الشاعر الروح: جمال فوزي

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على مصطفاه ، والرحمة للشهداء الأبرار ، والمجد للمجاهدين الأطهار ، والخلود في الفراديس العلا وغرفاتها ، للمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وملؤوا الميادين دعوة إلى الله ، فسيقوا إلى الجنة زمراً ، اقتيدوا إلى أقباء السجون ، وجحيم المعتقلات ، فقضوا نحبهم تحت تعذيب رهيب رعيب ، على أيدي جلادين قتلة ، ليسوا من البشر ، منهم من يمشي على رجلين ، ولكنه دون من يمشي على أربع ، كانوا أشدّ وحشية من الوحوش ، وأغبى غباء من البهائم السوائم ، وكان صاحب هذا الديوان (الصبر والثبات) ، وعشرات الآلاف من إخوانه الأبرار ، ممن قضوا نحبهم تحت التعذيب مئات المرات ، وليس مرة واحدة ، فالموت الذي يلاقيه الأحياء هو أهون ألف مرة ، من حفلة تعذيب واحدة على أيدي أولئك الجلادين ، ومن ذاق عرف ، وممن ذاق أهوال تلك الحفلات ـ شاعرنا المجاهد الثائر : جمال فوزي .

بعد أن توثقت الصلة بيني وبين الأخ الحبيب ، الشاعر المجيد ، الأستاذ الدكتور جابر قميحة ـ رحمه الله رحمة واسعة ، ورحمني ـ عبر الهاتف ، فلم يشأ  الأشرار أن نلتقي وتلتقي منّا الأشباح بعد لقاء الأرواح ـ قال لي الدكتور جابر :

ـ أريد أن نعمل عملاً مشتركاً ، يظهر فيه اسمانا معاً عليه.

فتسابقت الكلمات من عمّان الرائعة ، إلى القاهرة المحروسة :

ـ نخرج شعر الشاعر جمال فوزي في ديوان ، ونكتب له مقدمتين ، إحداهما عن حياته ، والثانية عن شعره.

فقال أبو ياسر :

ـ عندي شعره ، واقتراحك وجيه ، وأرجو أن نبادر إلى إخراجه .

ودارت الأيام ، وغرقنا في تيار الحياة ، فقد اندلعت الحوادث في مصر والشام ، وشبّت الحرائق ، وكانت الأفاعي والثعابين لنا بالمرصاد ، فـ (الجواز) كبّلني ، والمرض أقعده ، وتدخَّل القدر ، وحال بين لقائنا الأجل ، فانتقل الجابر إلى رحمة الله وعفوه ورضوانه ، وبقيتُ وحدي أكابد لأواء الحياة ، في انتظار الرحيل .

فالرغبة شديدة ، وقديمة في إظهار دواوين الشاعر الروح جمال فوزي ، والكتابة عنه ، في رواية تحكي ملحمة الحياة مع أوباش القرن العشرين ، فقد تبعتها ملاحم أشد هولاً من ملحمة الإخوان في مصر ، فقد سار الطغاة في الشام ، في ركاب طواغيت مصر ، وكانوا أقسى وأنذل ، لعنة الله عليهم أجمعين .

واليوم يتحقق جزء من هذه الرغبة ، على يد شيخنا المستشار عبدالله العقيل ، مؤرخ الدعاة إلى الله ، في كتابه البديع : (من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة) في مجلداته الثلاثة ، التي تمتح من حياة الشخصيات الإخوانية المباركة ، وتصبُّ في محيطها المترامي الأطراف ، فقد بادر الشيخ أبو مصطفى إلى طباعة هذا الديوان على نفقته مشكوراً مأجوراً . ونتطلع إلى جمع شعر شاعرنا في ديوان كبير ، كما فعلنا مع شاعر الدعوة الأستاذ وليد الأعظمي الذي جمعنا شعره في مجلد كبير أطلقنا عليه (ديوان وليد الأعظمي) .

