لا يجب أن يصرف الانشغال بإصلاح مدونة الأسرة في بلادنا الأنظار عن موضوع إصلاح منظومتنا التربوية

لا يجب أن يصرف الانشغال بإصلاح مدونة الأسرة في بلادنا الأنظار عن موضوع إصلاح منظومتنا التربوية لأنهما على درجة واحدة من الأهمية

بداية لا بد من الوقوف عند الوضع الاجتماعي في بلادنا الذي تتوزعه مرجعيتان :  مرجعية إسلامية تعتبر أهم ثابت ، وعليها إجماع  المجتمع ، ومرجعية علمانية دخيلة، لا إجماع عليها ، وحولها خلاف  بين سواد الأمة ، وبين أقلية  أو بتعبير أدق  طابور خامس ،  تتبناه ، وتدعمه جهات علمانية خارجية ، وينفخ فيه إعلام مأجور نفخا يحاول أن  يغطي على أقليته ، ويوهم بوزن متوهم له في مجتمعنا .

وإذا كان سواد الشعب يصدر في مواقفه المختلفة  عن مرجعيته الإسلامية الراسخة في وجدانه ، والتي يدعمها دستوره الذي يقر بالإسلام دينا رسميا للدولة  ، فإن الأقلية  أو الطابور الخامس يصدر عن مرجعية علمانية وافدة ، ويحاجج عنها بما جاء في دستورنا من قبيل  الإشارة إلى الحداثة ، وإلى ما يسمى بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب .

ولقد عرفت بلادنا منذ مدة احتكاكا بين نخبتين : النخبة ذات المرجعية الإسلامية ، والنخبة ذات المرجعية العلمانية ، وقد أخذ هذا  الاحتكاك  أشكالا من الجدل والنقاش بخصوص قضايا غابة في الحساسية ، أخص بالذكر منها مدونة الأسرة ، والمنظومة التربوية ، نظرا لأهميتهما القصوى ، ولأنهما عماد هويتنا الإسلامية المفارقة للهوية العلمانية كما تنص عليها الاتفاقات والمواثيق الدولية التي هي قرارات لكيانات علمانية مهيمنة في هذا العالم  بقوة المال والسلاح والقرار السياسي .  

و خلال هذه السنة، تركز الصراع  الفكري بين النخبتين حول موضوع إصلاح مدونة الأسرة في ظرف كثر فيه الضغط  الخارجي على المغرب من أجل إلحاق وضع المرأة المغربية بوضع المرأة العلمانية في المجتمعات الغربية ، الشيء الذي جعل من المدونة حلبة صراع بين مرجعيتين على طرفي نقيض ، ومن العبث الزعم أنه بالإمكان التوفيق بينهما أو إيجاد نقط تقاطع بينهما خصوصا وقد طفا على سطح  الخلاف بينهما بخصوص موضوع  إلغاء  نصوص دينية  ترفضها النخبة العلمانية ، وتطالب بتجاوزها وتعطيلها في نسخة المدونة المرتقب إصلاحها ، حيث ترى النخبة ذات المرجعية الإسلامية أن تلك النصوص الدينية عبارة عن خطا أحمر  لا يسمح بتجاوزه ، في حين تراها النخبة ذات المرجعية العلمانية خطا أخضر قابل للتجاوز ، ولا زال الخلاف  الحاد قائما بين الطرفين ، ولا يعلم ما الذي سينتهي إليه  أمر مدونة الأسرة ؟ ولا يعلم شيء عن مدى إمكانية التوفيق بين توجهين على طرفي نقيض ، ينفي بالضرورة وجود أحدهما وجود الآخر  يستحيل معهما  ثالث مرفوع .

وما يعنينا في هذا المقال من ذكر مدونة الأسرة ، هو أنها شغلت عن المنظومة التربوية التي لا تقل أهمية عنها ، وهي موضوع خلاف أيضا بين أصحاب المرجعيتين الإسلامية والعلمانية، خصوصا في ظرف شهد أزمة كبير في قطاع التربية ،لا داعي للخوض فيها الآن ،نظرا لأهمية  مصير المنظومة  التي تبقى فوق الخلاف بين الوزارة الوصية على قطاع التربية ، وبين المربين بخصوص طبيعة إلحاقهم بالخدمة تعاقدا أو توظيفا ، وبخصوص مرتباتهم وتعويضاتهم ...

ولا داعي لاستعراض مسار منظومتنا التربوية منذ استقلال بلادنا ، وما مرت به من محطات كانت توصف بأنها إصلاحات ، تمدح في بداية أمرها، لكنها تصير بعد ذلك  موضوع انتقاد، يمهد للمحطة التي تعقبها، لتلقى هي الأخرى نفس المصير في نهاية المطاف دون أن تصلح المنظومة ، ودون أن تتعافى مما عانت وتعاني منه منذ الاستقلال  .

وما نريد التركيز عليه في هذا المقال  بمناسبة  تنصيب اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة  المناهج والبرامج يوم أمس ، هو التوجس من طبيعة هذا التجديد، وهذه الملاءمة على غرار ما يراد بما سمي إصلاح مدونة الأسرة من منظار التوجه العلماني ، وهو توجه يسجل حضوره أيضا في موضوع إصلاح منظمتنا التربوية ، وقد كانت له دائما  مطالب  خاصة بموضوع إصلاحها شبيهة  بمطالبته  بإصلاح مدونة الأسرة من قبيل المطالبة بتعطيل  بعض النصوص الدينية ذات العلاقة بالتشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية . ولقد سبق لأصحاب التوجه العلماني عندنا أن عبروا عن مطالبهم بإحداث ما يعتبرونه تجديدا وملاءمة للمناهج والبرامج من خلال فرض الحظر على بعض الدروس المقررة ذات العلاقة بنصوص دينية قرآنا وسنة ، يعتبرونها محرضة على ما يسمونه الكراهية ، و رفض الآخر ، والتطرف ... إلى غير ذلك مما يخالف  قناعاتهم وتصوراتهم، وأهدافهم المعلن عنها والمموه عليها إلى حين . ولقد شهدت البرامج الدراسية عندنا حذف بعض نصوص القرآن الكريم التي كانت مقررة في بعض المستويات الدراسية ، نذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر سورة الحشر .

