مصر: إعادة بناء جمهورية الخوف؟

م. عبد الله زيزان

باحث في مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية

[email protected]

مع بداية نزول الناس إلى الشوارع في ثورة 25 يناير 2011، رجّح مراقبون أنّ يحتاج إسقاط نظام مبارك إلى أسابيع طويلة وربما شهوراً، فمن جهة نحن أمام نظام متماسك قوي متجذر في كل مؤسسات الدولة المصرية، ومن جهة أخرى كان الخوف والرعب من الدولة البوليسية ما زال مسيطراً على العديد من المصريين، ما منع الكثيرين من مجرد التفكير بالنزول إلى الشارع بالرغم من حداثة التجربة التونسية حينها...

إلا أنّ المفاجأة كانت كبيرة، حيث تنحى مبارك عن الحكم بعد 18 يوماً فقط من بداية الاحتجاجات، في صورة درامية عجيبة، أذهلت شعوب المنطقة، وحفزتهم على القيام على طغاتهم، لا سيما في سورية التي كانت تعاني من ديكتاتورية تفوق مثيلتها في مصر، حينها ظنّ الكثيرون أنّ هذا الإنجاز الكبير يعود لتدخل الجيش المصري واصطفافه مع الشعب المصري..

لكنّ القراءة المتأنية للواقع في تلك الفترة توضح أنّ ما سقط في الحادي عشر من فبراير هو رأس النظام فقط، أما النظام فقد بقي مسيطراً على كل أركان الدولة فيما عرف بعد ذلك بالدولة العميقة، ليتبين للجميع أنّ تدخل الجيش كان لحماية النظام ووأد الثورة في مهدها...

والسؤال المهم هنا، لماذا استعجل مبارك باتخاذ قرار التنحي، ولماذا لم يحاول الصمود لفترة أطول، ولماذا كل هذه الضغوط الكبيرة التي تعرض لها من الإدارة الأمريكية خصوصاً والمنظومة الغربية كلها عموماً، رغم توفر الكثير من الأوراق لدى مبارك كان بوسعه أن يلعبها قبل أن يتخذ قراره الصعب حينها؟؟

إنّ ما أرعب الغرب في ثورة الخامس والعشرين من يناير هو انصهار الشعب (وتحديداً ثوار 25 يناير غير المنتمين لأي تيار) مع جماعة الإخوان المسلمين، تلك الجماعة الأكثر تنظيماً والأوسع تمدداً في طول البلاد وعرضها، مما يشكل سابقة خطيرة قد تطيح بالنظام المصري كاملاً على غير ما يريده الغرب، ولو استمر مبارك بمنصبه مستخدماً الجيش لضرب الشعب كما فعل الأسد، لسقط النظام بكل أركانه، لأنه سيواجه وقتها كتلتين كبيرتين تتمثلان بالإخوان من جهة والثوار العاديين من جهة أخرى، مما سيصعب حسم الموقف كما حسمه من قبل جمال عبد الناصر حين ضرب جماعة الإخوان ضربة قاسية حدّت من حركتها...

فكان لا بد من سحب فتيل الأزمة وتهدئة الشارع كخطوة أولى في سبيل الاستعداد لتوجيه الضربة القاصمة لطموح المصريين بالحرية والديمقراطية، ومن غير الممكن توجيه تلك الضربة طالما استمر التحالف أو الوفاق على أقل تقدير ما بين الكتلتين المذكورتين، فلا بد من فصلهما عن بعض ليسهل ضربهم على انفراد وإعادة البلاد إلى عهد العسكر، كما حُكمت منذ الانقلاب على الملك فاروق أواسط القرن الماضي...

وبدأ العمل في ضرب الكتلة الإخوانية منذ وقت مبكر، وذلك بمحاولة التأثير على الناخب المصري في عدة استحقاقات انتخابية، وقد حقق الإخوان في جميعها تقدماً ملحوظاً على كل منافسيهم من التيارات العلمانية، وقد استطاعت مؤسسات "الدولة العميقة" من إحباط وإلغاء نتائج كل تلك الاستحقاقات عن طريق القضاء وبحجج واهية لا تخفى على أي منصف، ليأتي الاستحقاق الأكبر والمعركة الحاسمة في الانتخابات الرئاسية، حيث أخفقت هذه المرة أيضاً "الدولة العميقة" في الحد من تقدم الإخوان في تلك الانتخابات، ليكون وصول الرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم بمثابة الصاعقة لتحالف العلمانيين، والدول الغربية قاطبة، خاصة أن ذلك الفوز كان بنجاح حملة الرئيس مرسي في تجييش كل صفوف الشعب، وفي مقدمتهم ثوار يناير، للتصويت لمرسي وإبعاد مرشح الفلول الفريق أحمد شفيق عن الرئاسة...

