قادة الأمة

شريف زايد

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ» . [رواه الحاكم في المستدرك]، قال الإمام الشاطبيّ : قَالُوا الرويبضة: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ. [الاعتصام]، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يتقدم لقيادة الناس وهم لقيادته راضون. ونحن اليوم في زمن الأوهام، زمن تَسوَّد فيه رويبضات، إما على رقاب الناس، فكانوا حكاما تافهين ينطقون في أمر العامة، وإما رويبضات تسلطوا على عقول الناس، يُصدّرون للناس أوهامهم باعتبارها حقائق لا تقبل الجدال، ولعل تفاهة حكامنا على مدار عقود مضت، تكاد تكون من المسلمات على الأقل عند الجيل الحاضر، لكن الذي يحتاج بيانًا وتبيانًا هو تفاهة الرويبضات الذين سُلطوا على عقولنا لزمن طويل، فتصدروا الشاشات وصفحات الجرائد ومواقع الإنترنت، وأُبرزوا على أنهم قامات فكرية عملاقة، بينما هم بالفعل أدوات في يد أعداء الأمة يستعملونهم لضرب عقيدة الأمة وتاريخيها وتراثها التليد، ومن ثم يريدون أن يحشو عقولنا بتفاهات الفكر الغربي المأزوم الذي عطل الحياة الحقيقية في بلدان العالم الإسلامي. فتراهم يرددون ألفاظ الديمقراطية والحرية والإخاء والمساواة ترديد الأبله الذي لا يدري ما يقول، أو كالحمار الذي يحمل أسفارا، فهؤلاء كتاب ومفكرون وأصحاب رأي وصحفيون ورؤساء تحرير، يحملون ألقابا ونياشين من رويبضات نظام مهترئ، وربما حازوا على جوائز دولية بكتابات ساقطة وقصص مملولة وأشعار منحطة، هؤلاء هم الذين يتصدرون المشهد الفكري والثقافي في مصر، بل وفي غيرها من بلاد المسلمين، وهم الذين يحظون بالدعم المالي والسياسي من قبل القائمين على المؤسسات الثقافية في بلادنا، والتي أصبحت حكرًا على أناس يكرهون أنفسهم، لأنها ربما تحدثهم خلسة عن عظمة الإسلام، ويكرهون أمتهم لأنها تتطلع إلى الإسلام، بل وتتغنى بتراثه العظيم عبر التاريخ، بينما هم لا يرون التاريخ إلا من منظور أعداء أمتهم، بل لا يرون تاريخًا، إلا تاريخ الغرب المضبوعين بثقافته، أو تاريخ بلادنا السابق على الإسلام.

ولن أذكر أسماءً هنا ولا حتى أوصافا، فالكل يعلم من هم هؤلاء الذين أتحدث عنهم، والكل يرى ما وصلنا إليه من تبعية مقيتة لحضارة غريبة عن حضارتنا، ومن ترديد لأفكار هي أبعد ما تكون عن عقيدتنا وما ينبثق عنها من أفكار، بل ترى هذه الحفنة من المضبوعين أشد عدواة لأفكار الإسلام من أعدى أعداء الأمة الذين ليسوا من جلدتنا ولا يتكلمون بألسنتنا. فالخلافة عندهم وهم، والعفة عندهم تخلف ورجعية، والجهاد عندهم همجية، وهلم جرا...

لقد استطاع الانقلابيون بانقلابهم هذا إعادة هؤلاء الرويبضة لواجهة الصراع مرة أخرى، باعتبارهم العصا التي يستعملونها لضرب الفكر الإسلامي وحملته، من خلال حملة تشويهية لرجالات التيار الإسلامي ولأفكار الإسلام السياسية المتعلقة بالحكم والاقتصاد، ومن هنا برز مصطلح الإرهاب من جديد، ورفع لواء الحرب عليه بشكل معلن.

