أمراضٌ عربية لا تعالجها تسوياتٌ دولية

صبحي غندور*

[email protected]

 يشهد العالم في هذه الفترة تحركاً دبلوماسياً كبيراً بشأن الملفين السوري والإيراني، وصل إلى درجة تفاهم الدول الكبرى مع إيران بشأن ملفها النووي، ثمّ الإعلان عن موعد لمؤتمر "جنيف 2" الخاص بالأزمة الدموية السورية.

والأمر لم يكن هكذا في الأشهر والسنوات القليلة الماضية. فالتباين في المواقف؛ بين موسكو وبكين من جهة، وبين واشنطن والاتحاد الأوروبي من جهةٍ أخرى، قد بلغ في السابق درجةً كبيرة من السخونة، خاصّةً في الموقف من تطوّرات الأوضاع السورية.

لكن يبدو من مسار التطوّرات والأحداث المتتالية منذ شهر سبتمبر الماضي أنّ إدارة أوباما جعلت من تفاهمها مع موسكو بشأن الأسلحة الكيمائية السورية مدخلاً لتنفيذ أجندةٍ وضعها الرئيس الأميركي لنفسه في العام 2009 حين تولّى مقاليد الرئاسة الأميركية، ولم يتمكّن في فترة حكمه الأولى من تنفيذها لاعتباراتٍ أميركية داخلية ولظروفٍ دولية لم تكن مشجّعة آنذاك على تحقيق تسويات.

فلقد تحدّث الرئيس أوباما في سنة حكمه الأولى في "البيت الأبيض" عن الحاجة لوقف السياسة الانفرادية الأميركية وللتخلّي عن أسلوب الحروب الاستباقية، وهما الأمران اللذان سارت عليهما إدارة جورج بوش الابن وأوصلا الولايات المتحدة والعالم إلى أزماتٍ سياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة. والبديل عن هذه السياسة كان الإقرار الأميركي بعصر التعدّدية القطبية، وبالسعي لتفاهمات مع القوى الكبرى الأخرى في العالم من أجل صياغة تسويات لما هو قائمٌ من أزماتٍ دولية تهدّد، في حال عدم تدارك تداعياتها، مصير العالم كلّه.

أيضاً، لم تجد الإدارة الأميركية الحالية أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية، بل نظرت إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّة حربٍ أخرى خاضتها في المنطقة.

لذلك حصلت هذه التفاهمات الأميركية/الروسية على كيفيّة التعامل مع الملفين السوري والإيراني دون أن يعني ذلك "يالطا" جديدة الآن، أو تفاهماتٍ على توزيع الحصص الجغرافية في العالم، كما حصل بين موسكو وواشنطن عقب الحرب العالمية الثانية. فهي الآن تفاهمات على مبدأ تحقيق تسويات سياسية وعلى منع استمرار الانحدار السلبي للملف السوري أو وصوله لحالة الحرب الإقليمية، وعلى جعل ذلك مستقبلاً كأساس للتوافق الدولي على قضايا أخرى عديدة منها الملف الفلسطيني ومصير الصراع العربي/الإسرائيلي.

فخيار التسويات هو المطلوب حالياً من قبل الأقطاب الدوليين حتّى لو كانت هناك "معارضات" لهذه التسويات على مستويات محلية وإقليمية، إذ بعد أكثر من عامين على المراهنات العسكرية في الأزمة السورية، وصلت هذه المراهنات إلى طريقٍ مسدود؛ فلم تنجح الحكومة السورية في إنهاء الأزمة من خلال حلّها الأمني الذي اعتمدته منذ بداية الحراك الشعبي السوري، كما لم تنجح بعض قوى المعارضة التي اختارت عسكرة هذا الحراك الشعبي من إسقاط النظام، بل أدّى خيارها هذا إلى تصعيد العنف وإلى فتح أبواب سوريا أمام قوًى مسلّحة متطرّفة أعلنت جهاراً ارتباطها بجماعات "القاعدة"، المنبوذة عربياً وإسلامياً ودولياً.

وأصبح مزيج الأمر الواقع على أرض سوريا هو صراعات محلية وإقليمية ودولية، وحالات من الحرب الأهلية والعنف السياسي والطائفي والإثني، إضافةً إلى وجود قوًى تُمارس الإرهاب الدموي وتهدّد وحدة الشعب السوري، وأصبحت كل سوريا أمام خطر الانزلاق إلى التشقّق وتفكيك الكيان والدولة والمجتمع. وهذا المزيج السيء من واقع الصراعات في سوريا واحتمالات نتائجها هو ما جعل نيرانها مصدر خطرٍ كبيرٍ أيضاً على الدول العربية المجاورة لسوريا، بل على كلّ دول المنطقة.

