المسافة صفر تصنع من "حماس" فكرة لا يمكن قتلها (بورتريه)

مشهدان من غزة ينسجان على النقيض من بعضهم البعض تماما، مشهد وزير الخارجية المصري سامح شكري، وهو يقول كلاما صادما بأن حماس "خارج الإجماع الفلسطيني"، وكأنها صدى تصريح سابق لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بأن "حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني"، والمشهد الثاني مئات المسيرات والمظاهرات والاعتصامات التي تجوب الشوارع والساحات في الوطن العربي، وفي غالبية دول العالم، وتطالب بوقف حرب الإبادة ضد الأطفال والنساء والمدنيين في غزة، ولا تنسى أن تحي صمود المقاومة.

وثمة مرجفون ومحبطون ومحبطين توقفوا عند السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وحمّلوا "حماس" مسؤولية كل ما تبع ذلك اليوم من جرائم صهيونية في غزة، وحمّلوا المقاومة فاتورة الدم والدمار في قطاع غزة.

وسط كل ذلك جرف "الطوفان" معه 75 عاما من الأكاذيب والأساطير، أزال الغشاوة عن العقول وعن الذاكرة التي ران عليها الصدأ تحت وابل من التضليل الإعلامي والسياسي الصهيوني والغربي.

كأن التاريخ بدأ في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وجر معه الكوكب إلى ساحة الوعي الفلسطيني.

وكأن عملية "طوفان الأقصى" كانت التأسيس الثاني لحركة المقاومة الإسلامية "حماس".

حكاية بدأت رسميا مع "انتفاضة الحجارة" السلاح السري الذي اكتشفه الفلسطينيون في انتفاضتهم الأولى، لكنها سبقت ذلك بكثير مع اشتعال شرارة ثورة فلسطين الكبرى التي للمصادفة شهدت تطريز المجاهد عز الدين القسام اسمه في فضاء البطولة، وهو عالم ومجاهد سوري ولد في جبلة بمحافظة ‏اللاذقية، واستشهد في أحراش يعبد بجنين عام 1935.

فقبل نحو 37 عاما وزعت "حماس" بيانها التأسيسي في عام 1987 إبان الانتفاضة الأولى (1987-1994) لبدء مرحلة مهمة في نضال الشعب الفلسطيني.

بنت حماس هرمية قيادية بحيث لا تختل بنية وقيادة الحركة ضمن أي ظروف فالمكتب السياسي هو السلطة التنفيذية للحركة، ويتكون من لجنة تنفيذية من 18 عضوا منهم رئيس ونائب له، ينتخبهم مجلس شورى الحركة.

ورغم اغتيال الاحتلال لقيادات الحركة مثل الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، إلا أن الحركة شهدت انتقالا سلسا للسلطة، بل إنها سجلت حالة مختلفة في الواقع العربي، حين انتخب إسماعيل هنية زعيما للحركة بدلا من خالد مشعل الذي سلمه القيادة بكل امتنان وتأييد.

وحدث الأمر نفسه مع "كتائب القسام" الجناح العسكري للحركة حيث بقيت الكتائب تقوم بدورها النضالي والوطني، رغم اغتيال عدد من قياداتها ومؤسسيها وصانعي أسلحتها.

وهو ما تحدثت عنه صحيفة "معاريف" العبرية، حين أكدت بأن النظام العسكري الهرمي لحركة "حماس" بعيد عن الانهيار، وقادر على الاستمرار في العمل. وبأن حماس حققت قدرة على القيادة والسيطرة في الميدان، رغم كل الغارات الصهيونية والدخول البري بشكل أعلى مما كانت تتوقعه قيادة جيش الاحتلال.

لقد شكلت عمليات "القسام" منذ البدايات أسس مشروع وطني لافت الانتباه إليه منذ الصاروخ الأول، بوصف الحركة حركة تحرر وطني وضعت على عاتقها عبء مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين.

لقد بدأت "حماس" بالعمل العسكري قبل الإعلان الرسمي عن انطلاقتها، وكان "المجاهدون الفلسطينيون" أول جهاز عسكري للحركة عام 1984، وغيرت "حماس" اسم جهازها العسكري في عام 1991، إلى "كتائب الشهيد عز الدين القسام".

وطورت "حماس" ذراعها العسكري، فحولته من مجموعات صغيرة إلى جيش حقيقي، وبدأ تطور صاروخ القسام، حيث أطلق أول صاروخ محلي الصنع "قسام 1" في عام 2001، وتلا ذلك تطور بشكل واضح في الصناعات العسكرية القسامية حتى صناعة أول طائرة استطلاع حربية عربية "أبابيل".

