان بالقضاء والقدر، ووقت وضعنا هدفاً رئيسياً أمام أعيننا، بأن من تضرر هم أهلنا، وبذلك أنجزنا إنجازاً عظيماً بمساندة الأهالي وتقديمهم الدعم رغم أن أطفالهم وعائلاتهم تحت الأنقاض.

ويضيف خلال برهة من الاستراحة: كانت الأدوات التي استخدمها رجال الإنقاذ هي معدات مبدئية وبسيطة ضمن إمكانيات محدودة، أما الصعوبات التي واجهناها أثناء عمليات الإنقاذ فهي تأخير الآليات الثقيلة في اليوم الأول وحتى نصف اليوم الثاني، خاصة في مدينة حارم المدمرة كلياً، كانت الكارثة كبيرة جداً… عدد الأبنية المنهارة هائل، وعدد الضحايا كبير بالمقابل كان عدد المنقذين قليلاً جداً مقارنة بحجم الكارثة، توزعنا كل شخصين على بناء واحد، ولدينا آليتين ثقيلتين فقط، لم تثننا الصعوبات التي تواجهنا، وتم تجاوزها نوعاً ما، عندما تبرع الأهالي بآلياتهم لاستكمال عمليات الإنقاذ.

وعن الخذلان الدولي وأهم القصص الإنسانية، يقول: نحن من الأساس شعب مكلوم لا نملك إلا المعدات الأولية، ومن أهم القصص التي شهدناها، أننا وضعنا خطة سريعة تهدف إلى إنقاذ المصابين وهم على قيد الحياة بأكبر عدد ممكن وأسرع وقت ممكن في سباق مع الزمن. وأول فرحة انتابتنا رغم المأساة كانت عندما تمكنا من إنقاذ 11 شخصاً على قيد الحياة، من تحت ركام بناء واحد، شعرنا بلحظات فرح لا يمكن وصفها، ودعم نفسي لا يمكن اختصاره بكلمات، بعد أن وجدنا ثمرة تعبنا.

قصص تكللت بالنجاح

يقول معن: سطّر رجال الإنقاذ أروع قصص البطولة، بعد إخراج كل من كان تحت الأنقاض من ناجين ومصابين وضحايا بفترة زمنية قصيرة وبمعدات بسيطة، ومن أجملها على الإطلاق هو إنقاذ الأطفال على قيد الحياة، فتعود لنا البهجة والفرحة مع كل عملية تكللت بالنجاح وهو ما كان يزيدنا قوة وعزيمة بالعمل.

إيمان الشيخ متطوعة في الدفاع المدني، تروي لـ «القدس العربي» قرارها بمشاركة زملائها من الشبان في رفع الأنقاض وعمليات الإنقاذ، وتقول: «فجر يوم الاثنين أول ما شعرت بالزلزال حسيت بالخوف لكن ما تخيلت تكون الكارثة بهاد الحجم، خرجت بسرعة إلى أقرب مستشفى قريب مني، وأول ما شفت الحالات والضحايا أدركت أن الموضوع كبير والكارثة حقيقية».

خلال دقائق، دخل فريق من الدفاع المدني إلى المستشفى وأخبرونا بأن الوضع كارثي وان عدداً ضخماً من الأشلاء والضحايا بانتظارنا تحت الأنقاض، فضلاً عن أصوات الاستغاثة ومناشدات الأهالي. شعرت بضرورة وجودي في الميدان وأنا أحدث نفسي إن كنت قادرة فعلاعلى تحمل كل هذه الأهوال، وصلت إلى المنطقة، وانصدمت بحجم الدمار الهائل، كانت أصوات سيارات الإسعاف في كل مكان، أصوات صراخ النساء ومناشدات الرجال، في تلك اللحظة بدأت بالعمل دون وعي بدأت بانتشال الضحايا والجثث وعلى أمل إنقاذ ناجين من تحت الأنقاض» و«شوي شوي بدأنا بالتنسيق والتوزع بشكل أفضل وخرجنا من هول الصدمة الأولى”.

يرويها متطوعون في الدفاع المدني وأطباء وشهود عيان لأول مرة

وتضيف إيمان: «سط الظلام والمطر صوت الاستغاثة لا يذهب من ذهني، وأصعب المواقف التي شهدناها هي لما يطلبنا الأهالي، ويخبروننا عن وجود أحياء تحت أحد المباني، بينما نقوم نحن بمحاولة إنقاذ جيرانهم، شعورنا بالعجز أمام حجم الكارثة وكثرة الضحايا وقلة الإمكانيات شي لا يتحمله العقل البشري”.

