التحصين والمساءلة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

عقب حرب رمضان شكّل العدو لجنة تحقيق عرفت باسم القاضي أجرانات انتهت إلى إدانة رئيس الأركان ورئيس الموساد وقائد الجبهة الجنوبية ( سيناء ) واتهمتهم مع عدد من القادة العسكريين الآخرين الأقل رتبة بالتقصير ، وتمت تنحيتهم من وظائفهم ومن الجيش الصهيوني . صحيح أن ديفيد أليعازر رئيس الأركان وشموئيل جونين قائد الجبهة الجنوبية تقبلا القرار بهدوء ولزما الصمت ، ولكن إيلي زعيرا رئيس الموساد ظل يدافع عن نفسه - وقد جاوز الخامسة والثمانين – حتى اليوم لأنه يرى نفسه قد قام بواجبه.

في المقابل فإن الفريق صدقي محمود قائد الطيران المصري عامي 56 ، 67 لم يكن قد زود الطائرات المصرية عام 56 بالوقود فلم تستطع الطائرات المصرية أن تطير وتواجه الطيران الصهيوني في العدوان الثلاثي ، وتحطمت الطائرات المصرية وفرق المشاة والمدرعات التي كانت موجودة على أرض سيناء ، وكان التبرير الذي تم تقديمه أو قيل لجمال عبد الناصر يومئذ : إننا احتفظنا بالطيارين حتى لايصطادهم العدو حيث يصعب تعويضهم ، أما الطائرات فيمكن تعويضها !

المفارقة أنه بدلا من محاسبة صدقي محمود وقائده العام عبد الحكيم عامر الذي رقي من رتبة صاغ ( رائد ) إلى رتبة المشير مرة واحدة ،  بقي الرجلان في منصبيهما إحدى عشرة سنة ليدخلا حربا أخرى وينهزما مرة أخرى ، ومع أن رئيس الدولة أعلن في يونية 67 أن الحرب على وشك الوقوع فقد كان قائد الطيران صدقي محمود وقادة آخرون يقود حفلا ليليا فنيا ترفيهيا حضرته ( خيرة ) الفنانات والفنانين وظل الحفل حتى خيوط الفجر ، حيث أوى الطيارون إلى النوم ، وبعدها بساعتين أو ثلاث ، كان موردخاي هود قائد الطيران اليهودي يرقص على مكتبه ، ويخبر ليفي اشكول رئيس الوزراء الصهيوني أن سلاح الجو اليهودي استطاع تدمير الطيران المصري وهو جاثم على الأرض باستثناء سرب واحد ، استطاع قائده ( اللواء مدكور أبو العز ) الهروب به إلى السودان !

وعندما غضب الشارع المصري على ماجرى كانت محكمة هزلية ، تم تلبيس المسئولية فيها لقادة مساكين . أما المسئولون الكبار فقد نجوا من المساءلة ومن الحساب الحقيقي!

يمكن القول إن جيش العبور تم إصلاحة وبناؤه على أسس احترافية وقيادات مقاتلة حقيقية ، وكان المأمول أن يستمر وفقا لمعركة العبور جيشا متفرغا لمهنة القتال ، تتجدد دماء قادته باستمرار وفق نظام الأقدمية كل أربع سنوات ، ولكننا وجدنا بعد كامب ديفيد نظام ما قبل 67 يعود مرة أخرى وفقا لمقولة السادات إن حرب رمضان هي آخر الحروب ، مع أن العدو النازي اليهودي لم يتوقف بعد كامب ديفيد عن غزو لبنان وضرب الفلسطينيين في الضفة والقطاع بأحدث أسلحة الطيران والدبابات والمدفعية ، فضلا عن الغارات الجوية على العراق لتدمير مفاعله النووي ، وسورية لتدمير منشآتها النووية والصاروخية ، والسودان لتدمير قوافل السلاح الإيرانية التي قيل إنها متوجهة إلى قطاع غزة .

الجيش اليهودي يواصل القتال ، والجيش المصري لم يطلق رصاصة واحدة طوال أربعين عاما ، وظل بعض قادته الكبار أكثر من عشرين عاما في القيادة العامة حتى تآكلت مفاصلهم مثلي وثقل سمعهم وضعف بصرهم . مع انهم بدءوا حياتهم العسكرية عندما كنت مجندا مستبقى بسلاح المشاه .