فهؤلاء المأجورون الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم هم معول هدم لا أدوات بناء، أعلوا من شأن الديمقراطية، وركعوا بل وسجدوا لها لما أفرزت لهم ما يشتهون من عري وانفلات، وعداء لكل ما هو مقدس، وداسوا على ديمقراطيتهم المزعومة بالنعال حينما أسفرت عما لا يحبون. ولو أنهم فكروا فيها ولم يفكروا بها لكان خيرا لهم، ولأدركوا مدى فسادها، وللفظوها وما انساقوا وراءها كالعميان شاخصة أبصارهم تجاه الغرب، مقتفون لآثاره حذو القذة بالقذة، فإذا دخل جحر ضب دخلوه وراءه، لقد صاروا حبيسي هذا الجحر، ولو صُب عليهم زنوبا من الماء لخرجوا من جحرهم يهرعون لا يلوون على شيء.

ربما يتوهم أذناب الغرب في بلادنا من العلمانيين والليبراليين والديمقراطيين أنهم قادرون على قيادة الأمة وصرفها عن إسلامها، بوصم من يحمل هَمَّ جعله مطبقا في واقع الأمة بالإرهاب، وهُم بهذا الوهم سطحيون سخفاء، وعلى الأمة أن تدرك واقعهم جيدا، إنْ هم إلّا شخوص وخيالات، وإن كان هناك إرهاب فهم من يمارسونه بمصادرة آراء خصومهم الفكريين، ورغم أن كثيرا منهم يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ولكنه ألد الخصام، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة، 204-205]، لذا فهم مكشوفون للأمة ومكشوفة ألاعيبهم، وهم مجرد أدوات في يد رأسماليي السلطة الذين يتحكمون في مفاصل الدولة، يحافظون على مصالحهم بإغداق الأموال على أدواتهم الرذيلة تلك.

أحد هذه الأدوات دائما ما يزيل مقالته بجملة "الديمقراطية هي الحل"، حتى لو كانت مقالته تتحدث عن أسعار الفجل والجرجير، وهي محاولة ساقطة منه لضرب شعار "الإسلام هو الحل" الذي يشكل وجدان الأمة، وإن لم تتلمس بعدُ واقع هذا الشعار على الأرض. ذلك أن الأمة ترى مشاكلها تتراكم وتزداد يوما بعد يوم في ظل هذه "الدول الوطنية" الفاشلة التي أورثها الاستعمار أراضي الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولم تستطع منظومة الدول الوطنية العلمانية الديمقراطية تلك أن تنهض بشعوبها فضلا عن أن توقف تتدهورها، فهي منذ تأسيسها ليست دولا فاعلة بل مفعول بها. والأمة تدرك في أعماقها أن حلول كل مشاكلها تكمن في الإسلام.

إذًا، لا يمكن تصور هؤلاء قادة للأمة، فللأمة قادتها الحقيقيون الذين يقودونها بالإسلام الذي يشكل عقيدتها وحضارتها، الكامن في أعماق أعماق وجدانها، فمن للأمة غير من وهب نفسه للعمل لإنهاضها، لا يريد من وراء ذلك جزاءا ولا شكورا، من للأمة غير رجال لا يرضون الذل والتبعية لأمتهم، لا يرضون أن تتسول أمتهم قوتها وفكرها ودستورها من الشرق أو الغرب، من للأمة غير أصحاب الفكر المبدئي الذين يبدأون من الأسس ومن البدء، لا من أنصاف الحلول، يدركون أن نهضة أمتهم نهضة صحيحة لا تتم إلا بالإسلام، ذلك أنه هو المبدأ الحق لأنه من عند الله تعالى. من للأمة غير رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلاة، من للأمة غير رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا يبدلون ولا يتبدلون ولا يتلونون. ولا يمكن أن يكون قادة الأمة، أصحاب الفكر العلماني الليبرالي الديمقراطي، الذين إن أُعْطُوا رضوا، وإن لم يُعطَوا إذا هم يسخطون، يبيعون قلمهم لمن يدفع أكثر، قاتلهم الله أنّى يؤفكون.