وهذا الديوان من الشعر الدعوي ، كله دعوة ، كله إخوان ، كله إسلام ، كله جهاد ، كله صبر ومصابرة على الأذى ، كله رباط ومجاهدة في سبيل الدعوة ، في سبيل نصرة هذا الدين العظيم ، والتضحية بأغلى ما كان يملكه الأخ الشاعر الروح جمال فوزي ـ طيّب الله ثراه ـ من صبر وثبات على الحق ، مهما طغى الطواغيت وتجبروا ، فما كان يخشى أولئك الأشرار الذين شلّوا شقَّه الأيسر ، وذهبوا بإحدى كريمتيه ، وعذَبوا آلافاً مؤلفة من إخوانه أمامه ، حتى الموت ، وآخرون رآهم معلّقين على أعواد المشانق ، سمعهم يهتفون هتافهم الخالد : الله أكبر ولله الحمد ، وهم يتقدمون بشموخ الرجال إليها .. ولم يأبه بالسياط تحرق جلده ، وتكسر عظمه ، لا تكاد تجد مثل شعره المناضل العنيد هذا إلا عند القلائل من الشعراء الموهوبين الممتحنين ، كالشاعر المبدع هاشم الرفاعي صاحب القصيدة البديعة : (رسالة في ليلة التنفيذ) وكالشاعر الشهيد سيد قطب في قصيدته الدعوية الشامخة : (أخي) ، وكالشاعر الدكتور نجيب الكيلاني ، لا نكاد نجد ـ إلا القليل ـ مثل شعر شاعرنا جمال فوزي ، في بساطته ، وصدقه ، وجيشان عاطفته ، وعمق إيمانه ، وشفافية مشاعره ، وفي أسلوبه الرقيق ، وفي رقّته حُمَمٌ تسوط الطغاة البغاة ربائب اليهود والمفسدين في الأرض ، وما أكثرهم ، وقد توزّعوا في كثير من بلاد العرب والمسلمين ، بل في أرجاء الأرض ، وإن كانوا في بلادنا العربية أقسى قسوةً ، وأعتى عُتوّاً من غيرهم في البلاد الأخرى ، فقد كانوا مطايا خسيسة لأسيادهم ذئاب الشرق ، وضواري الغرب .

إن كل أخ بسيط معذّب أراه ، يتمثل لي فيه جمال فوزي ، الذي أحسُّ أن كل كلمة من كلماته ، وكل همسة ودمعة ، وكل آهة ، وقطرة دم ... هي قطعة من قلبه ، ومن نفسه ، ومن روحه ، ولو أردت أن أضرب الأمثال ، وأورد بعض الصور التي صوّر بها نفسه في لحظة عذاب ، أو صوّر بها بعض الإخوة المعذّبين ، والشهداء ، والمعتقلين والمعتقلات ، من الصغار والكبار ، صورة المجاهد البطل في القيود والأغلال ، صور من الآباء والأمهات ، من الأبناء والبنات ، من الثكالى ، من المجاهدات العفيفات الطاهرات ، وهن في الزنازين ينهش لحومهنّ الطاهرة ، ذئاب في صورة بشر ، وكلاب أخذت الكثير من لؤم أولئك الذئاب التي تمشي على قدمين في أعين الناس ، وهم ممن يمشي على بطنه ، منبطحين في سائر أحوالهم ، لا يرتدّ إليهم طرفهم ، وأفئدتهم هواء ، رضعوا من أثداء الضباع والسباع والضواري ، منهم المجرمون الذين لا يغيبون عن ذاكرات المعذبين في سجونهم من الضباط (الكبار) في الجيش وأجهزة الأمن المتوحشة ، والمخاريق ، الأنذال الذين خرّبوا البلاد ، وأذلّوا العباد ، وهم المخرِّبون الأذلاء ... لو أردت هذا ، لامتدت هذه المقدمة وطالت .

جمال فوزي ، وعشرات الآلاف من إخوانه المعذَّبين في مصر ، من ذوي الأرواح الشفيفة ، اغتالهم شيطان مريد من أبالسة العصر ، اجتالتهم نفوس موغلة في الإجرام ، هي الآن تتقلب في قاع الجحيم ، وعلى إثرها مريدون مردة ، مردوا على النفاق والجحود والإجرام ، تتابع مهماتهم ، ففي أيدي أسيادهم الذئاب ، سياط ، ودولارات ، وتنك ، وما رَذُل من المعادن الخسيسة الخبيثة التي تأبى إلا أن تكون مقبورة في مزابل التاريخ ، لا يذكرها إنسان إنسان ، إلا وهي مسبوقة وملحوقة باللعنات تنصبّ عليهم صباً ، فرادى وزرافات ، إنها .. إنهم ثعابين وسموم تلبّستهم أبالسة الأرض ، فكانوا وصاروا حصب جهنم ، وبئس المصير :

خسئتِ يا أمّنا الدنيا فأفٍّ لنا = بنو الخسيسة أوباش أخسّاء

بينما الشهداء أبناء الآخرة ، أحياء عند ربّهم وشهود ، وأرواح في حواصل طيور خضر ، يحلّقون في السماوات العُلا .. يا نُعمى لهم .. وما أحيلاهم .. ويا بؤس من حسبوهم قتلى أضاعوهم في مجاهل الواحات ، وطره ، والسجن الحربي ، وسواها من المعتقلات الناصرية الغاشمة .. وما أشقاهم .

