صحيفة عبرية: “أين رفح؟”… حين يقف “داعش” و”التاريخ الحديث” مشدوهين من إرهاب إسرائيل

صحيفة عبرية: “أين رفح؟”… حين يقف “داعش” و”التاريخ الحديث” مشدوهين من إرهاب إسرائيل (هذا بعض ما فعله المجرمون في غزة - وسيفعلونه في غيرها) 

“لم يبق في جباليا أي بيت أو شجرة أو إنسان واحد”، كتب طبيب من شمال غزة اسمه عز الدين. “لقد تحولت إلى منطقة قفراء كبيرة، هُجر سكانها بالقوة، ومحيت بيوتها وقتلت الحيوانات. هذه الصورة ستكون الدليل على إحدى الفترات الأكثر ظلمة وصعوبة”.

تدمير مخيم اللاجئين جباليا كان رمزاً، لكن لم يعد الحديث يدور الآن عن حالة خاصة: في العشرين شهراً التي مرت منذ 7 أكتوبر، دمر الجيش الإسرائيلي أيضاً بيت لاهيا وبيت حانون وشرق مدينة غزة وضواحي خان يونس، وها هو الآن يستكمل محو رفح.

في تشرين الأول 2023 مر قمر صناعي فوق سماء رفح وصورها. تظهر في الصورة مدينة كبيرة، فسيفساء من المباني المكتظة، ألواح طاقة شمسية، مآذن مساجد، شوارع وميادين، مناطق زراعية وحقول. في بداية الشهر، مر قمر صناعي فوق المدينة مرة أخرى، أو للدقة، فوق ما كان ذات يوم مدينة. لم يبق شيء. يظهر في الصورة المحدثة مسطح ثنائي الأبعاد رمادي، مغطى بأنقاض البناء، الأغلبية الساحقة من المباني دمرت وسويت بالأرض. لا شوارع ولا دفيئات ولا حقول… كلها اختفت وكأنها لم تكن.

وزير التراث عميحاي الياهو، لم يستبعد في بداية الحرب استخدام قنبلة نووية. فعلياً، نسبة المباني التي دمرت في رفح وجباليا أعلى مما في هيروشيما وناغازاكي. بشكل عام، الدمار في رفح يبرز أيضاً مقارنة مع حالات أكثر تطرفاً في التاريخ الحديث. فالدمار واسع وممنهج أكثر من الدمار الذي كان في حلب والموصل وسراييفو وكابول. الدمار يذكر بالدمار الكبير في مدينة بحمط في أوكرانيا، لكن عدد سكانها كان ربع سكان رفح تقريباً.

275 ألف شخص كانوا يعيشون في مدينة رفح الكبرى عشية الحرب، وهو عدد يساوي عدد سكان حيفا. كان يعيش في مخيم جباليا 56 ألف شخص، مثل عدد سكان “يفنه”. أما في بيت لاهيا فكان يعيش 108 آلاف شخص مثلما في “هرتسليا”، وكانت بيت حانون تشكل سكناً لـ 62 ألف شخص مثلما هي الحال في “جفعتايم”، أما عبسان الكبرى، أحد أحياء خان يونس، التي كانت ولم تعد موجودة، فكان يعيش فيها 30 ألف شخص تقريباً مثلما في “عراد”. وفي حي قريب، بني سهيلة، كان يعيش 46 ألف شخص مثلما في “كرمئيل”. كلها محيت.

ليست هذه سوى البلدات التي دمرت بالكامل أو في معظمها، فقد دمر الجيش الإسرائيلي وسوى أحياء كاملة في المدن الكبيرة بالأرض: غزة وخان يونس. هكذا مثلاً الشجاعية، الحي الشرقي الأكبر في غزة والذي تم محوه تماماً. بالإجمال، تم تدمير أو تضررت ثلثي المباني في القطاع، 147 ألف مبنى من بين ربع مليون مبنى تقريباً.

نحو 90 ألف مبنى، أي أكثر من ثلث مباني القطاع، دمرتها إسرائيل أو عرضتها لتدمير شديد. إضافة إلى 52 ألف مبنى تعرضت لأضرار متوسطة. نحن نتحدث عن أكثر من 50 في المئة من المباني. حسب الأمم المتحدة، ثمة إشارات على وجود أضرار لـ 33 ألف مبنى آخر. ولكن يصعب تقدير مستوى الضرر فيها. هذه البيانات التي تجمع من قبل مركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة، صحيحة حتى نيسان. الرقم الإجمالي للمباني التي تضررت حسب إحصاءات الأمم المتحدة، يشبه التقديرات التي تظهر في تحليلات كوري شاعر وجايمون فان بانهوك، الباحثان في جامعة أوريغون التي تتابع الدمار في القطاع باستمرار.

