«الكلاَّوي» و«دندنة» السِّياسة

د. محمد عناد سليمان

«الكلاَّوي» و«دندنة» السِّياسة

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

كنَّا في غابر الزَّمان، أيَّام الشَّقاء والتَّعاسة، أيَّام الظُّلم والقهر والطُّغيان المخفيِّة، يتداعى أبناء الحيِّ من فئة عمريَّة متقاربة إلى ملعب كرة «القدم» المشهور في الحيِّ، وهو عبارة عن مساحة غير قليلة من الأرض لصاحبها «أبو خالد عجرف»، من أقاربنا وأخوالنا، كان قد تبرع بها مؤقتًا ليمرح أبناء الحيِّ، ويقضون أوقات فراغهم بممارسة هذه الهواية.

يتسابق الصِّبيان إلى «الملعب»، يقودهم حبُّ الفوز، وإظهار التَّأثير على الآخر، وكثيرٌ منهم من يأتي حافيَ القدمين، وهذا حالنا عند الدَّخول إلى أرض المعركة، فمعظم الوافدين من أبناء «القنيطرة» في تجمعات الشَّتات حيث حُرموا من أدنى مقوِّمات الحياة، واتَّخذ منهم أصحاب أولي الشَّأن والأمر مطيَّة ليستمروا في حكمهم حتى السَّاعة.

يدخلون أرض «الملعب»، فتبدأ عملية التَّنظيف المعتادَة، فأرضه ليست كما يتبادر إلى ذهن السَّامع؛ بل هي أرض قاحلة، شبه صخريَّة، في كلِّ مرَّة يلتقطون «سيارة»أحجار وحصى منها، ولـمَّا ينته التَّنظيف والمسح، وأوَّل ما يجتمع الصِّبيان تتجلَّى صورة القوَّة والضَّعف في أبهى «ديموقراطيَّة» عبر «إيديولوجيَّة» واضحة لا لبس فيها، ويخرجونها عبر خطَين واضحين لا يتجرَّأَنْ أحدٌّ منهم على الطَّعن فيها، فيقولُ «اللَّعيب» الماهر صاحب الفضل بالفوز متمخترًا ومفتخرًا: «مَن معي»؟ في إشارة واضحة على اختيار أعضاء فريقه، وقد تقترب من «الدِّيكتاتوريَّة» في بعض أوجهها، حيث لا منازع، ولا معترض عليه، وهو ما يمثِّله الخطُّ الأوَّل.

أمَّا الخطُّ الثَّاني، فيتمثَّل عندما ينبري أحدهم قائلا: «أنا مع مين»!! في أنقى صورة للضَّعف، واليأس، وغالبًا ما يكون من المتسلِّقين، والانتهازيّين الذين يريدون أن يُثبتوا لأنفسهم أنَّهم من أصحاب الخبرة في مجال كرة «القدم»، حتى وإن كان سببًا في الخسارة اللازمة والدَّائمة.

 ينطلق الفريقان، كلٌّ منهما في مكانه، بين الحصى والتُّراب، حفاة الأقدام، يتقاذفون الكُرة بين أخذٍ وردٍّ، ولا ننسى ما كنَّا نسمِّيه «سَنْتَر جِيْب» وهم صغار الأطفال، أو بعض من لم يكن هناك متَّسع لإدخاله ضمن تشكيلة الفريق، تنحصر مهمتهم في جلب «الكرُة» من خلف «المرمى».

في هذه اللَّحظات الطَّيبة والجميلة يقترب من الملعب شابٌّ تنبعث من وجهه سمات القوَّة و«الفرعنة»، وبيده عنوان «الدِّيكتاتوريَّة» بأمِّها وأبيها، حاملاً ما نسمِّيه«القَنْوَة»، وهي عبارة عن عصا من «الخيزران»، مدبَّبَة الرَّأس بـ«دبابيس»، ومزركشة بشيء من النَّحت بالنَّار، يستخدمها في مآرب شتَّى، من أجملها، دخوله «العرس» ملوحًا بها، شريطة أن يُمسك «الدَّبكة» على الأوَّل وليس على «الجحشة»، أي أخر «الدَّبكة»، وهو مصطلح معروف لدى أهلنا. فإن لم يكن على الرَّأس أخرج «المجوز»، أو«القصِّيبة» التي يحملها على جنبه أينما حلَّ وارتحل، وبدأت ترانيمه تصدح في «العرس»، وما على «الشَّاعر» إلا أن يجيب على عزفه، ابتداء من «مجاريح.. يا أهل الهوى مجاريح»، في محاولة واضحة لجذب انتباه «الصَّبايا» من بنات الحيّ، وليس انتهاء بـ «البنت اللي جنَّنَت عقلي...أهواها لو أنها حوريَّة».

ترانيم يدندن بها في أرض البلدة من أقصاها إلى أقصاها في رعيه لـ«لغنم»، وهشُّه لها بـ«القَنوة»، وهو مأرب آخر من مآربه فيها، لكن ما يهمُّنا من مآربه في لعبتنا المصونة، هو ما تمثِّله من رمزٍ للقوةَّ، ورمزٍ للكبرياء عند اقترابه من أرض «الملعب»، وهو ليس من أهله، ولا صاحب الخبرة فيه، لكنَّه من أبناء الحيّ والوطن، ولا بدَّ أن يدلي بدلوه في أيِّ شأن شبابيّ، وإن لم يكن ذا خبرة فيه، وما إن يدخل أرض «الملعب»، حتى تتسابق أعين الجميع للنَّظر إليه، وكأنَّه المهدي المنتظر، وتسارع «الكرة» إلى شقِّ طريقها من دون «مقاوم»، أو «ممانع»، فالكلُّ يتحاشاه خوفًا من شرِّه المستطير.

ينظر «الكلاوي» يمنةً ويُسرة في لمحةِ رعايةٍ لأبناء الأمَّة، ويطلق عبارته المشهورة: «يا لعِّيب يا خرِّيب»، ولا شك أنَّ «الدّيمقراطيَّة» الموروثة حينها في عقولنا أن نختار مجبرين الخيار الأوَّل، لنكمل شيئًا من السَّعادة الطُّفوليَّة التي جئنا من أجلها، وكلٌّ منَّا يتسابق إلى منحه «الكرة» من حين إلى آخر، على اعتباره مصدر القوَّة، وإن لم يكن مصدر التَّقنيًّة، والتَّفنن في اللعب.

وما أشبه حاضرنا السِّياسيّ بماضينا الثَّقافي، فـ«الكلاوي» في نظام الإجرام ما زال موجودًا، وإن لم يكن من أهله، وكذلك في المعارضة وإن لم يكن من مرتاديها، فيكفي أن تكون لدى أحدهما مصادر القوَّة الدَّاعمة، وإن كانت على حساب سعادة أبناء الوطن، أو هدمه، وما يزال «المطبِّلون» و«المزمِّرون» لكلٍّ منهما وافرًا كثيرًا، عملا بالمثل القائل: «اللي بيتجوَّز أمِّي بيصير عمِّي»، والمتسلِّقون المنتفعون متلذِّذين بتناحر الأطراف، متناسين أنَّ «الكلاوي» لم تسعه نفسه، ومات بـ«جلطة دماغيَّة»، لكنَّ«القنوة» ما زالت موجودة، يتوارثها الأبناء، و«المجوز» و«القصّيبة» كذلك تتناقلها الأيادي، على أحسن الشعَّار كـ«أبو سلطان»، أمَّا عبارته المشهورة فأصبحت عنوانًا لهدم الوطن، وإبادة أهله من كلا الطَّرفين: «يا لعِّيب يا خرِّيب».