"موازين" والطغيان في الميزان

من المعلوم أن كل المجتمعات الإنسانية قديمها وحديثها لم تكن، ولن تكون يوما ما، خالية من مظاهر الصلاح والفساد، كل ما في الأمر أن هناك تدافع بينهما، يتم من خلاله ترجيح كفة أحدهما على الآخر، حسب المعطيات المادية والمعنوية المتحكمة في صيرورة مجتمع من المجتمعات. وإذا أن كان تعريف مفهومي الصلاح والفساد يمر بالأساس عبر الخلفية العقدية لكل مجتمع على حذة، إلى الحد الذي يتحول فيه الصالح إلى الفاسد والعكس بالعكس، فإن المتعارف عليه إلى عهد قريب في البلدان ذات الخلفية العقدية التي تستمد جذورها من الشريعة الإسلامية، على الرغم من كل التباين الحاصل في تجسيد مقتضياتها، من بلد لآخر ومن جماعة بشرية لأخرى، هو أن الممارسات الفاسدة ممارسات شاذة وعابرة، حتى في تصور أغلب المتعاطين لها أنفسهم، بحيث تجدهم أول من يحرص على الاستتارة والتخفي عن الأعين وقت ممارستها، لأنهم يرغبون في قرارة أنفسهم في التخلي عنها بمجرد تغيُّر تلك الظروف التي ألجأتهم إليها، علما أن أثر القوانين الزجرية التي تمزج بين الأحكام الشرعية والقوانين العلمانية في حق المجاهرين بها في البلدان الإسلامية كالمغرب على سبيل المثال، ضعيف جدا مقارنة بالوازع الديني الذي يكون هو السبب الرئيسي في الإقلاع عنها.

ومما لا شك فيه أن المصطلحات المعبر بها عن هذه الممارسات، من بين العوامل الأساسية التي تساهم في تقبُّل أو رفض المجتمعات لها، ومن ثم نجد أن من أهم المعارك التي يخوضها الغرب ضد الأمة الإسلامية، هو الاستعاضة عن مصطلحاتها الأصيلة بمصطلحات تُسهِّل التطبيع مع هذه الممارسات وشيوعها لدى العام والخاص، فالأثر الذي يتركه وصف شخص بالشذوذ، ليس هو نفس الأثر الذي يتركه وصفه بالمثلية، ونفس الشي بالنسبة للزنا والعلاقات الرضائية، وبين الأم الزانية والأم العازبة، وبين الخمر والمشروبات الروحية...

وإذا كانت الآليات المعتمدة في تمرير هذه المصطلحات تختلف باختلاف المواقع والسياقات، بحيث تعمل الجمعيات "الحقوقية والنسوية" على تمرير هذه المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بها نظريا عن طريق الندوات، والكتابات و"الدراسات" و"الاستطلاعات"، فإن "التظاهرات الفنية" والمهرجانات تشتغل على التنزيل العملي لها على أرض الواقع. وما مهرجان "موازين" إلا مثال حيا لهذا التنزيل، وإلا فما معنى أن يتم دعوة "فنان" وما هو بفنان، وهو الذي لا زالت الرائحة الخبيثة التي خلفها في مهرجاني الرباط والدار البيضاء السنة الماضية تزكم أنوفنا، سوى المضي قدما في خدمة هذه الأجندة الغربية التي تأتي على الأخضر واليابس، في تجاهل تام لكل القيم والأعراف الثقافية، بل وحتى القوانين المعتمدة في هذا المجال، فأين نحن على سبيل المثال لا الحصر من تطبيق القانون الجنائي المغربي في شأن الإخلال العلني بالحياء العام، الذي ينص الفصل 483 منه على أن "من ارتكب إخلالاً علنياً بالحياء، وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائة وعشرين درهماً إلى خمسمائة درهم"، فأين يمكن تصنيف كل تلك البذاءة التي يجسدها مهرجان موازين وباقي المهرجانات المماثلة له على طول البلد وعرضه، والتي يتم تعميم شيوعها في وسائل التواصل الاجتماعي إذا تم استثناؤها من هذا القانون؟ أم أن هناك من يتعمد التطبيع معها وتعميمها رغما عن القوانين، بل ويتم العمل على قدم وساق لتجاوزها إلى قوانين تؤصل لهذه الممارسات، لتصبح بذلك منسجمة مع القيم "الكونية" على الرغم من فضح الواقع لزيفها، وبرهنته على فشلها في المجتمعات التي نشأت فيها.

والسؤال البديهي الذي يُراوِد فكر كل المغاربة الذين يتشبثون بسيادة المصطلحات المنبثقة من قيمهم وثقافتهم الأصلية في إطار القانون هو: إذا كانت وزارة "الأوقاف" وهي بذلك اسم على مسمى، تُوقف كل خطيب أو واعظ تُشتَمُّ فيه رائحة الخروج عن خطها الإيديولوجي، وإذا كان بعض النكرات يتجرأ على رفع دعوى قضائية ضد عالم من أبرز عماء المغرب، في الوقت الذي كان من الأولى رفع الدعوة ضده، وضد كل الذين يشتغلون على قلب الموازين بمجاهرتهم بمحاربتهم للدين الإسلامي، وكل الممارسات السامية المستمدة منه، علما أن ميزان الإسلام هو الذي يتعين سريانه، على اعتبار أنه دين الدولة وقبل ذلك دين المغاربة، قلت إذا كانت الأمور على ما هي عليه، أليس حريا بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية انطلاقا من مسؤوليتها الدينية، رفع دعوى قضائية ضد كل من ساهم ويساهم في سيادة الرداءة والبذاءة التي تدعو إليها هذه المهرجانات، وعلى رأسها وزير الشباب والثقافة والتواصل؟ ثم أين المسؤولون عن تطبيق القانون المتعلق بالإخلال بالحياء العام؟ وقد كان الاستعمار يعاقب المُفطرين علنا في رمضان، ويمنع التجوال في شوارع المدن الشاطئية بلباس السباحة، وهوما استمر العمل به إلى بدايات الاستقلال. أين دور العلماء في لفت انتباه المسؤولين إلى خطورة ما ينجم عن سريان هذه الممارسات في المجتمع؟ وأين البرلمانيون الذين انتخبهم الشعب ليدافعوا عن قيمهم وخصوصيتهم؟ من خلال سن قوانين رادعة للمسؤولين عن كل مهرجان لا يحترم مقتضيات القيم والثوابت التي تميز هوية الأمة المغربية.

ختاما يبدو جليا أن منظمي مهرجان موازين وغيره من أمثاله، قد طغوا في الميزان الإلاهي باتِّباعهم أهواءهم وأهواء الواقفين وراءهم، مُعرضين بذلك عن أمر الله تعالى في سورة الرحمان:﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) ﴾، وهو ما يعرضهم لمقتضيات الآية 124 من سورة طه حيث يقول جل جلاله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ صدق الله العظيم.

وسوم: العدد 1128