من حكايات عامل فلسطيني في إسرائيل

مخالطة الناس أنجع وسيلة لفهم حقيقتهم بمستوى أو بآخر من العمق والدقة ، ويتوقف هذا على نوعية الشخص المخالط من حيث مستواه المعرفي وذكائه وقدرته على الملاحظة وصحة الاستنتاج ، " وما راءٍ كمن سمعا " ، و " ليس الحبر كالعيان " . المشاهدة أوثق في نقل الحقائق من القراءة عنها . وهذه حال العمال الفلسطينيين الذين عملوا في إسرائيل . فهموا حقائقها معاينة ، واطلعوا على آراء وقناعات مستوطنيها بجنسياتهم المتعددة تعدد دول العالم التي قدموا منها متتابعين مع مرور السنين بين مد وجزر في عددهم . والعامل الذي نسرد هنا بعض حكاياته عمل في إسرائيل قبل أوسلو طويلا وبعدها قصيرا حين شهد عدد العمال الغزيين الذين يعملون هناك تراجعا كبيرا بعد تعقيد إجراءات  دخول إسرائيل خلاف ما كانت عليه الحال من قبل . صاحب الحكايات ، ولنسمه " عائد " إخفاء  لاسمه الحقيقي ، الآن في الحادية والسبعين ، ذكي ، حاذق في سرد حكاياته ، وبيان انطباعاته وملاحظاته في مشاهداته . أولى حكاياته ما سمعه من جنود إسرائيليين شاركوا في حرب 5 يونيو 1967 . قالوا  إنهم كانوا موقنين من هزيمة إسرائيل في الحرب ، واحتاطوا للهزيمة بارتداء ملابس مدنية تحت ملابسهم العسكرية ليخلعوا الثانية ، ويظهروا بالأولى في فرارهم ضمانا للنجاة من القتل أو الأسر . وأنعطف قليلا لأروي ما سمعته من عامل آخر توفي منذ عامين . حدثه مستوطن عراقي عن الرعب الذي كان ينتابهم حين يشاهدون العرض العسكري في القاهرة يوم 23 يوليو في  ذكرى ثورة 1952. قال كنا نتحسر : " خلاص ! انتهينا ! فاجأنا انتصارنا عليكم . " . وتوكيدا لما يفسر ظنون المستوطن العراقي وسواه من المستوطنين التي خلقتها في نفوسهم العروض العسكرية في ذكرى الثورة المصرية ؛ اعترضت مقاتلات  إسرائيلية مقاتلات  مصرية شمالي سيناء في  عودتها من سماء غزة ، واشتبكت معها ، فأسقطت مقاتلة  مصرية مقاتلة  إسرائيلية ، وقدم عبد الناصر قائد الطائرة المصرية للجماهير في احتفال ذلك العام في ستينات القرن الماضي . ويحكي عائد أنه استأجر مع بعض رفاقه من العمال مسكنا لدى  مستوطنة عراقية ، وفي يوم ، أخبرتهم أن جيرانها من المستوطنين يحذرونها منهم ، فنهرت المحذرين ووبختهم ، وأخبرتهم أن أيا من العمال الغزيين لم يعرضها لسوء ولو بكلمة ، وأن محذريها لو كانوا هم من استأجر المسكن  لفعلوا بها شر الأفاعيل . وأسباب قدوم المهاجرين للاستيطان في فلسطين  كثيرة ، وكثير منها لا صلة له بقناعة سياسية أو دينية . قد يكون سببا معيشيا ، أو فرارا من خطر حرب . وينقل عائد عن مهاجر روسي مجاهرته : " لو كان إصبعي يهوديا لقطعته ! أحب العرب كثيرا  ، وألومهم كثيرا ، لو ألقى كل واحد منهم جردل ماء على إسرائيل  لأغرقوها . " . يبين  أنه يجهل أن  كثيرين من العرب  يلقون لها