إلى جانب المباني السكنية، دمر الجيش الإسرائيلي مستشفيات ومنشآت للبنى التحتية ومصانع ومساجد وكنائس وأسواقاً ومراكز تجارية. زرع الجيش خلال الحرب الدمار في 2300 مؤسسة تعليمية، والآن 501 مدرسة من بين 564 مدرسة في القطاع هي في حالة تقتضي إعادة بناء من جديد أو ترميم. 81 في المئة من الشوارع دمرت أو تضررت. جزء كبير من شبكة الكهرباء دمر، وكذلك أنابيب المياه والمجاري، والمنشآت الزراعية والحظائر ومزارع الدجاج ومرافئ الصيد. حسب وكالة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن عدد مزارع الدجاج التي تنتج البيض في القطاع انخفض 99 في المئة، وعدد الأبقار انخفض 94 في المئة، وكمية الأسماك التي يتم اصطيادها انخفضت 93 في المئة.

ليس أقل من 50 مليون طن من أنقاض المباني موزعة الآن في القطاع، وتقدر الأمم المتحدة أن عملية إخلائها ستستمر لعقدين. الدمار كبير جداً وممنهج، يصعب تخيل عودة حياة طبيعية في المستقبل المنظور.

في هذه الأثناء، أكثر من مليون مواطن يتجمعون في مدينة الخيام الضخمة التي أقيمت في المواصي، على طول الشاطئ وغرب مدينة غزة. مؤخراً، سجل سرب آخر من اللاجئين الذاهبين إلى المنطقة المكتظة أصلاً، إلى درجة أن الخيام توضع على أرصفة قوارب الصيد ومكبات النفايات وبين الأنقاض. هم يعيشون بدون مجار ومياه وكهرباء، ويغرقون في البعوض، ويفتقرون إلى القدرة على طهي المساعدات القليلة التي تقدم لهم، والجوع واضح في كل زاوية.

خيال الدمار في كل شيء. في العشرين شهراً من الحرب، سجلت الشبكة عشرات آلاف المرات التي تنادي الإسرائيليين وتطالبون بتسوية غزة وتدميرها أو تخريبها. وقد كرر الوزراء وأعضاء الحكومة وأعضاء الكنيست والصحافيين المؤثرون دعوتهم مراراً وتكراراً للتدمير. وقد ساد مؤخراً تعبير جديد في أوساط اليمين، وهو “زربيب غزة” (هدم غزة) نسبة للحاخام أبراهام زربيب، القاضي في المحاكم الدينية في “تل أبيب” و”أريئيل”، وهو جندي احتياط في وحدة الهندسة في لواء “جفعاتي”. تفاخر زربيب عدة مرات في مقابلات عبر القناة 14 بالدمار الذي يتسبب به هو وأصدقاؤه بواسطة جرافات “دي 9”. “بدأنا بهدم المباني التي تتكون من 5، 6، 7 طوابق. هذه الطريقة تطورت، وتنجح”، قال.

يمكن تقسيم الدمار الذي يسببه الجيش الإسرائيلي في القطاع إلى خمس موجات تدمير: الأولى نفذها سلاح الجو في وقت قريب بعد 7 أكتوبر. في الأسبوع الأول للحرب، ألقى الجيش الإسرائيلي 6 آلاف قنبلة على غزة، حملة جعلت هجوم الجيش الأمريكي على “داعش” تبهت. ورافقت الدمار دعوات تشجيع لأشخاص مهمين في الجمهور الإسرائيلي: “أنا لا أنام جيداً بدون رؤية بيوت تنهار في غزة”، قال في كانون الأول 2023 مذيع في القناة 14، شمعون ريكلين. “ماذا أفعل، المزيد والمزيد من البيوت، المزيد من الأبراج، حتى لا يكون لديهم مكان يرجعون إليه”.

الموجة الثانية انطلقت في بداية 2024 في الوقت الذي أقام فيه الجيش عملية منطقة عازلة عرضها كيلومتر حول القطاع كله. آلاف المباني دمرت في حينه، في موازاة التمترس في ممر “نتساريم”، الذي توسع بالتدريج (المناطق التي دمرت حوله تشكل 10 في المئة من مساحة القطاع تقريباً). وحلت في هذه المرحلة، جرافات ومواد متفجرة محل سلاح الجو كأدوات أساسية للتدمير.

“الأمر المفاجئ حقاً، هو السرعة التي أصبح فيها كل ذلك طبيعياً ومنطقياً”، كتب جندي الاحتياط يوفال كيتف عن الخدمة في ممر “نتساريم”. “بعد بضع ساعات، تجد نفسك تحاول بالقوة التأثر من أبعاد الدمار، وتقول لنفسك جملاً مثل: أي شيء هستيري هذا. ولكن الحقيقة أنهم تعودوا على ذلك بسرعة كبيرة. أصبح الأمر مبتذلاً”.

أما الموجة الثالثة في تدمير القطاع فانطلقت في الهجوم على رفح قبل سنة تقريباً. في حينه، بدأ الجيش الإسرائيلي في التمترس وتوسيع محور فيلادلفيا على طول الحدود بين القطاع ومصر. في هذه المرحلة، طور الجيش أسلوب دمار جديداً وناجعاً – حاملات جنود مصفحة انتحارية. وهي حاملات جنود مصفحة قديمة من نوع “زلدا” تم وضع كميات كبيرة من المواد المتفجرة فيها، واقتيادها بمنظومة تحكم من بعيد باتجاه مبان استهدف تدميرها. بهذه الطريقة تم تدمير مئات المباني في القطاع، حيث أصوات الانفجارات سمعت من تل أبيب.

