كساد الجد ورواج الهزل في وسائل التواصل الاجتماعي

إن المتأمل فيما يتعاطه الناس عندنا وعند غيرنا  في تواصلهم عبر الشبكة العنكبوتية، يلاحظ غلبة إقبالهم على المواد الهازلة ، وإعراضهم عن المواد الجادة ، ولا يمكن والحالة هذه ألا يثير ذلك في نفسه تساؤلا عن الأسباب الكامنة وراء ذلك .

ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية عموما ميالة إلى الهزل مع اختلاف بين الناس في تعاطيه  له حسب اختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وأمزجتهم التي ربما تؤثر فيها  طبيعة المناطق الجغرافية التي يوجدون فيها على سطح المعمور حرارة أو برودة، خصبا أو محلا كما يقول البعض .

وقد يختلف تعاطي الهزل داخل البلد الواحد خصوصا إذا تنوعت خريطته الطبيعية والبشرية ، فيكون الناس في بعض الجهات أكثر هزلا من غيرهم حتى أنهم يعرفون بذلك ، ويوصفون ويتميزون به ، وربما كان تعاطي الهزل مما تتنافس فيه  مختلف الجهات في البلد الواحد ، بل تتنافس فيه الأقطار أيضا ، ويعتبر ذلك استحسانا له ، كما أنه يعتبر من المؤشرات الدالة على  سيادة المرح باعتباره شيئا إيجابيا ومحمودا .

ومعلوم أن الهدف من الهزل هو الضحك الذي قد يكون بريئا، وقد يكون سخرية من الغير وهو الغالب على تعاطي الناس الهزل . والضحك عند التأمل عبارة عن آلية من آليات الإشفاق على النفس من أن توضع في مواقف محرجة تمس كرامتها ، لهذا يكثر ضحك البعض من وقوع غيرهم في مثل تلك المواقف المحرجة تعبيرا عن خوفهم من الوقوع فيها ، وعلى  قدر استغراق الإنسان في الضحك والمبالغة فيه، تكون شدة خوفه من أن يكون أضحوكة عند غيره  ، ويفضل أن يكون دائما ضُحَكة  يضحك  من غيره ولا يضحك منه ، لأن خوفه من الوقوع فيما يجعل غيره يضحك منه يكون خوفا مزمنا ،والغالب أن أكثر الناس تعاطيا للهزل المضحك  عبر وسائل التواصل الاجتماعي هم من لديهم زمانة الخوف من  الوقوع في المواقف المحرجة .

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على أوسع نطاق، أصبح التواصل بين الناس في كل المعمور متيسرا ، وهو ما جعلهم يدمنون على تواصل أغلبه يدور حول مشاهد الهزل والعبث طلبا للتفكه والضحك . ومن أساليب الهزل الساخر ما يعرف "بالمقالب "حيث تنصب الفخاخ لبعض الناس، ويصورون وهم غافلون ليسخر من بعض أحوالهم كالخوف أو الطمع ، أوالغضب .... من كل ما  يعد مثلبا أو منقصة بالنسبة لكل ثقافة ولكل عرف  ، وتنتشر هذه المقالب انتشارا واسعا بين الناس في وسائل التواصل الاجتماعي  طلبا للضحك الذي لا يكون دائما مجرد ضحك بريء بل يكون غالبا كما سبق ذكره عبارة عن آلية دفاع إشفاقا على النفس ، ولدفع الشعور بالخوف من الوقوع في مثل تلك المقالب التي تفضح المخبوء المكروه الكشف عنه أمام الناس.

وغالبا ما تنتهي تلك المقالب بالاعتذار لمن نصبت لهم شراكها  من الضحايا مع إشعارهم بتصوير مشاهدها  بدعوى مجرد التفكه  بكل براءة وحسن نية ، وتكون ردة فعلهم إما الانخراط بدورهم  في الضحك وقد يكون ضحكا  متصنعا من أجل التعبير عما يسمى بالروح الرياضية ، وفي ذلك تنفيسا على النفس تبرئتها  مما ظن بها وكشف عنه المقلب ، وإما السخط والغضب إلى حد استعمال العنف ضد من أوقع بهم ليكون محل سخرية واستهزاء.

ومع ازدياد الإقبال على الهزل عبر وسائل التواصل الاجتماعي يقل الإقبال على الجد أو لنقل إن الشريحة المنخرطة في تعاطي المواد الهازلة سواء كانت نكتا أو فيديوهات مصورة أو أشرطة مسموعة ،هي الشريحة العريضة بينما تكون الشريحة المتعاطية للجد جد منحصرة في قلة قليلة ، ومما يؤكد ذلك هو الأرقام المسجلة والمعبرة عن الولوج إلى ما يكون هزلا  في وسائل التواصل ، وما يكون جدا ، فضلا عن علامات الاستحسان أو التعليقات المدونة .

ونظرا لرواج تسويق  المواد الهازلة  مقابل كساد المواد الجادة ،انتشر الهزل على نطاق واسع ، وانتقل حتى إلى أماكن من المفروض أنها خاصة بالجد مثل الفصول الدراسية على سبيل المثال حيث صارت الناشئة المتعلمة مدمنة على الهزل في حصص التحصيل الدراسي بل ربما انشغلت عنه هذا باستعمال الهواتف الخلوية ، وتبادل المواد الهازلة في الوقت الذي يكون فيه المدرسون منهمكين في شرح الدروس أو إنجاز التمارين . وحال الناشئة المتعلمة في الفصول الدراسية مع المشاهد الهازلة لا يختلف عن حالهم في بيوتهم أو في الأماكن العمومية إذ لا تكاد تظهر لقطة هازلة حتى تنتشر بينهم على أوسع نطاق ، ويحدث ذلك على حساب المطلوب منهم في فصولهم الدراسية ، أوفي بيوتهم من انشغال بدروسهم، وقيام بواجباتهم الدراسية المنزلية .

والمصيبة أن مروجي المواد الهازلة يطلبون ممن يستهلكونها  ما صار يعرف "بلايك " وهو عبارة  عن استحسان تلك المواد طلبا للمزيد منها ،علما بأن مسوقيها يرتزقون بذلك ، ويحصلون على مقابل من طرف الجهات التي تعنيها كثرة الاستهلاك ، وهي الأخرى تجني من وراء ذلك أرباحا طائلة .

وأخيرا نحذر من الإدمان على المواد الهازلة التي أصبحت تؤثر في الطبيعة البشرية سلبا ، وتنال من استقامتها على القيم  الأخلاقية السامية التي صارت هي الأخرى محل تندر وسخرية واستهزاء، لأن كل شيء صار يمر عبر الهزل مقابل انحسار الجد بشكل يدعو إلى القلق .

وسوم: العدد 1020