ولن يماري أحد في أن التوجه العلماني حاضر وبقوة في موضوع تجديد وملاءمة مناهج وبرامج منظومتنا التربوية ، الشيء الذي سيؤثر في مسارها ، وفي مخرجاتها المتمثلة في الناشئة المتعلمة التي يراد بها ما يراد مما لم ولن يصرح به مع وجود مؤشرات دالة عليه . وما يريده التوجه العلماني بهذه الناشئة ، هو نفس  ما يريده بالأسرة حين يقترح بدائل وضعية علمانية عما له صلة بالشرع الإسلامي .

 وهنا لا بد من الإشارة إلى ما خلف الأجمة كما يقال ، في ظرف كثر فيه الحديث عن التغلغل الصهيوني في بلادنا عقب التطبيع . ولا بد أيضا من التذكير بأن الكيان الصهيوني الذي يرتكب اليوم جرائم إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني يدينها الرأي العام  الوطني والعالمي ، سعى ويسعى إلى التطبيع مع مختلف البلاد العربية بشروط يشترطها كالتي اشترطها على الدول التي وقعت معه ما سمي باتفاقات سلام كمصر والأردن ، وعلى رأس تلك الشروط إحداث تغييرات في المناهج والبرامج الدراسية بحيث لا يكون فيها ما يثير كراهية الناشئة المتعلمة للصهاينة  . وقد غيرت بالفعل مناهج وبرامج في هذين البلدين ، علما بأن الكيان الصهيوني لم يغير شيئا من مناهجه وبرامجه التي تلقن لناشئته  الكراهية الصريحة للعرب وللمسلمين،  وقد أكدت ذلك  دراسات جادة  أجريت  على برامجه ، و مقرراته، وكتبه المدرسية .

ومعلوم أن التطبيع مع الكيان الصهيوني، لا يمكن أن يكون وفق ما يريده إلا بتعميم تجربته مع الدول التي أبرمت معه اتفاقيات سلام  ، وقد عبر عن ذلك فيما سماه صفقة القرن ، أوالبيت لإبراهيمي ، أوالشرق الأوسط الجديد ...

ولا يمكن أن يطمئن الرأي العام الوطني المعبر عن رفضه للتطبيع  منذ توقيعه ، وبعد أحداث غزة إلى هذا الذي سيحدث في المناهج والبرامج الدراسية ما دام التطبيع قائما . ولن يطمئن إلى الجهات الموكول إليها تجديدها وملاءمتها ما لم يتأكد  من صحة حيادها ، ونزاهتها ، ومن عدم تخندقها في المعسكر العلماني تصريحا أو تلميحا ، فضلا عن التأكد من عدم صلتها من قريب أو من بعيد  بأي مخطط صهيوني يستهدف ناشئتنا المتعلمة .

ولا بد من وجود توازن في اللجنة المستحدثة لتجديد المناهج والبرامج ، بحيث لا يهيمن التيار العلماني عليها ، ويستبد فيها بالقرار ، ويمرر ما  يناسب توجهه معرضا هوية الناشئة المتعلمة للخطر . ولا بد أن يكون في هذه اللجنة مربون  ، و أعضاء يمثلون جمعيات آباء وأمهات وأولياء أمور الناشئة ، فضلا عن  خبراء وعلماء يحرسون العقيدة والهوية الإسلامية  والمنظومة التربوية . ولا يمكن أن تكون العضوية في هذه اللجنة الدائمة حكرا على أعضاء تعينهم الوزارة الوصية  كموظفين لديها، دون وجود أعضاء الرقابة على ما يصدر عنهم، لمنع كل ما من شأنه أن ينحرف بالمنظومة التربوية عن أهدافها ، ويمس بهويتنا في صميمها .

وأخيرا نقول لمن انتدبوا أنفسهم لحراسة مدونة الأسرة  حتى لا ينحرف بها عن طبيعتها الإسلامية  ، لا تنسوا أن  تطالبوا بحضوركم المكثف ، والقوي  في اللجنة الدائمة صيانة للمنظومة التربوية من كل ما يستهدفها   ، ذلك أن استهدافها لا تقل خطورته عن استهداف الأسرة النواة الصلبة لمجتمع دينه الرسمي هو الإسلام المنصوص عليه في دستوره . ويبقى المطلوب من هذه اللجنة الدائمة ألا تمضي في أي اقتراح تقترحه كإصلاح أو كتجديد دون عرضه على الرأي العام أو المجتمع المدني ليعبر عن رأيه فيه من خلال  اعتماده على استشارته من يثق فيهم  من  أهل الاختصاص والعلم والمعرفة ، المستقلين عن  أي نوع من وصاية الوزارة  الوصية على قطاع التربية .

وفي انتظار ما سيجد في هذا الموضوع ، ستكون لنا عودة إليه كلما دعت الضرورة ، تنويرا للرأي العام الوطني ، وحفاظا على هويتنا الإسلامية منعا لكل استهداف يطالها .   

وسوم: العدد 1071