الموجة الرابعة، قبل نهاية السنة الماضية، كانت الدمار الذي تسبب به الجيش الإسرائيلي لمدن شمال القطاع، بيت لاهيا وبيت حانون ومخيم جباليا للاجئين. في نهاية كانون الأول، انتهى هذا الفصل، حيث مدير مستشفى كمال عدوان في شمال القطاع، وقام الدكتور حسام أبو صفية بتسليم نفسه لقوات الجيش الإسرائيلي. التوثيق الذي ظهر فيه وهو يتقدم من الجنود وحوله جهنم، خلف أثراً عميقاً في أرجاء العالم، وأوضح بأن الجيش الإسرائيلي يخلف وراءه أنقاضاً.

في كانون الثاني الماضي، عند الإعلان عن وقف إطلاق النار، توقفت آلة التدمير. في الوقت نفسه، ولدت في غزة موضة “تك تك” جارفة، مئات آلاف المواطنين عادوا إلى بيوتهم، وكثيرون صوروا أنفسهم وهم يخلون الأنقاض ويرتبون لأنفسهم فراغاً سكنياً صغيراً بين أكوام الدمار، التي كانت ذات يوم بيتهم. كان هذا تعبيراً عن التصميم من جهة، والتطلع إلى القليل من العقلانية من جهة أخرى. ولكن هذا لم يستمر لفترة طويلة؛ ففي 18 آذار خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار عندما هاجمت ليلاً وأزهقت حياة 300 امرأة وطفل. وبعد مرور شهرين تقريباً، انطلق الجيش الإسرائيلي في عملية “عربات جدعون”. تحت قيادة رئيس الأركان الجديد أيال زامير، أصبح زرع الدمار نهجاً حقيقياً. في هذه المرحلة المستمرة حتى الآن، يستخدمون مقاولين خاصين ويدفعون لهم حسب عدد المباني التي يقومون بتسويتها.

“سنعمل في مناطق أخرى، وسندمر البنى التحتية”، أعلن زامير قبل العملية. “فوق الأرض وتحتها”. الصحافي عميت سيغل، أعلن بأنه “للمرة الأولى، يدور الحديث عن تدمير كل البنى التحتية فوق الأرض”. قبل نصف سنة، كتب سيغل عقب زيارة لجباليا بأن “الصور لا تصف أبعاد الدمار. لم يبق في شمال القطاع سوى قطع أسمنتية ورمال وأكوام قمامة كبيرة وأسراب من الكلاب الجائعة”.

كلما مر الوقت واتضحت صورة الدمار الشديد، بدا وكأنه لرئيس الحكومة خطة لليوم التالي – طرد جماعي لسكان القطاع. يتحدث نتنياهو عن ذلك علناً: سندفع الغزيين نحو الجنوب، وسنجد دولاً تستوعبهم، وفي النهاية سيوافق معظمهم على الهجرة الطوعية. “ندمر المزيد من البيوت”، قال رئيس الحكومة في لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست في تقرير في “معاريف”. “لن نبقي لهم مكاناً يعودون إليه”.

أعطيت الإشارة في 4 شباط، عندما تحدث الرئيس الأمريكي ترامب أمام العدسات عن محو مدن القطاع: “سنسيطر على غزة ونسويها بالأرض. سنزيل القنابل والبيوت المدمرة. هذه فكرة رائعة”. منذ تلك اللحظة، تحول الخيال إلى خطة عمل. هكذا وصفها وزير المالية وعضو مجلس الوزراء سموتريتش: “لا مزيد من الاقتحامات. سنحتل وسنبقى، حتى ندمر حماس. في الطريق، سندمر ما بقي من القطاع. سينقل الجيش الإسرائيلي السكان من مناطق القتال، ولن يدخر أي جهد في ذلك. سيصل السكان إلى جنوب القطاع، ومن هناك إلى دول أخرى. هذا تغيير تاريخي، ليس أقل من ذلك. هذا هو الأساس”.

في أوساط كثيرة، يرون فيما يحدث الآن في غزة إشارة إلى انهيار النظام الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية. القانونية ليمور يهودا، تعتقد أن الوقت ما زال مبكراً لليأس من المنظومة الدولية: “نحن بلا شك في وضع يتقوض فيه النظام، وهناك احتقار لكل معايير القضاء الدولي، والعالم لا يفعل شيئاً. من جهة أخرى، يجب أن نتذكر أن هذا الأمر استغرق مدة ثلاث سنوات ونصف في البوسنة، وفي النهاية ستنتهي هذه الحرب الملعونة، وستتحطم الأوهام العبثية، وسنصل إلى نفس نقطة البداية: بين النهر والبحر شعبان، ولا أحد منهما سيختفي، والاختيار هو العيش معاً أو الموت معاً. في هذه الأثناء، على كل شخص أن يسأل نفسه: كيف سيتوقف عن المشاركة في آلة التدمير؟”.

وسوم: العدد 1128