أهذه مصر التي نحب؟

من بين الآلاف الذين توجهوا لمصر عبر المطارات، أو عبر الحدود البرية للمشاركة في «المسيرة العالمية لكسر الحصار على غزة» حفيد المناضل نيلسون مانديلا، الذي يحمل اسم جده. جاء مانديلا لينضم للمسيرة التي اتفق منظموها على أن تنطلق يوم 13 يونيو، ثم تسير بطريقة سلمية وحضارية نحو العريش، وتصل إلى معبر رفح يوم 15 يونيو. تجمع الآلاف من أكثر من 50 دولة في مهمة إنسانية سلمية، ليوصلوا رسالة إلى المحاصرين المجوعين تقول «لستم وحدكم. نشعر معكم. لسنا قادرين على فك الحصار لكننا نحاول».

فوجئ مانديلا مثله مثل المئات الذين وصلوا القاهرة عن طريق المطار، بأن السلطات المصرية كانت مصممة على منعهم من تنظيم المسيرة بكل الوسائل. قامت السلطات المصرية باحتجاز جواز سفره فورأ وبقي رجال الأمن ملازمين له إلى أن غادر البلاد.

انتقد مانديلا الحكومة المصرية، ووصفها بالنفاق لدعوتها إلى وقف إطلاق النار وحرية تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة في وسائل الإعلام، بينما تعتقل الناشطين في الوقت نفسه. لكن مانديلا تلقى معاملة أفضل من بقية المشاركين الذين تعرضوا للضرب والإهانات والطرد المذل. فبالنسبة للمغاربة تجربتهم كانت أكثر فظاظة، فما إن وطئت أقدام بعض من تحدوا العراقيل مطار القاهرة حتى اصطدموا بقرار المنع والترحيل إلى بلادهم، تحت حجة عدم الحصول على ترخيص رسمي مسبق، الذي من المستحيل الحصول عليه. أما «قافلة الصمود» الجزائرية التي انطلقت من العاصمة الجزائر والتحقت بالقافلة التونسية، ومنها إلى ليبيا، فلم يسمح لها بدخول الأراضي المصرية بالتنسيق مع المشير خليفة حفتر، الضابط المنشق عن الجيش الليبي الذي يحاول أن يقيم دولته بالتنسيق مع الرئيس المصري وبدعم من الكيان الصهيوني.

مصر خلال حرب الإبادة في غزة وقفت متفرجة في البداية، ثم استغلت اضطرار بعض الغزيين للخروج عبر معبر رفح وفرضت على كل مغارد دفع 5000 دولار. حتى المصري الذي كان في غزة لظروف، عمل أو زواج أو زيارة، عليه أن يدفع ما بين 650 إلى 1200 دولار، لشركة «هلا» التي يديرها العرجاني من قبيلة الترابين الذي يدير شركة مملوكة لجهاز المخابرات. وقد كشف موقع «ميدل إيست آي» أن السلطات المصرية كانت تفرض إتاوة تصل إلى 5000 دولار تذهب للمخابرات المصرية على كل شاحنة مساعدات تدخل المعبر (قبل إغلاقه من قبل إسرائيل). جاء في تقرير نشر يوم 31 يناير 2024، أن متحدثا باسم جمعية خيرية معروفة قال: «لقد عملنا في جميع أنحاء العالم في أوقات الحروب والزلازل والكوارث، لكننا لم نعامل بهذه الطريقة من قبل دولة تتربح من إرسال السلع الإنسانية». يا ليت الدور المصري اكتفى بإحكام الإغلاق على سكان قطاع غزة فحسب، بل منع الشعب المصري من إبداء أي مظهر من مظاهر التضامن مع فلسطين، أو الترحم على شهداء غزة من الأطفال والنساء وكأن الأمر لا يعنيهم. كل من رفع علما لفلسطين أو أطلق شعارا أو لبس كوفية أو كتب تغريدة أو مقالا تم اعتقاله. يوم 5 مايو 2025 تم القبض على ثمانية شباب حديثي التخرج، لأنهم علقوا لافتات لدعم أهالي غزة، حسب بيان من الجبهة المصرية لحقوق الإنسان. أخفي الشبان لمدة ستة أسابيع وتعرضوا للضرب والانتهاكات، واعتقل ستة شبان في الإسكندرية بالتهمة نفسها ـ والمضحك المبكي أن الدولة رتبت خروج مظاهرات حاشدة ضد التهجير أول أيام عيد الفطر يوم 31 مارس، لكن كل من حاول في تلك المظاهرات أن يرفع شعارا لتأييد فلسطين، أو التضامن مع ضحايا غزة تم اعتقاله. وراح «المطبلاتية» في وسائل الإعلام يقولون «الشعب المصري يهز أمريكا» ولم يقولوا «يهز إسرائيل» لأنها فعلا لم تكترث لها. وحاول بعض الطلبة أن يؤسسوا ما سموه «طلاب من أجل فلسطين» وقاموا بمظاهرة فوق جسر 15 مايو في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى، وانتهى بهم الأمر إلى غياهب السجون. لقد تمكنت الأجهزة الأمنية من كتم أنفاس الشعب المصري تماما، وكأن حرب الإبادة في غزة تجري في كوكب آخر. وحسب منظمة حقوق الإنسان فإن هناك 186 شخصا قيد الاعتقال منذ 7 أكتوبر بسبب تضامنهم مع غزة ومعظمهم يواجة تهمة الإرهاب. هذه مصر الحاضر، تقف مع الكيان الصهيوني في مجازره، تغلق المعبر الوحيد وشريان الحياة إلى غزة، وتتخلى عن سيادتها في محور فيلادلفيا وتتكسب من المغادرين ومن المساعدات الإنسانية وتعامل الفلسطينيين معاملة لا يقبل بها بشر وتعتقل كل من يرفع شعارا أو يافطة أو يكتب تغريدة للتضامن مع فلسطين، وتمنع حتى المتضامنين الأجانب أن ينظموا مسيرة سلمية من أجل غزة. وفي الوقت نفسه يُسمح للسفن المحملة بالسلاح أن ترسو في ميناء الإسكندرية ثم تتوجه إلى ميناء أسدود. فقد نشرت منظمة العفو الدولية تفاصيل رسو سفينة تحمل متفجرات متجهة لإسرائيل. وقال التقرير «سمحت الحكومة المصرية للسفينة «إم . في كاثرين» التي ترفع العلم الألماني، والتي تحمل متفجرات بالرسو والتفريغ في ميناء الإسكندرية يوم الإثنين 28 أكتوبر 2024.