ألا ما أحوج الأمة إلى منارات ، كجمال فوزي ، تومئ للإنسان : أن أقدم ، فهذا هو طريق الخلاص لك ولشعبك ووطنك وأمتك ، لبنيك وحفدتك إلى يوم الدين ، وغيره زبدٌ كلّه ، فكن الإنسان الذي يتجافى عن الزبد ، حذار أن تكون من الزبد ، فالعمر قصير ، والمصير رهيب ، والمستقر في أصل الجحيم ، ولا يغرَّنك ـ يا أيها التافه الذي ضلّ سبيله ـ من الأوشاب السائرين في ركاب القتلة والمجرمين ، مظاهر تبدو خلابة ، وهي وأصحابها في غاية البؤس والتعاسة ، فقد هداك مولاك النّجدين ، فاختر ما يليق بالإنسان إن كنت إنساناً ، لتنجو في الدنيا والأخرى ، وإياك مما يخزيك فيهما معاً .

***

جمال فوزي وإخوانه المجاهدون الدعاة ، هم الطلائع الذين افتدوا شعبهم بأنفسهم من أجل إسعاده ، وبحريتهم ليختار ، ومن أجل هذا الاختيار ، تألق فوزي نجماً لم يسمّه الفلكيون بعدُ ، ولكنهم سيفعلون في يوم قريب بإذن الله تعالى .

إن ظاهرة الفداء لدى جمال فوزي وإخوانه ، جدير بالدارسين أن يتدارسوها ، أدبياً ، وسياسياً ، وإنسانياً ، وإسلامياً ، فهو وهم مشاعل توصوص في الظلمات ، تهتف بحرية الإنسان ، وكسر القيود والأصفاد ، فالإنسان أهل لهذا ، والوطن لا يجوز تجاهله خوفاً وطمعاً ، لابدّ من افتدائه ، بكل ما يحمل من قيم ، حتى لو كان الثمن عذابات وسياطاً ومشانق ومقابر مجهولة ، مجهولاً من فيها من الناس ، ولكنها عند العليم الخبير معلومة ، مكرّمة .. إنه .. إنهم .. ينادون مواطنيهم وكل إنسان : هيّا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، أعدّت للمتقين ، للصالحين لعمارة الوطن شعباً وأرضاً ، وقيماً ، للهداة المهتدين .

***

قد يقول قائل : كلُّ هذا تقديم لديوان حظّه من الفن قليل ؟

وأجيب : أجل .. هو فن إنساني يدعونه : أدب السجون ، هو فن إنساني روحاني شفيف ، يبدو لك متواضعاً ، وهو عندي بديع مليء بالمشاعر الإنسانية ، والحقائق التاريخية .. ففي كل بيت إنسانٌ قدّم حياته ، وروحه ، وتحمّل أشرس ألوان العذاب ، من أجل حرية الإنسان وعقيدة الإنسان ، وحياة الإنسان .. كل حرف نسمة ، يحضن أخاً شهيداً ترك أمَّاً ثكلى ، وزوجة ملوّعة ، وأخوات وبنين وبنات ، ترك وطناً تأكله الذئاب ، وارتقى إلى الفراديس العُلا ، من أجلك أيها الإنسان المكبَّل ، لتختار بين العبودية للأصنام البشرية ، والعبودية الربانية ، فاختر .. اخترْ ولا تتريث ، فالعمر شارف على النفاد ، وشمسه آذنت بالغروب ..

اخترْ .. فالوطن في خطر .. والوطن يقتات الشقاء ، ويشرب الأحزان ، في عهد ثلّة طاغية مردتْ على النفاق ، وعلى الخيانة والعمالة والخسّة ، وعلى القتل والإجرام ، قتل الإنسان المسلم ، في ظلام حقبة صهيونيّة صليبيّة ، امتدّت أيديها الحاقدة الآثمة إلى روح الشعب ، وإلى عقيدة الشعب ، وإلى قادته الأبرار ، في غفلة إنسانية مريعة ، تقابلها يقظة شيطانية أسيفة ، تمكّنَ فيها الثعبان الإبليسي الصهيونيّ الصليبيّ الصفويّ من قاذورات المجتمع ، وأجلبَ على الوطن بخيله ورَجِلِه من المطايا ، وكان له ما نراه من بؤس وشقاء ، ومن إقصاء للعروبة والإسلام عن ممارسة دورهما في إعمار الوطن بالقيم العربية والإسلامية والإنسانية ، ويا حسرةً على العباد .

***

حفل هذا الديوان بأشجان وشجون ، لا نستطيع إلا الإشارة العجلى إلى عنواناتها الكثيرة ..