واستطاع الجهاز العسكري صناعة صواريخ ذات قدرة تفجيرية عالية، استخدمتها إبان معركة "الفرقان" 2008، وفي معركة "حجارة السجيل" 2012، وفي معركة "العصف المأكول" 2014، ومعركة "سيف القدس" 2021، واستخدمت في معركة "طوفان الأقصى،" في تشرين الأول/أكتوبر الماضي التي لا تزال تدور رحاها حتى اليوم.

ورغم الحروب جميعها التي فرضت عليها كانت تدير معاركها بتوازن وعقلانية ضمن دراسة للظروف المحيطة ودراسة ردود فعل العدو، وربما يكون رد فعل العدو على عملية "طوفان الأقصى" أكبر بكثير مما توقعته الحركة قياسا بالحروب السابقة، لكنها في الأحوال جميعها حضرت نفسها لحرب طويلة وقاسية جدا.

وللتغلب على سلاح الجو الإسرائيلي ابتكرت "حماس" تحصينا دفاعيا وهجوميا وهي الأنفاق القتالية والدفاعية، وبدأت "حماس" حفر الأنفاق مطلع عام 2003، ووسعت عملها لاحقا لتبني أكبر حصن دفاعي وهجومي تحت الأرض على مساحة عشرات الكيلومترات.

لقد غامرت "حماس" بدخول معترك السياسة، رغم عدم نضوج الظروف فلسطينيا وعربيا ودوليا لمثل هذه المشاركة، فدخلت الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، بقائمة "كتلة التغيير والإصلاح"، وتمخضت الانتخابات عن فوز كبير للحركة في المجلس التشريعي بواقع 76 مقعدا من أصل 132 مقعدا، مما أعطاها أغلبية في المجلس، وهو ما اعتبر دليلا على شعبيتها في فلسطين وتصويتا على مشروعها الوطني والجهادي في مواجهة مشروع التفاوض العبثي الذي لا طائل من ورائه.

كشفت تجربة "حماس" السياسية زيف ادعاءات الغرب للديمقراطية ونفاقه حيث واجهت على إثر ذلك ضغوطا داخلية وخارجية أدت إلى إفشالها، وفرض الاحتلال والعرب حصارا على غزة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، فهل كان تسلم دفة الحكم في غزة قرارا غير مجسوب بالورقة والقلم، بحساب الأرباح الآنية والخسائر اللاحقة.!

ووضعت الولايات المتحدة الأميركية "حماس" على قائمتها للإرهاب معتبرة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي عملا "إرهابيا".

وتقف بعض الدول العربية من "حماس" موقفا معاديا، ربما لأنها آخر قلاع المقاومة في فلسطين، وربما بربطها بجماعة "الإخوان المسلمين" المطاردة في غالبية الدول العربية، رغم أن "حماس" فكت ارتباطها التنظيمي بالجماعة في عام 2017، وتحولت إلى تنظيم فلسطيني مستقل.

وتخشى الحكومات العربية والسلطة الفلسطينية من شعبية المقاومة التي تصاعدت بشكل لافت في جميع الدول العربية، وفي العالم أيضا، وأصبح الهتاف لقادة المقاومة، وحمل صورهم وبشكل خاص الضيف وأبو عبيدة والسنوار يتردد في عواصم عربية عديدة.

وبحسب دراسات واستطلاعات مركز "بيو" للدراسات، و"المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" في رام الله، وغيرها، فإن شعبية "حماس" في الضفة الغربية وغزة مرتفعة جدا على حساب السلطة التي لا تحظى بأية شعبية، كما أنها تحظى بمكانة شعبية كبيرة في الكثير من الشعوب العربية والإسلامية.

حتى إن وكالة الاستخبارات الأمريكية ترى أن تأثير "حماس" قد ازداد في الشرق الأوسط منذ بدء التصعيد في قطاع غزة.

ونقلت شبكة "سي. أن. أن" الأمريكية عن المسؤولين أن: "وكالات الاستخبارات تعتقد أن سلطة ونفوذ حماس ازدادا بشكل حاد، خلال الصراع، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن حماس تمكنت من الظهور أمام المجتمع الدولي باعتبارها المجموعة المسلحة الوحيدة التي تقاتل ظالما متوحشا يقتل النساء والأطفال".

لقد تجاوزت "حماس" بمقاومتها وصمودها وعملياتها التي تنفذها من المسافة صفر الحالة الوطنية الفلسطينية، وقفزت إلى مربعات لم يكن مسموحا للصوت الفلسطيني أن يصلها، فنالت إعجاب الملايين في العالم الذين يرون فيها فكرة تتجاوز التنظيم العسكري والقيادي،

وبأنها فكرة تتصاعد لتصبح أملا ورمزا عالميا في التحرر، وأصبحت عنوانا للصمود والبطولة وملاذا ليس للعرب فقط وإنما للعالم، فهي تدير معركتها العسكرية والإعلامية بنجاح كبير.