استبشرنا خيرا بعد ثورة يناير ، وفرحنا بتغيير القيادات الهرمة مثلي ، ولكننا فوجئنا بالخديعة الكبرى والإصرار على بقاء النظام المستبد الفاشي كماهو : الشرطة الفاسدة ، والمخابرات المشغولة بنشر الإشاعات وتشجيع القلاقل والاضطرابات وتعذيب الأسري الإسلاميين لحساب أميركا والغرب ، والقضاء حامي حمى العلمانية في بلاد الإسلام ، والإعلام الخاضع لإرادة اللصوص الكبار والمعادي للإسلام والمسلمين .  وتشكيلات التنظيم الطليعي ممن لاخلاق لهم ويمثلون عماد الدولة البوليسية .

 الانقلاب يستعيد دولة القمع مرة أخري بصورة أكثر وحشية لتبقى قيادات جيش يونية بغير حساب ولا مساءلة ، وتعيش فوق الدولة والقانون ، وتبني امبراطورية تصنع الخبز وتبيع البنزين والسولار وتنزل الأسواق لتعرض منتجاتها من الخضار والفاكهة .. ثم يأتي عملاء الأجهزة الأمنية من الشيوعيين والناصريين والليبراليين والمرتزقة ليكتبوا دستورا على مقاس العسكر يحصنهم ضد التغيير ، ويحميهم من المساءلة ، فضلا عن شطبهم لهوية مصر المسلمة وتمكين الأقليات العلمانية والطائفية من الاستمرار في هيمنتها على مفاصل الدولة .

لايوجد في العالم دستور ديمقراطي يحمي وزير الدفاع وقيادات الجيش من الحساب والمساءلة ، ويجعل وزير الدفاع جالسا على قلب الجيش والدولة والمجتمع آمادا طويلة ، ويمنع الأجهزة الرقابية من متابعة ميزانيته ومصروفاته ووارداته . وكل الدساتير المحترمة تجعل وزير الدفاع مسئولا سياسيا مدنيا بالدرجة الأولى ، رجلا أو امرأة ، وقد عينت فرنسا ،  ومن بعدها اسبانيا وكندا امرأة شابة ، وكانت حاملا ، وزيرا للدفاع ، ولم تنقلب الدنيا ، ولم تتأثر كفاءة القوات المسلحة في البلدين . والعدو الصهيوني يضع نظاما حيويا لتعيين القيادات كل أربع سنوات ، ويجعل رئيس الأركان هو القائد العام للجيش ، مثلما يكون رؤساء أركان الجيوش النوعية هم قادة هذه الجيوش، ومهمة وزير الدفاع الذي يرتدي ثيابا مدنية هي الجلوس مع رؤساء الأركان لمناقشة متطلبات السلاح وتقدير المواقف التي تقدم للمستوى السياسي ليتخذ القرارات الملائمة . بالطبع لا يوجد هناك من يهتف لوزير الدفاع ويرشحة ليكون حاكما أبديا أو يتغزل فيه وفي ضباطه بوصفهم جاذبين للنساء .

إن كتاب البيادة وصحفييها يرفعون تحذيرات بأن الجيش خط أحمر ، وأن شرف العسكرية يمنع التعرض للعسكر ، وأن الجيش مقدس لا يجوز لمسه ، وهذا انحراف فكري وخلقي وسلوكي ، لأن الدول المحترمة تحاسب جيوشها وقادتها ،وتحرص ألا تتجاوز هذه الجيوش مهنتها الأساسية ، وهي القتال ضد أعداء الوطن الخارجيين لتستحق الحياة ، ويستحق قادتها الاحترام .

هل هناك جيش في العالم يحارب شعبه ويقتله بالرصاص الحي بناء على تفويض أقليات فاشية وفاشلة وينشر مدرعاته ودباباته في الشوارع ما يقرب من ثلاث سنوات ، ويتحول جنوده إلى شرطة بائسة تغيرت عقيدتها القتالية لتستخدم القمع والقهرضد شعبها وأهلها وتفرض تكميم الأفواه ومحاربة الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان ؟

أظن أن هذا الوضع هو الذي دفع صحيفة الجارديان البريطانية وهي ليست إخوانية ولا إسلامية ولا قطرية لتشير في عناوينها الرئيسية إلى أن الانقلاب يقود مصر إلي الهاوية.. وأنه تجب إحالة قادة الجيش إلي المحكمة الجنائية الدولية.. وأن مصر تستخدم الشرطة السرية لنظام مبارك ضد الإخوان ..وأن مصر تتجه من سيئ إلي أسوأ.. وتنتظر ثورة ثالثة. نسال الله الرحمة والعفو والمغفرة.