الألفة الغافلة
ما شدّني في مطالعاتي القديمة مصطلحٌ وظّفه الأستاذ الدكتور سعيد حوّى، صاحب التجربة والفكر والتربية، رحمه الله تعالى، وهو مصطلح سمّاه: «الألفة الغافلة».
والغفلة مرضٌ خطير، تنشأ حين تتراكم الأحداث وتتزاحم في سير الحياة، وتتداخل العوامل، فتمرّ سريعًا دون وعي أو وقوف، فيضعف التركيز، ويصبح المرء لا يتأثر إيجابًا ولا سلبًا، كأنه في سرير التخدير والإنعاش، حيث يغيب جهاز المراقبة الداخلي؛ بسبب غفلة الألفة والتعوّد.
ولا تقتصر خطورة الألفة الغافلة على الجانب الأخروي فحسب، بل تمتد إلى واقعنا المعاصر حيث تُطفئ الروتينات اليومية – كالعمل الرتيب أو إدمان المنصات الرقمية – شعلة الوعي، وتجعل الإنسان يسير كالسائر في ضباب، يسمع ولا يسمع، يرى ولا يُبصر! وكما قال الفلاسفة: «الاغتراب عن الذات بداية موت الروح».
قال سعيد حوّى:
“إن من أشد ما يصيب الإنسان دمارًا على المستوى النفسي والسلوكي أن يألف نعم الله، ويألف المحيط من حوله، حتى يصبح قلبه لا يتفاعل، وعقله لا يتأمل، وروحه لا ترتقي.”
[المصدر: تربيتنا الروحية، ص134]
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحالة النفسية في مواضع كثيرة، مصورًا أثر الغفلة في انطفاء الشعور وتبلّد الإحساس، قال تعالى:
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ... لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
[ق: 19–22]
وقال سعيد حوّى في تعليقه على هذه الآية:
“إن أسوأ ما يمرّ به العبد أن يعيش في غفلةٍ حتى تأتيه لحظةُ الحقيقة، فينكشف الغطاء وتبدو له الحقائق، في وقت لا ينفع فيه ندم، ولا تقبل فيه توبة، وهذا مصداق قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}.”
[المصدر: الأساس في التفسير، ج12، ص380]
وفي خضم هذه الغفلة العميقة، يبرز المؤمن بيقظته الدائمة، التي تجعله حيّ الضمير، متحرّك الوجدان، لا تؤثر فيه العادة، ولا تنسيه النعمة.
قال سعيد حوّى:
“العبد المؤمن حيّ دائمًا، فهو لا ينام نوم الغافلين، بل يعيش مع ربه في كل لحظة، ويدرك رسائل السماء في كل حدث، وهذه هي اليقظة الإيمانية.”
[المصدر: جند الله ثقافة وأخلاقًا، ص110]
ولكي لا يصاب الإنسان بهذا الداء الخطير، دعا الله تعالى عباده إلى لزوم العبادة والذكر، فقال:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً... وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}
[الأعراف: 205]
ومن الوسائل التي أوصى بها سعيد حوّى للوقاية من الألفة الغافلة:
الصحبة الصالحة
“الصحبة الطيبة مدرسة إيمانية تدرّب النفس على المراقبة وتحرّك القلب نحو المعالي.”
[المصدر: جند الله تنظيمًا، ص97]
مجالس العلم
“العلم نور، وإذا انطفأ النور عمّت الظلمة، ومجالس العلم تطرد عن القلب الغفلة.”
[المصدر: تربيتنا العلمية، ص45]
الربط بين العبادات والحياة
“كلما فهم العبد حقيقة العبودية، ازداد يقظة، وخرج من روتين الطقوس إلى تفاعل حيّ مع كل تكليف.”
[المصدر: الإسلام، ص92]
وتضاف إليها وسائل عصرية تناسب تحديات زماننا:
- التنويع الذهني: تعلم مهارات جديدة، أو السفر، لكسر الجمود وتنشيط العقل.
- التأمل الواعي: دقائق يومية لمراجعة الذات واستشعار نعم الله، كما في قوله تعالى:
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
[الذاريات: 21]
- مواجهة التحديات: الانخراط في الأعمال التطوعية وتجارب جديدة، لإعادة شحن «جهاز المراقبة الداخلي».
وهكذا يصبح المؤمن، بعيدًا عن الغفلة، كالنخلة:
جذورها في الأرض (الواقع)، وقمتها في السماء (الروح)، تتجدد ثمارها كل موسم.
فاليقظة الإيمانية لا تنفصل عن اليقظة الحياتية، والعبادة لا تكتمل إلا بوعي حيّ يُحيي القلب والعقل معًا.
في الختام، نسأل الله تعالى أن يرزقنا يقظة إيمانية تنير قلوبنا، وتدفعنا إلى الصلاح والعمل، وأن يعيذنا من الغفلة والكسل، ومن الألفة التي تقتل الشعور وتفسد البصيرة.
“الغفلة تشبه النوم في قاربٍ يمزقه الماء..
تظن نفسك آمنًا حتى تسمع صوت الأخشاب تتكسر!”
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
[الذاريات: 55]
وسوم: العدد 1128