لكن رغم كل ذلك، كان هناك حافز قوي للاستمرار، كنا نكثف الجهود ونحاول إخراج أكبر عدد ممكن من العالقين على أمل أن يكونوا مازالوا على قيد الحياة. ووجدت نفسي استمد القوة من زملائي، فكانوا الدافع الأول لأتابع عمليات الإنقاذ، وأضافت «ولما نشوف فرحة الأهالي وقت ننقذ أطفالهم كان أكبر دافع لنستمر في عملنا».

«40 من أقاربه ماتوا»

«تلقي عليه السلام، فيرد عليك بدون وعي، وكأنه فاقد للذاكرة» هكذا بدت حالة نايف المحمد من سكان قرية بسنيا في ريف حارم شمال غرب سوريا وهو يتلقى التعازي بوفاة أقاربه الذين قضوا في الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، فحالته ُيرثى لها بعد أن تكسرت قدماه وهو يهرب هلعاً من منزله الطابقي وسط خوف أصابه من هزات الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة. لم يدرِ نايف الشاب الثلاثيني والمُهجر من جنوب حلب منذ قرابة سبع سنوات، أنَ مصيبته أكبر من تردي حالته الصحية، فقد نسي مصيبته عندما علم أن أربعين شخصاً من أقاربه وأولاد عمومته ماتوا في قرية بسنيا التي تبعد عنه عشرات الأمتار، بعد أن دمرت القرية بشكل كامل والتي يقطنها 130 عائلة، فقد قضى فيها 400 شخص ومئات الجرحى، ليُصاب بحالة من الذهول والصدمة النفسية، التي تجاوزت إصابته الجسدية.

طبيب: قرية دمرت بالكامل

لم يستطع نايف الحديث، لكن «الحال يغني عن المقال» كما يقول المثل، وتحدث لنا جاره محمد خلوف وهو طبيب أطفال مهجر من قرية الرسم شرق إدلب، عن حالة نايف، وأنه في وضع نفسي لا يحُسد عليه بعد فقدان أغلب أقاربه، ويقول لـ «القدس العربي» واصفاً مشهد حدوث الزلزال: خرجنا مثل المجانين لا نعرف ماذا نفعل، فلم أستطع الركض من شدة الخوف وهول المشهد، وقلت لزوجتي (معاد نلحق نطلع) وفقدت الأمل بالحياة، لتهدأ موجة الزلزال، ونخرج من بيوتنا إلى العراء، ونشهد الطامة الكبرى، فلم تبق قرية اسمها بسنيا، وكأنها مُسحت عن الخريطة.

«فقدنا قرابة 100 من أقاربنا في المنطقة التي هجرنا منها منذ سبع سنين»

يتابع خلوف وهو يحبس أنفاسه بحرقة قلب وعيون تلمع من الحزن على ما حدث: «ثلاثون بناية مؤلفة من أربعة طوابق أصبحت على الأرض وتهدمت على رؤوس ساكنيها، لم أستطع تحمل هول المشهد، وهربت مع عائلتي إلى مخيم لأقاربنا قرب القرية، لنأوي إليه، وكأن قدر السوريين أن يعيشوا في المخيمات». وقد وصف جار نايف الثالث فواز العبد هو أيضاً ناجٍ، بأن ما حدث في قرية بسنيا أنه أشبه بالحلم، يقول «كنا قبل يوم نسهر ونتسامر مع أقاربنا في القرية، فجأة ينتهي كل شيء و يتوقف الزمن».

معبر باب السلامة الحدودي مع سوريا كان مغلق، لم تدخل المساعدات الإنسانية أو المعدات التي كان يعلن عنها، وسيارات الإسعاف وحدها من يسمح لها بالدخول وهي تحمل جثث وبقايا أبناء المنطقة القادمين من تركيا. وغداة هذه المأساة شهدت المنطقة المنكوبة حملة ضخمة لمساعدة فرق الدفاع المدني، فترى الشباب والنساء والأطفال، كل يعمل من مكانه، وترى المتطوعين بالآلاف هبوا للمساعدة. يقول عامر سليم من سكان مدينة سرمدا لـ «القدس العربي» انطلقنا لمساعدة الدفاع المدني في انتشال العالقين تحت الأنقاض، فرغم المآسي التي نشاهدها والتي تفطر قلوبنا، إلا أن وقوف الناس مع بعضهم وكأنهم خلية نحل في أوج عطائها ينسينا المصاب، فلم أر السوريين بهذا الجمال والمحبة من قبل.