هل هذه مصر «أم الدنيا» التي تتراجع أمام الموقف الإثيوبي حول سد النهضة، وتدفن الموضوع في الأرشيفات، وكأن من قال بالأمس إن سد النهضة تهديد للأمن القومي المصري كان مازحا؟ تغيرت اللغة وأصبحت من هذا النوع: «شددنا على أهمية حث إثيوبيا، على التحلي بالإرادة السياسية، للأخذ بأي من الحلول الوسطى التي تم طرحها على مائدة التفاوض، والتي تلبي مصالحها، دون الافتئات على حقوق ومصالح دولتي المصب». هل هذه مصر التي وافقت حكومتها على نقل ملكية جزيرتي «تيران وصنافير» للسعودية، رغم موجة الاحتجاجات التي نظمتها أحزاب المعارضة، والتي أعلنت عدم اعترافها بقرار البرلمان، خاصة في ظل صدور حكم قضائي من المحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية، إلا أن مجلس الشعب المصري أقر الصفقة عام 2017، وصادقت عليه المحكمة العليا المصرية عام 2018. هل هذه مصر التي تسحب وحداتها من السودان وترى جارها الأهم يدخل في حرب أهلية وكل دول المنطقة تتدخل فيها، خاصة دولة الإمارات، وهي الغائب الأكبر وكأن الأمر لا يعنيهم؟ هل هذه مصر التي وصفت حرب إسرائيل على قطاع غزة عام 2014 بأنه «عنف متبادل» وعرضت الواسطة ووقف إطلاق النار؟ هل هذه مصر التي دمرت الأنفاق التي كانت تعتبر شريان الاقتصاد لغزة أيام مبارك الذي كان ضباطه يتقاسمون الفوائد من تلك الأنفاق، ثم يقيم قناة مبنية من الخراسانات الحديدية المسلحة على طول الحدود مع غزة بعمق عدة أمتار ويملأها مياها عادمة كي يلغي وإلى الأبد فكرة التواصل غير المعلن بين مصر وغزة.

هذه ليست مصر التي نشأنا على حبها وسمعنا هدير زعيمها يعلن «إننا لا ندافع عن فلسطين بل عن الأمن القومي المصري». كم كان صادقا عندما تحدث عن مثلث الأعداء «الصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية» ها نحن نراهم مجتمعين لتدمير قضية الشعب الفلسطيني. نذكر قولته الشهيرة «المقاومة الفلسطينية أنبل ظاهرة أنتجتها هزيمة يونيو 67». كيف ننسى شهداء حرب الاستنزاف، وعلى رأسهم عبد المنعم رياض وأبطال العبور في أكتوبر؟ ألهذا المستوى تنحدر مصر وتصبح بلا وزن وأمنها مستباح وجزرها وأراضيها تباع وتتحول إلى حارس للكيان الصهيوني، تسهر على أمنه كما نقل ذلك وودورد في كتابه الأخير «الحرب». نريد أن نشاهد مصر تسترد عافيتها لتعود إلى مكانها الطبيعي في قيادة الأمة العربية نحو التقدم والاستقلال والتحرر، ودحر الأعداء الكثيرين وأولهم الكيان الصهيوني الذي دفع الشعب المصري مئات الألوف من الشهداء خلال سنوات الصراع مع هذا الكيان الغاصب.

وسوم: العدد 1128