لكن هذه المخاطر كلّها تكن كافيةً وحدها إلى دفع الدول الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، للسعي الجاد لإنهاء الحرب السورية، ما لم تكن مصالح هذه الدول تتعرّض للضرر من جرّاء استمرار الأزمة، وهو ما يحصل الآن، حيث أصبح "الملف السوري" هو العقبة الأبرز أمام التفاهم المنشود بين واشنطن وحلف "الناتو" من جهة، وبين روسيا والصين من جهةٍ أخرى، تماماً كما أنّ الأزمة السورية قضية كبرى هامّة في ملف التفاوض الأميركي والغربي مع إيران.

إنّ الاتفاق الأميركي- الروسي بشأن الملفين الإيراني والسوري هو الذي سيحدّد مصير الأجندة التي وضعتها إدارة أوباما لنفسها في مسائل السياسية الخارجية والعلاقات مع القوى الكبرى في العالم، ولمستقبل أزمات دولية أخرى معنيّة بها واشنطن؛ كالأزمة مع كوريا الشمالية، والحرب في أفغانستان، والصراع العربي- الإسرائيلي.

أيضاً، فإنّ مخاوف إدارة أوباما من زيادة نفوذ جماعات التطرف المسلّحة في سوريا واحتمال انتشارها إلى دول مجاورة، لا يمكن إزالتها من دون تسوية سياسية للحرب الدائرة في سوريا وعلى سوريا. فكلّما زاد التصعيد العسكري كلّما ازداد نفوذ هذه الجماعات وتأثيراتها على مستقبل الأحداث في عموم المنطقة. ولا خيار الآن أمام إدارة أوباما سوى البحث عن تسوية سياسية، إذ ليست واشنطن بوارد التدخّل العسكري المباشر، ولا هي تثق بمصير السلاح الذي يمكن أن تقدّمه لبعض قوى المعارضة السورية.

وقد أدركت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية أنّها لم تنجح في توظيف الأحداث الداخلية في سوريا لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه بسياسات العزل والعقوبات في العقد الماضي من دفع دمشق إلى تغيير تحالفاتها الإقليمية والدولية، خاصّةً لجهة العلاقة القوية مع موسكو ومع طهران، وإلى وقف دعم المقاومة ضدّ إسرائيل في لبنان وفلسطين. فقد كانت سياسة واشنطن، لسنواتٍ عدّة ماضية، ساعيةً إلى تغيير سلوك الحكم في دمشق أكثر من اهتمامها بتغيير الحكم نفسه، إذ أنّ معيار المصالح الأميركية هو الأساس بغضِّ النّظر عن طبيعة الحكومات هنا أو هناك.

وستكون العقبة الكبرى أمام أي صيغة تسوية سياسية جادّة للأزمة السورية هي في جماعات التطرّف المسلّحة على المستوى الداخلي، وفي إسرائيل ومن لديها من عملاء أو حلفاء على المستويين الإقليمي والدولي. فلا مصلحة لهذين الطرفين في إنهاء الصراع الدموي في سوريا أو في التفاهمات الدولية مع إيران، وما قد تفرزه هذه المتغيرات الدولية من نتائج سلبية على كلٍّ منهما.

هل هذه التسويات الدولية الممكنة الآن لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها تعني "برداً وسلاماً" للأوطان العربية وشعوبها؟ الإجابة هي بنعم في الحدّ الأدنى، وفي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً وما فيها من مخاطر أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية، لكن هي حتماً مراهناتٌ عربية جديدة على "الخارج" لحلّ مشاكل مصدرها الأساس هو ضعف "الداخل" وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لصالحهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف غير العربية ولموازين القوى على الأرض، وليس لمرجعية الحقوق المشروعة للشعوب والأوطان؟!.

إنّ الأوطان العربية مهدّدةٌ الآن بمزيدٍ من التشرذم، ليس حصيلة التدخل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش لدول هذه الأوطان ولما فيها من تخلّف فكري في مسائل فهم الدين والهويّات المتعدّدة للإنسان.

فالمنطقة العربية لم تستفد بعد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)