العير والنفير

هناك أمثلة تنام في الذاكرة ثم تستفيق فجأة، كأن الأحداث والوقائع تبث فيها الحياة من جديد وتدفع بها إلى الواجهة.

عندما أقرأ صحف الصباح أشعر كمواطن لبناني أو عربي، أو كأحد رعايا زمن الانحطاط والعار والفقر الذي يحاصرنا، بأنني أقرأ أخبارا قديمة سبق لي أن قرأتها، أو أنه لا علاقة لي بما يجري، كأنني طُردت من العالم، أو كأن العالم ضاق بمواطنيه وسكانه فأخرجهم من المعادلة وجعلهم أقل من متفرجين.

فحين تُشاهد على سبيل المثال مباراة في كرة القدم على شاشة التلفزيون، فأنت تشعر بأنك تشارك في اللعبة عبر انحيازك إلى فريق من اللاعبين. أي أنك تشارك رمزيا من دون أن تشارك.

أما في حالتنا اللبنانية فنحن لا نشارك على أي مستوى، نحن لا علاقة لنا بكواليس أو كوابيس الصراع على رئاسة الجمهورية، وهو صراع دخل في مرحلة من التفاهة والارتهان للخارج بحيث لم يعد يعنينا.

ما معنى «تعيين» رئيس لجمهورية زالت من الوجود. لم يعد هناك ما تبقى من دولة لبنان الكبير، ويبدو أن مبعوث الرئيس الفرنسي جاء إلى بيروت ليعلن من قصر الصنوبر موت لبنان الكبير الذي رسمت فرنسا خريطته منذ قرن من الزمان.

كنت أفتش عن العبارة المناسبة لوصف حالتنا، فطلع هذا المثل العربي القديم من الذاكرة: «لا في العير ولا في النفير». أعرف أن هذا التعبير يستخدم لوصف شخص لا علاقة له بما يجري، لكن كي أستخدم هذا التعبير كان عليّ أن أفقه معناه، حتى لا تصير لغتي أنا أيضا بلا معنى.

عثرت في كتاب «مجمع الأمثال» لأبي الفضل الميداني حكاية هذا القول الذي نُسب إلى أبي سفيان الذي أراد توجيه إهانة إلى بني زهرة لأنها لم تشارك مع بقية القبائل في حربها ضد الرسول في موقعة بدر وجاءت تطالب بالغنائم.

جواب أبو سفيان تحول إلى مثل: «أنتم لا في العير ولا في النفير»، أي لم تغنموا شيئا في التجارة وفي الحرب. فمن تطلق عليه هذه الصفة يصير خارج المعادلة.

قلت وجدتها، فنحن لا في العير ولا في النفير، العير في الخليج والنفير في إيران وإسرائيل. لكنني حين تأملت في المعاني اكتشفت أنني على خطأ. فالشعب اللبناني كان ولا يزال في العير والنفير. منذ خمسينيات القرن الماضي كانت بيروت عير المنطقة وبنكها، ومنذ السبعينيات ونحن نفير العرب وصناع حروبهم مع عدوهم الصهيوني.

ماذا جرى كي نفقد العير والنفير دفعة واحدة، ونصير خارج المعادلة؟

هل لأن اقتصادنا كان مستعارا؟ وحربنا كانت مرتهنة لأنظمة عربية كشفت عن وجهها في اتفاقيات «أبراهام»، وما سيليها؟

هذا الجواب صحيح وخاطئ؛ صحيح لأنه يصف الواقع الموضوعي، وخاطئ لأنه يتجاهل العامل الذاتي الذي جعل من البنى السياسية اللبنانية بالغة الهشاشة، لأنها محكومة بالطائفية التي قادت لبنان إلى الانهيار.

على الرغم من هشاشة البنية الدولتية، وعدم قدرة الشهابية على الصمود في وجه عاصفة الطوائف التي انفجرت بعد هزيمة حزيران-يونيو، ومع الحرب والاجتياح السوري والاحتلال الإسرائيلي، فإن لغتنا لم تخرج من المعادلة، بل صنعت صفحة مشرقة من المقاومة.

ماذا جرى اليوم كي نصير خارج المعادلة؟

هل هي هزيمة الربيع العربي الدموية وقد انعكست على لبنان عبر هزيمة انتفاضة تشرين 2019 التي أنهتها أنقاض بيروت في دمارالمرفأ، أم هو اليأس ونحن نرى هذه الوجوه الكالحة لزعماء المافيات وقد عادوا كي يلعبوا المشهد الأخير من دمار لبنان، في هذه المسرحية الدموية؟

أم هو الفقر والإفقار الذي حول أكثرية اللبنانيين إلى شعب من المتسولين؟

أم ماذا؟

كل هذه الأجوبة صحيحة، لكن ما يقلقني هو أن إخراج الشعوب من المعادلة يتم في كل أنحاء العالم، من فلسطين إلى أرمينيا، ومن أوكرانيا إلى السودان. عالم لا يبالي بالقيم حتى على المستوى الشكلي الفارغ من المضمون.

ما معنى وقوف نتنياهو على منبر الأمم المتحدة حاملا خريطة فلسطين ولكن بلا فلسطين، كأن فلسطين امحت؟ 

المخرج الوحيد المتاح هو المقاومة الثقافية التي نرى اليوم علامات ضمورها، مع أنها الطريق الوحيد إلى بداية جديدة.

يقولون إن هذه إحدى صفات عصور الانحطاط حيث يكثر الأنبياء الكذبة.

هل نستسلم لهذا الموت الزاحف على أرواحنا؟

هذا السؤال ليس لبنانيا فقط، بل هو سؤال عربي، وهو ليس موجها إلى المثقفين العرب الذين يقيمون في الوطن العربي فقط، بل موجه أيضا إلى مثقفي المنفى الذين يترتب عليهم دور كبير في صوغ رؤية جديدة تمزج الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية وتعيد تأسيس أوطان العرب من مصر إلى لبنان.

مهمة إعادة التأسيس هي الأكثر صعوبة، لكن لم نعد نملك سوى هذا الخيار كي نقاوم الموت.

نستعيد العير والنفير في كل أرض العرب من فلسطين إلى لبنان وسوريا، حين نقاوم الانحطاط بشمس العدل.

وسوم: العدد 1051