حبال النجاة من الغرق . وهلع الإسرائيليين لأتفه سبب شهير ، وما له نظير ، ولو رصدت جائزة سنوية للهلع لحازوها كل سنة . صرصار صرخت منه نزيلة فندق منذ شهرين شرد كل من في الفندق ، ومن يجاوره من المستوطنين . وقبل أيام طاردت الشرطة في تل أبيب سارق دراجة ، فقفز بعض المستوطنين من سياراتهم وهربوا ، وبعضهم قاد سيارته في اتجاه مخالف لخط السير . ظنوا الشرطة تطارد مقاوما فلسطينيا أو " إرهابيا " حسبما يصفون المقاومين الفلسطينيين ، وعدوك لا يراك بالعين التي ترى بها نفسك ولو كنت محقا ، وكان هو مبطلا . يحكي عائد أنه دخل مع مستوطن لعمل فني في الشقة التي يقطنها ، وبعد دخولهما أغلق المستوطن باب الشقة الخارجي وبابها الداخلي ، واختفى في إحدى الغرف ، وشرع عائد في عمله . وصعقه المستوطن بعد ساعة حين خرج من الغرفة يصرخ  هائجا :" كيف دخلت ؟! كيف دخلت ؟! " وبمشقة أجابه عائد ذاهلا : " دخلنا معا . أنت أغلقت باب الشقة بنفسك . " ، يقصد بابيها ، وفي عصفة هلعه وذهوله قصد المستوطن البابين وتأكد من إغلاقهما ، وأفاق من نوبة هلعه ، وظهر عليه الخجل والخزي من نفسه ، واعتذر لعائد . وسواس الخوف من الخطر والموت يجثم على نفوس الإسرائيليين ثقيلا قاهرا في كل أوان  ومكان . ويحسبون كل صيحة عليهم ، ويتوجسون من  الخطر والموت حال رؤية أي فلسطيني . ونكتفي بهذا العدد من حكايات عائد ، وقد نعود لسرد بعضها . وكل من عمل في إسرائيل لديه حكايات وملاحظات وانطباعات ، وكلها تنتج صورة صحيحة دقيقة لهذا الكيان الذي تلفق في أرضنا اغتصابا وقتلا ، ولم أقرأ أي كتاب لأي من العمال الفلسطينيين عن تجارب عملهم في وطنهم المغتصب ، وهم في هذه العدمية الكتابية يغايرون الأسرى الذين كتبوا عن تجارب أسرهم  عشرات الكتب بين رواية وسيرة ذاتية ومذكرات وكتاب رأي وقصائد نثروها في تلافبف كتاباتهم النثرية ، ولم أرَ  سوى ديوان " عن السجن وأشياء أخرى " للشاعر ناصر أبو سرور الذي حكمت عليه إسرائيل بالسجن المؤبد في 1993 ، وللشاعر الشاب محمد أبو نصير ديوان " للوطن المسجون أغني " فيه طائفة من القصائد عن تجربة سجنه التي دامت سنتين .  وتفسير هذه المفارقة في الكتابة وعدمها  بين الأسرى والعمال أن العمال ، وبينهم حملة مؤهلات جامعية وثانوية عامة ولبعضهم قدرة على الكتابة الفنية ؛  يخجلون من كتابة ما يخبر  عن عملهم في إسرائيل ، وهذه ليست حال الأسرى الذين يفخرون بالكتابة عن أسرهم الذي يشهد لهم بوطنيتهم وتضحيتهم ، وسبب ثانٍ لكتابتهم هو التنفيس   عما في صدورهم  من آلام وأحزان وحنين لأسرهم أمهات وآباء وإخوانا وأخوات وزوجات وأبناء ، وشوق حار مضنٍ للحرية ، وعما يلاقونه في أسرهم من قسوة السجانين وعسفهم ، وما كتبوه أضاف للأدب الفلسطيني نوعا كتابيا هو أدب السجون النادر الشبيه في العالم .   

وسوم: العدد 1050