على هامش فشل دراسي

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

سوف توقِن أنه الفشل بعينه حين ترى طفلك يتهجّى الراء في ثالث أيام البدء، ويلوي لسانه وتعوّج شفتاه وهو يحاول نطق voleur الفرنسية. ثم تبذل وُسعك لتقنعه أن هنالك راءً عربية، وغينا فرنسية، وأخرى عربية، وأنه يجوز في حالة انحباس اللسان أن تقول "فولور" بدل "فولوغ"، و"رونار" بدل "غوناغ". لكن أولي الألباب موقنون أنه لا غنى عن لغة موليير، وأن الطفل يولد فرنسيا بالفطرة، وإنما أبواه يعّربانه. لن يراودك شك في أنه فشل دراسي حين ترى ابنك الذي تطأ قدماه الصغيرتان أرض المدرسة أول مرة يعود إليها في اليوم الموالي وهو يجرّ حقيبة مثقلة، حشْوُها دفاتر وكتب وأوراق. ثم يُخرج دفترا ويقول لك: ما الخط المغربي يا أبي؟ لقد طلبتْ منا المعلمة أن نصل الجواب الصحيح بخط. تسترجع ذاكرتك فلا تعثر على خط مغربي، وإنما تتزاحم أمامك صورة لوحة صغيرة وطبشورة ودفتر، وكتاب صغير تجذبك رسومه، وتسحرك ألوانه. في صفحته الأولى باء كبيرة حمراء تردّدها إلى ما شاء الله، ثم تعود إلى البيت مبتهجا وقد حفظت: "بابا، بُوبي، بابٌ". تلك أدواتك، وذلك حِفظك!

يتنقّل ابنك بين فرنسية وعربية سرعان ما يجمع الله بينهما في خير فيُنجبان عَرنْسِية بريئة براءة الأطفال المدلَّلين. يُسعدك أن ترى ابنك يردّد أولى كلماته الفصحى ويَعدّ إلى العشرة، ثم تبشّ به حين يطلب منك أن تصحّح قراءته وتُقوّم خطّه، ثم ما تلبث أن تتحول بشاشتك إلى ضجر حين تراه يعود مصطحبا "عملَ البيت"  كل يوم. تحدّثك نفسك أن تدع المقارنات جانبا، فإن ابنك خُلق لزمان غير زمانك. وإذا كنت تغدو بالأمس تسارع الخطى إلى مدرستك بلا رفيق فلا بأس أن يغدوَ ابنك ويروح على متن حافلة المدرسة، وإن كانت المدرسة قاب قوسين أو أدنى. لا بأس فإنه ما عاد للطفولة حُرمة، وما أكثر المتربّصين!

أما الوالد، وإن كان لا يتخالج في صدره شيء من قول القائل "إن الإنسان إنسان بالقوة إذا لم يعلم، فإذا علم كان إنسانا بالفعل"، فليس يقدر على دفع الضجر برأي داود الأنطاكي. كيف وقد كُتب عليه أن يُعيد حكاية سقراط الذي تآمر عليه الجَور والشوكران من الثامنة صباحا إلى أن ينتصف النهار؟ وبقدر تشوّق كل فصل إلى سماع الحكاية يكون سأمُه من إعدام سقراط مئات المرات قد بلغ منتهاه. لكن ألَمَه يخفّ حين يحدثه زميله أنه منذ ثلاثين سنة يعيد على مسامع تلاميذه مع مطلع كل عام جديد السؤال نفسه: "what’s your name?"، "how are you? ". ثم يعقّب معلم الإنجليزية: "وعن حالي لا تسلْ! أنا حمار الأجيال". أما زملاؤه الآخرون فلا يبرمهم شيء كطول المقروء وكثرة المحفوظ، على زهد القارئ وقلة الحافظ. فأما الإبرام الأول فإثمه على من لم يدرك أن رواية العلم كثيرٌ وعقلَه قليل قليل، فيا بؤس من فاته قول الشافعي: "العلم ما نَفَع، ليس العلم ما حُفِظ!" وأما الإبرام الثاني فباءَ بإثمه مَن لا يُقدّر العلم حقّ قدره. وتلك لَعمري مصيبة، لكن المصيبة أعظم حين لا يُقدّر العلمَ من يُعلّمُه. وهل جانبَ الصواب من قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"؟ فللّه درّك يا ابن سيرين!

يكبر طفلكَ رويدا رويدا، وتكبر حقيبتُه، وكلما فتحتَ الحقيبة رأيت حروفا تكدّس بعضها فوق بعض، وأذهلتك كثرة القيل والقال. ثم لا ترى ابنك وقد بلغ أشدّه يحسن شيئا غير الجدال، ولا تجد العلم الذي لُقِّنه نَقله من حال إلى حال، فلا هو أكسبه خلقا ولا هو أورثه علما نافعا. هي عشرات الأحرف يا أم سفيان لا عشرة، وما رأيت في ابني زيادة في مشية، ولا في حِلم ولا وقار، أفترَينَه العلم الذي لا يضرّ ولا ينفع؟ بل إنه ما أدرك ما أدركَه الأصمعي من أنّ أول العلم الصمت. ثم تأسف لطول الطلب وقلة النفع، وإذ بك تتساءل: "أما كان يكفي أن يتعلّم طفلي التفكير، ثم يوجّه تلقاء الوجود يتفكّر فيه وقد أدركَته دهشة النّبهاء؟".