الضرورات تبيح المحظورات

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

في الشريعة الإسلامية نجد أن هناك نصوص صحيحة الثبوت، صريحة الدلالة، تبيح إتيان الأفعال التى نهى عنها الكتاب، وحرمتها السنة، وكرهتها الجماعة، للناس كافة ولا تؤاخذ فاعلها الذي لم يأتيها على حرد وإختيار، فالقتل مثلاً لأن فيه فساد نظام الكون، وإختلال توازنه، واضطراب الحياة فيه، ولأنه لا يجلب على البشرية التى لا يستقر لها جنان من الروع، ولا يستقر بها مجلس من الفزع، سوى الوبال ولا يكسبها غير الضرر، ولا يخلف إلا خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من برك الدماء والحسرة، لأجل كل ذلك صدع بتحريمه الكتاب ومحكم التنزيل، ومنعت منه النحلة، وحجرته الشريعة، وحتى تلين الأكباد، وتقر الجوانح، وترف على ما ذوى من العواطف، وتنبعث من المهج المكلومة سكينة الرضا، وراحة الضمير، جعل الشارع القصاص ممن انتهك المحارم، وارتكب العظائم، بيد ولي الدم وذلك لقوله تعالى:﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾الإسراء:33. فولي الدم حينما يثأر وينتصر ممن فجعه بقتل أحد أفراد أسرته، يسفي الغبار عن غواشى الرهج، ويخمد فتنة قد سطع عجاجها، وتفاقم اهتياجها، ويأتى عملاً أباحه له الشارع خاصة رغم تحريمه على الكافة.

أخبرنا الشارع بآيات شامخات لا عوج فيها ولا إلتواء، أن من تنكب مناهج الهدى، وركب سنن الضلالة والردى، وخلع عنه ربقة الإيمان، وتمسك بحبائل الشيطان، سوف يكون مصيره المحتوم نار تطفح احتداما، وتتوهج اضطراما، فهو إذا لم يكترث للخلجات الهامدة، والأصوات الخاشعة، التي تدعوه لنبذ الترهات التى يعج بها خلده وتتوق لأوبته لرحاب الدين، فإذا طغى تعنته على الشعور، وبغت ردته على الفطرة، وتشبث بجهالته، وأقام على ضلالته، وتبدى للبهاليل حماة الدين أنه ضباب من اليأس لا يشع فى جنباته أمل، وأن هدير الدين قد سكن، وصخب الإيمان قد قرّ فى دواخله الناضبة، فإن تلك الموجة العاتية من الغي والضلالة التى طفح بها عقله الخرب لن تنحسر غمرتها إلا بجز هامته، حتى لا تضحى عروة الدين ضعيفة المغمز، هشة الحشاشة، فمن يرتد عن دينه مظهراً غير مضمر، ويكفر بعد اسلامه معرباً غير معجم، وجب ضرب عُنقه عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام  :"لا يحل دمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس".سنن أبي داؤود. فمن تفوه بكلمة الكفر لا غضاضة أو هضيمة، على الجهات المختصة أن تحسم بائقته، بعد أن صدف عن الحق.

كما لا يند عن ذهن، أو يغيب عن خاطر، أن الجرح محرم على الكافة، ولكن لما كانت حياة الإنسان أو راحته قد تتوقف على عملية جراحية، فقد أبيح للطبيب بصفة خاصة جرح المريض؛لإنقاذه من آلامه، أو لإنقاذ حياته؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات؛ ولأن الشريعة تحض على التداوى من الأمراض والعلل وتوجب على المرء أن لا يلقى بنفسه فى التهلكة، فإحداث الجرح يحقق من أغراض الشارع دفع الضرورة، والتداوي من المرض،وإنقاذ النفس من الهلكة، وهكذا استوجبت طبيعة الأشياء وصالح الأفراد والجماعة وتحقيق غايات الشارع، استوجب كل هذا أن يعطى لبعض الأفراد حق ارتكاب الأفعال المحرمة على الكافة.

وإذا كان الفعل المحرم قد أبيح لتحقيق مصلحة معينة، فقد وجب منطقياً أن لا يؤتى الفعل المحرم إلا لتحقيق المصلحة التي أبيح من أجلها، فإن ارتكب الفعل لغرض آخر فهو جريمة، فالطبيب الذى يجرح مريضاً بقصد علاجه يؤدى واجباً كلف به فعمله مباح، ولكنه إذا جرح المريض بقصد قتله فهو قاتل وعمله يعد جريمة تستوجب العقاب الرادع.