شر هذا العصر!

gsgg1128.jpg

هل يرتكب الشر على أيدي أولئك الذين يتساءلون عن صواب أفعالهم؟ أو يشكون في دوافعهم بل الشر يرتكب في أيامنا هذه على يد أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أنهم متخمون روحيا. إن هؤلاء فئة ترفض النظر في المرآة لترى ذاتها كما ينبغي أن تكون لا كما تراها هي. هؤلاء يرفضون المواجهة مع الذات. و على سبيل المثال السياسيون يقدمون أنفسهم كنموذج أخلاقي فريد. يتحدثون عن القيم، رغم أن سلوكهم يقول العكس تماما! هم يشرعون سياسات تدمر المجتمع في صمت. ترى هل يدرك هؤلاء تناقضاتهم؟! هل هم على وعي بنفاقهم أما أنهم يصدقون الصورة التي يرسمونها لأنفسهم؟!

هنا نستلهم أفكار الطبيب النفسي سكوت بيك ( Scott Pieck) الذي ناقش في أعماله طبيعة الشر النفسي متحدثا عن النرجسية الخبيثة، و هي ظاهرة من الشر الخبيث، كان يرى أن الشر بحد ذاته ليس عدوان أو عنف بل هو قوة تعارض الحياة و الحيوية، وهو ليس قتلا للجسم بل قتلا للروح والوعي و الحرية. والشر لا يتطلب إزهاق الأرواح فقط بل يكفي أن تقتل روح الإنسان و أن تسحق إرادته وي

وتقمع نموه الداخلي ونحن جميعا نحمل في داخلنا قابلية لارتكاب الشر. و الخط الفاصل بين الخير و الشر لا يمر بين الشعوب بل يؤذي قلوبنا. و هناك نوعين من البشر الذين يبدون استعدادا أكبر لذلك وهم السيكوباتيون و النرجسيون الخبيثون . السيكوباتيون معروفون بغياب ضميرهم لكن النرجسيين الخبيثين أكثر خطرا، لأنهم أكثر سوءا لأنهم يجيدون التخفي وراء قناع الفضيلة. و الترجسي الخبيث لا يفتقر إلى الشعور بالأخلاق بل يعرف ذاته على أساس الكمال؛ هو يريد أن يبدو شخصا طيبا حتى و إن لم يكن لديه أي دافع لذلك. يمارس الكذب و الزيف على الآخرين وكذلك على نفسه أولا! تبدأ نرجسيته منذ الطفولة في ظل والدين ناقدين أو قاسيين للغاية، يمنعون طفلهم إظهار ضعفه أو خطئه فيلجأ إلى قناع من الكمال كي يحمي نفسه، يكبر هذا القناع معه حتى يصير جزءا من كيانه. و النرجسي الخبيث يعيش في رعب مستمر من أن يتم كشف زيفه أو ضعفه. لكن المشكلة أنه لا يشعر بهذا الخوف بوعي بل ينكره و يسقطه على الآخرين! عندما يرتكب خطأ لا يعترف به بل يبرره أو يلتف عليه أو يلقي باللوم على غيره، وهكذا يبدأ ضميره رويدا رويدا يموت، حتى يصير غير قادر على الإحساس بالذنب رغم كل أفعاله السيئة والمؤذية. وبما أن ضميره تلبد هو قادر على الكذب و الظلم و أذى الآخرين و الشعور أنه دائما على حق. يوضح Scott Pieck أن المشكلة في هؤلاء ليست في سلوكهم بل في إنكارهم للذنب. و ليست في أفعالهم وحدها بل في طريقتهم المنظمة و المتكررة و المستمرة في تغطية الشر. و تبرير السوء في كبت صوت يدعوهم للتراجع وهم يرفضون الاعتراف بالنقص، وهذه آلية يستخدمها النرجسي الخبيث للدفاع عن نفسه، إذا شعر بالحسد اتهم الآخرين بالحسد، و إذا ارتكب ظلما زعم أنهم هم الظالمون، يستخدم الآخرين ليطهر صورته النقية و يشيطين الآخرين. إن هذه الآلية منتشرة بشكل واسع بين السياسيين ومن المفارقات أن السياسي الخبيث غالبا ما يظن أنه غير قادر على مواجهة شره الداخلي؛   وبذلك يبني في ذهنه مجتمعا صغيرا مريضا يجبر من يعيش معه على الانصياع لرؤيته.

لذلك علينا أن نحذر من الوقوع في الفخ نفسه، لقد صار من السهل تصنيف أي سياسي نكرهه بالنرجسي الخبيث، لذلك علينا أن لا نطلق أحكاما جزافا على الآخرين دون دلائل ملموسة. فهذا يديننا، نصير مثلهم نسقط ظلامنا الداخلي عليهم و نصير صناع شر نخفي خلف شعورنا بالاستقامة رغبتنا بالإدانة، وهنا يدعون Scott للتأمل الذاتي، هل نحن أنفسنا نمارس الشر؟ و نستخدمه سلاحا لتبرير كراهيتنا؟ السبيل لتجنب هذا هو مواجهة أنفسنا والاعتراف بضعفنا و أخطائنا و قدرتنا على الظلم. يقول كارل يونغ Carl Jung عندما ندرك بوعي أهمية الاسقاطات يمكننا استعادتها، وبذلك نخفف من عدواننا على الآخرين.

إن مواجهة الشر في داخلنا يمنحنا حدسا جديدا و قدرة فطرية على تمييز الخير الحقيقي من الشر الحقيقي، ومواجهة الشر في داخلنا تمنحنا بصيرة جديدة و حاسة سادسة نشم من خلالها رائحة الشر؛ كي لا نلبسه ونغلفه بقناع الطيبة. هذه البصيرة مهم جدا في عالم اليوم.

كثيرا من الأشرار لا يبدون أشرارا، كثير منهم يتقنون التمثيل ويتحدثون بلغة الأخلاق والقيم!

إن بعض الناس لا يدركون أن الشر يتخفى في قناع الخير و كثير من الناس يتوقعون أن الشرير يجب أن يبدو بقناع يشبه الشيطان، لكن أغلب الأشرار يتحدثون بلطف ويغرقون الآخرين بشعارات الخير وكلما ازداد وعي الناس بهذا الشر يجب أن نحذر من أن نصير مثلهم.

قال الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم:" إن الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل مفاتيح الشر على يديه."

اللهم اجعلنا من أكثر الناس أنفعهم للناس واستخدمنا فيما هو خير ونفع لنا و للآخرين .

تم بحمد الله.

وفوق كل ذي علم عليم

وسوم: العدد 1128