لقد فتحت انتصارات المقاومة وصمودها لأربعة أشهر، رغم القصف والحصار القاتل لكل معاني الحياة، سلة تفيض بالأسئلة حول قدرات "حماس" أن تصبح أسطورة العصر وأيقونة الزمان في حال هزيمتها النهائية لجيش الاحتلال، وأيضا مدى قدرتها على تجاوز الحالة الفلسطينية إلى الحالة الدولية والأممية، وهل ستنجح في تغيير وجه المنطقة؟.

لقد أجمع قادة إسرائيليون وسياسيون عرب وحتى قيادات في "حماس" على أنها فكرة وليست تنظيما، والأفكار لا تموت ولا يمكن اغتيالها وهزيمتها، لأنها ستكبر مع كل طفل فلسطيني يرى هذه الحرب الوحشية، فيقف بثبات فوق بيته الذي تحول إلى ركام رافعا راية النصر.

و"قتل الفكرة" يشبه مبارزة طواحين الهواء أو مطاردة الساحرات، فالأفكار تبقى تشع، وتبقى قبسا تسترشد به الأجيال، ولن تتمكن أية آلة حرب عسكرية مهما كانت من القوة والتقنية أن تقضي على فكرة، وهذا ما أكده أكثر من سياسي ومحلل، ولخص الفكرة مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، حين قال إنه "لا يمكن القضاء على حركة حماس لأنها فكرة"، وما ذهبت إليه رئيسة وزراء أيرلندا الشمالية ميشيل أونيل، حين قالت إن "حماس ستكون في نهاية الأمر شريكة في عملية السلام بالشرق الأوسط".

لقد أيقظ هجوم "حماس" المفاجئ على الاحتلال تضامنا عربيا شعبيا، فأقيمت حلقات رقص وتوزيع حلوى، وهتافات مؤيدة في الملاعب، بينما اجتاح وسم "طوفان الأقصى" الإنترنت. وكأن ما قامت به حماس كان ما ينقص هذا العالم، وما يحتاجه للتخلص من الرواية والسرد الصهيوني الذي جثم على الصدور طيلة 75 عاما.

وباتت "حماس" في نظر شعوب العالم حركة تحرر وطني تجاوزت حدود الجغرافيا الفلسطينية والعربية، ووصلت إلى العالمية لذلك سمع صوتها في دول العالم، وحملت فكرتها الشعوب الحرة.

لقد أعادت "حماس" القضية الفلسطينية إلى مركز اهتمام العالم بأسره بعد أن كاد أن يأكلها الصدأ والغبار، وبدأ الحديث حتى في عواصم أوروبية، وفي أمريكا نفسها عن الدولة الفلسطينية، وحق المسلمين في القدس، وفي المسجد الأقصى.

لم يعد الحديث عن نهاية "حماس" يثير الكثير من الضجيج، فالحركة هي جزء من الشعب الفلسطيني، ومكوّن من مكوّناته، والحاضنة الشعبية، التي هي أساس أي انتصار، لا تزال تؤمن بمشروع المقاومة، ولم تتعب رغم الدمار والجوع والحصار والتعذيب والمطاردة اليومية مع طيران العدو وجنوده.

لقد أعادت حماس الاعتبار إلى المقاومة بوصفها أداة التحرير الأولى، وبعيدا عن نتيجة هذه الحرب، فقد صنع صمود المقاومة جيلا جديدا سيخرج من تحت الركام، جيلا تشرد وجاع وعاش اليتم بفعل جيش من المرتزقة والقتلة السيكوباثيين، وسيكمل المسيرة.

ولا يمكن تخيل شكل العالم، ومستقبل فلسطين، دون مقاومة ترغم العدو لدفع الثمن، وباتت المقاومة الحصن الأخير والدرع الواقي لجميع أحلام وتطلعات الشعب الفلسطيني، وحتى الشعوب العربية التي لن تبقى صامتة على حكوماتها في حال نجاح طريقة المقاومة في تحصيل الحقوق وتحرير الأرض والإنسان بالقوة.

ولخص نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الحكاية كلها بقوله "حماس فكرة والفكرة لا تنتهي".

ما فعلته "حماس" من انتصار تاريخي في يوم "الطوفان" سيبقى في ذاكرة التاريخ للأبد، وفكرة ستشع قريبا في سماء فلسطين.

وسوم: العدد 1070