كارثة جنديرس

وإلى جنديرس غرب حلب، كانت الكارثة أكبر، فبعد أن انتقل أحمد صطيف من قرية بسنيا وترك فيها سبعة من أفراد عائلته، للسكن في جنديرس بداعي العمل، نجا هو، بينما مات أفراد عائلته السبعة في قرية بسنيا. يقول أحمد وكلّه عزيمة وهدوء: نحن لا نعلم ربما يكمن الخير في الشر، وربما شاءت الأقدار أن تنقسم عائلتنا بين جنديرس وبسنيا لكيلا يموت الجميع، فمصاب سوريا كبير ونحن جزء من الناس ومصابنا يهون أمامهم.

من جنديرس أيضاً يقول شاكر الجبل لـ «القدس العربي»: لم أصب أنا وعائلتي بأذى، فأنا أعيش في منزل متطرف غير طابقي خارج مدينة جنديرس، ولكن ومع ظهور خيوط الشمس الأولى ذهبت إلى المدينة، للاطمئنان على إخوتي وأقاربي، فوجدت أن أخي فقد زوجته وأصيب أولاده الأربعة بجروح وتدمرت الأبنية التي يقطنونها، والمصيبة الأكبر أننا فقدنا قرابة 100 شخص من أقاربنا وأبناء منطقتنا التي هجرنا منها منذ سبع سنين، ونحن حالياً نعمل على إيواء من بقي حياً في مكان متطرف في جنديرس بعد أن قمنا بتأمين بعض الخيم والمواد الإغاثية التي تم توزيها من المتبرعين والفرق التطوعية، فقد وصلوا لـ30 عائلة.

لم يكن حال ياسر محمد الأحمد وهو مهجر من منطقة الحص إلى مدينة الأتارب في ريف حلب بعد أن وجد منزلاً يؤويه بعد رحلة تهجير مريرة. يقول أحد أقارب ياسر بأنه نجا بأعجوبة من الموت فقد تكسرت جمجمته وقدماه وهناك رضوض كثيرة في جسده، لكن للأسف لم تنجُ عائلته، فخسر زوجته وأطفاله الثلاثة وتدمر منزله بالكامل، وهو يقطن مع أحد أقاربه لتلقي العلاج بعد أن فقد كل ما يملك.

لم يقف محمد العبد الله القاطن في أحد مخيمات منطقة سرمدا مكتوف اليدين من الكارثة التي حلت بالشمال السوري، فعمل على تشكيل فريق من أبناء المخيم، وتجهيز عدد من المعاول والكريكات «وهي مواد بدائية» لمساعدة فرق الدفاع المدني في انتشال الضحايا. يقول لـ«القدس العربي» جهَزنا المعدات وانقسمنا إلى قسمين، قسم ذهب إلى منطقة ترمانين شمال إدلب، وقسم انطلق إلى منطقة جنديرس شمال غرب حلب، قدمنا ما نستطيع رغم ضعف الإمكانيات، ورغم غياب المساعدات الدولية والفرق المتخصصة برفع الأنقاض، ولكن الدفاع المدني يعمل فوق طاقته، وواجب علينا مساعدته».

«تبرع بالسلة الغذائية»

وأكَد أحمد الهزاني وهو يساعد فرق الدفاع المدني بإسعاف الجرحى أن هناك عشوائية وعدم معرفة بطرق الإنقاذ الصحيحة، فقد توفي الكثير من المصابين تحت الأنقاض بسبب عدم خبرة المتطوعين في إنقاذ الناس، مما زاد من عدد الوفيات، كما أعرب أحمد عن سعادته عندما شاهد رجلاً خرج من تحت الأنقاض وقال بأعلى صوته «أنا إلي 30 ألف دولار دين عالناس، مسامحهم كلهم» وسط تفاني الناس وخصوصاً أهل المخيمات، على تقديم شتى أنواع المساعدات، حتى أن بعضهم تبرع بالسلة الغذائية التي استلمها كمساعدة إنسانية قبل أيام، وبعض الإسفنجات التي يستخدمها في خيمته.

وسوم: العدد 1019