تحدث شاعرنا عن قادة الإخوان ، وعن محنة الإخوان ، وعن مذابح الإخوان ، وحمّل الشعوب ذنب ما حصل ويحصل لها من المآسي ، بسبب سكوتها ، وتقاعسها وتخلّفها ، وتحدث عن جهاد الإخوان والأخوات وصمودهم أمام أصحاب الوجوه التعيسة ، من الجلادين والقتلة ، ووصف السجّانين وصفاً يليق بوضاعتهم وانحطاطهم من رؤوسهم ومن أذنابهم .. من الرئيس إلى الأدوات المرذولة .. وسمّاهم بأسمائهم ..

وتحدّث عن صبر الرسول القائد وأصحابه الميامين في مكة وصمودهم أمام طواغيت المشركين ليتأسى المسلمون بهم ، وتحدث عن الإسراء والمعراج ، وعن المولد الشريف ، وعن الهجرة ، وعن بدر والأحزاب ، وعن اليهود والمنافقين ، وعن الكفاح الدامي ، واستخلص منها الدروس والعبر .

ونبّه المسلمين وحذّرهم مما يُحاك لهم في هذه الأيام العصيبة ، وكانت له لمسات فنية وإنسانية رائعة ، في قصة قطة ، وفي صيحة لله ، وفي سواهما ، وهو لا ينسى المسلمين في أنحاء الأرض ، في الصومال ، وأرتيريا ، فهم أهله وإخوانه .

وفوزي عرف زمانه ، واستقامت طريقته ، ينظر بنور الله إلى ما يجري حوله ، فالذين يرفضون الإسلام ، يخشون من تفعيل حدوده ، كحدّ الزنى ، وحدّ السرقة ، لأنهم زناة ولصوص ، وهم أصحاب شهوات هابطة ، الإسلام يحرّمها، ويحرمهم منها .. يا للأشقياء .. إنه يذكرهم بالقبر ، بالآخرة ، بالجنة والنار ، بالحساب والجزاء ، وأنّى لهم أن يدركوها ..

ويفضح اهتمامات بعض الناس من الفسقة ، فالفنان يتبعه ملايين الدهماء والفارغين والفارغات ، والشهيد تُكتبُ عنه كليمات ، وأولاده لا يجدون ما يسدُّ الرمق ، والفنان في أمريكا علاجه ، ويا حسرة على العباد .

وينتقد الفنادق الكبيرة وما فيها من منكرات ، من عري وخمر ورقص وموبقات .

وينتقد انتشار الربا ، ويدعو إلى تحكيم كتاب الله ، ففيه السعادة في الدارين ، ويدعو إلى الجهاد ، وإلى الموت في سبيل الله ، وهو متفائل بانتصار هذا الدين العظيم ، وأتباعه المجاهدين والصابرين على لأواء الحياة .

ولا ينسى الدور القذر للشيوعيين والناصريين والعلمانيين ، ويبقى متفائلاً ومتسامحاً وداعياً إلى طيّ صفحة الماضي الأليم ،وإقامة حكم رشيد ، من أجل مستقبل الأجيال والأوطان .***

جمال فوزي شاعر ، ولكنه لم يحترف الشعر ، ولم يتفرغ له ، فقضيته أكبر من الشعر ، والأهوال التي لقيها في أقباء السجون صرفته عن الشعر ومتطلباته ، وسوف يرى قارئ شعره هنات نحوية وصرفية ولغوية وعروضية ، ولكني لا أحسبها عليه ، أنا أحسبها على الطواغيت الذين لم يراعوا إنسانيته ، وأذاقوه الأهوال ، ولولا أولئك الأوباش المتوحشون ، لكان لنا من جمال فوزي وإخوانه ، آلاف العلماء في كل العلوم ، وأدباء وشعراء وقضاة ومحامون وأساتذة كبار ، وأطباء ومهندسون ، وخطباء مفوّهون ، ومثقفون عظام ، وقادة عسكريون مجاهدون ، ولكانت البلاد في الطليعة من دول العالم المتقدمة ، ولكن الطغاة المستبدين حرموا الأمة من أبنائها المتميزين ، فصارت الأوطان في المؤخرة ، فيما كانت أوطان الآخرين تغزو القمر ، وترقى في سائر العلوم رقياً عظيماً .

أيها الطغاة القتلة

أنتم وأفعالكم وأتباعكم تافهون تافهون تافهون .

وسوف تلقون غياً .

وضحاياكم في ضمير الشعب والأمة ، في ضمير الإنسان حيث كان .

وصلى الله على الرسول القائد ، وعلى من اقتدى به إلى يوم الدين .