تذكرة للشعراء

د. محمود فاخوري

جاء في كلام أحد الأئمة: "اركب الآذيّ تشرب الماذي" أما الآذيّ فمعناه موج البحر، وأما الماذيّ فهو العسل، والمعنى في هذا العبارة واضح وهو يقوم على الإصرار على مواجهة صعوبات الحياة من أجل تحقيق الغايات المنشودة والحصول على الراحة التامة.

ويقول أحمد شوقي:‏

أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا‏      وفاز بالحق من لم يأله طلبا‏

)لم يأله، بضم اللام: أي لم يقصر في طلبه).‏

وقال أبو تمام الطائي:‏

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها‏        تنال إلا على جسر من التعب‏

وقال بعضهم:‏

اطلب ولا تضجر من مطلب=فآفة الطالب أن يضجرا‏

أما ترى الماء بتكراره=في الصخرة الصماء قد أثرا‏؟

)تضجر: بفتح الراء على حذف نون التوكيد الخفيفة لضرورة الشعر).‏

إعمال الفكر

ومن أجل صعوبة العلم أو الأدب كان العلماء والأدباء من السلف ومن سار على نهجهم من الخلف يتوسلون إليه بركوب الخطر ومعاناة السفر وإدمان السهر وكثرة النظر وإعمال الفكر. وبذلك كله ارتفع ذكرهم وعلا صيتهم ولمعت نجومهم على مدى الأيام .‏

وعلى سبيل المثال، خذ الشعراء الفحول من أمثال أبي تمام الطائي، والبحتري، وابن الرومي، والمعري، وأبي نواس وغيرهم، أتظن أن أحدهم وصل إلى ما وصل بالراحة والنوم؟ أم أصبح شاعراً مجلياً بحفظه للأشعار وإدمان النظر فيها، واقتناصه شواردها، وكثرة مخزونه منها؟‏

وأنا أذكر بعض الأمثلة على ذلك، وما آتاه الله سبحانه لبعض الأدباء والشعراء وسواهم من الاستيعاب المدهش لأشعار العرب وتراثهم التليد والطريف، وأبدأ بأبي نواس الذي قال: "ما قلت الشعر حتى حفظت شعر ستين امرأة فضلاً عن الرجال".‏

وروي أن أبا تمام الطائي قال عن نفسه: "لم أنظم الشعر حتى حفظت سبعة عشر ديواناً للنساء خاصة دون الرجال".‏

وكان أبو تمام هذا يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة غير القصائد والمقاطيع.

نظم ونثر

أما أبو الطيب المتنبي فقد كان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر وتفوق عليه المعري في ذلك.‏

فأين "شعراؤنا" اليوم من أولئك الشعراء وأمثالهم؟ وكم بيتاً من الشعر يحفظون أو حفظوا قبل أن ينظموا أنفسهم في سلك "الشعراء"؟ ولا أقول :كم قصيدة يحفظون من عيون الشعر العربي؟‏

حُكي أن الأديب الكبير أبا بكر الخوارزمي (383هـ) قصد حضرة الصاحب بن عباد الوزير الأديب (385هـ) فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول.

فقال الصاحب: قل له قد ألزمت نفسي ألا يدخل عليّ من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب.

فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك.

فقال أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟

 فدخل الحاجب وأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي، ثم أذن له في الدخول ورحب به وأكرمه.‏

وذكر ابن قتيبة في كتابه "الشعر والشعراء".

الأمل

يحكى أن قائداً هزم في إحدى المعارك، فسيطر اليأس عليه، وذهب عنه الأمل، فترك جنوده وذهب إلى مكان خال في الصحراء، وجلس إلى جوار صخرة كبيرة.

وبينما هو على تلك الحال، رأى نملة صغيرة تجر حبة قمح، وتحاول أن تصعد بها إلى منزلها في أعلى الصخرة، ولما سارت بالحبة سقطت منها، فعادت النملة إلى حمل الحبة مرة أخرى.. وفي كل مرة كانت تقع الحبة فتعود النملة لتلتقطها، وتحاول أن تصعد بها.. وهكذا.

فأخذ القائد يراقب النملة باهتمام شديد، ويتابع محاولاتها في حمل الحبة مرات ومرات، حتى نجحت أخيراً في الصعود بالحبة إلى مسكنها، فتعجب القائد المهزوم من هذا المنظر الغريب، ثم نهض من مكانه وقد ملأه الأمل والعزيمة فجمع رجاله، وأعاد إليهم روح التفاؤل والإقدام، وأخذ يجهزهم لخوض معركة جديدة.. وبالفعل انتصر القائد على أعدائه، وكان سلاحه الأول هو الأمل وعدم اليأس، الذي استمده وتعلمه من تلك النملة الصغيرة.