لتبدأ بعد ذلك الخطة البديلة لعملية الفصل بين الإخوان وبقية مكونات الشعب من خلال حملة منظمة ومدروسة عملت على شيطنة الإخوان، وإقناع الناس بكذبة "أخونة الدولة"، وأنّ الجماعة استطاعت ركوب موجة الثورة، وقطفت وحدها ثمرتها، وذلك من خلال ضخ كم هائل من الأكاذيب على شاشات الفضائيات المحلية بقيادة ربيبتهم قناة العربية، فحملّوا الرئيس مرسي مشاكل الاقتصاد والكهرباء، وافتعلوا له الأزمات، بدءاً من أزمات سيناء وانتهاء بأزمة النيل والسد الإثيوبي المزمع إنشاؤه، كما صنعوا من الإخوان فزاعة كبرى للأقلية القبطية وأشعروهم من خلالها بأنّهم مهددون، ما أوصل بعض الفئات من ثوار يناير إضافة إلى شريحة من المجتمع المصري إلى حالة من الحنق الشديد المبنية على أكاذيب تجاه الرئيس مرسي ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين..

والحق يقال فإنّ المخطط الذي ساروا عليه قد أثمر بصورة معقولة جداً، حيث باتت صورة الإخوان في أذهان بعض العامة هي صورة الانتهازي الساعي إلى السلطة على حساب الشعب والدولة، وهنا كانت الفرصة سانحة تماماً لتوجيه الضربة الأخيرة للمكون الرئيسي لثورة 25 يناير، فبدأ العمل على مشروع الانقلاب ولكن بصورة محسنة هذه المرة، حيث هناك "حشود" من المصريين سينزلون إلى الشوارع ويطالبون "بالمخلص"، والذي سيكون بكل تأكيد الجيش المصري الذي "أنجح" ثورتهم الأولى كما كان الجميع يظن..

وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور الأمريكي المفضوح في دعم الانقلاب بدءاً من التخطيط وصولاً إلى التنفيذ وتمويل هذه العملية كما كشفت عن ذلك الوثائق التي حصلت عليها الجزيرة الإنجليزية في العاشر من يوليو الماضي، حيث أشارت الجزيرة أنّ الوثائق التي حصل عليها برنامج التحقيقات الصحفية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي تظهر قنوات ضخ للأموال الأمريكية من خلال برنامج لوزارة الخارجية الأمريكية لتعزيز الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، يدعم بقوة النشطاء والسياسيين الذين ظهروا أثناء الاضطرابات في مصر، بعد الإطاحة بحكم المخلوع حسني مبارك.

ولم يقف التنسيق الأمريكي على ما يبدو عند نقطة الانقلاب فحسب، فهناك إشارات إلى أنّ ما يقوم به فريق السيسي يتم بتخطيط أمريكي أيضاً، فالطريقة المعتمدة في ضرب مناهضي الانقلاب تعتمد سياسة "الصدمة والترويع" الذي استخدمته واشنطن في العراق ومناطق أخرى في العالم، حيث تعتمد على القيام بضربات كبيرة وسريعة تخيف أعداءها وتسرع من تحقيق أهدافها، فعمدت منذ اللحظة الأولى لإعلان الانقلاب بغلق العديد من الفضائيات، وطرد الكثير من الإعلاميين عن منصة رابعة العدوية، وزجت بالعشرات في السجون، كل ذلك في ساعات قليلة بعد إعلان الانقلاب، وتوّجت حينها بمجزرة الحرس الجمهوري، حيث وقع عشرات القتلى بصورة غير متوقعة، ما أشاع أجواء الإحباط ليس في مصر فحسب بل في العالم الإسلامي كله، فكانت هذه الإجراءات بمثابة رسالة قوية إلى أنصار الشرعية، أنّ التعامل مع مناهضي حكومة الأمر الواقع سيكون شديداً..

لكن ما حدث نتيجة هذه الحملة المسعورة أنّ ما خسره الإخوان في عام كامل من شعبية خلال فترة حكمهم ونتيجة لإشاعة الأكاذيب في الإعلام قد استعادوه مع بداية الانقلاب، بل وقد كسبوا إلى صفهم الكثير ممن اختار الحياد في كل تلك المراحل من الصراع، فكانت الضربة الأولى على كبر حجمها عامل نصر لأنصار الشرعية، الذين صمدوا بصورة أسطورية واستمروا باعتصاماتهم ومظاهرات لعشرات الأيام، ما أربك المخططات الانقلابية، فشعر الانقلابيون ومن يقف خلفهم بأنّ الانقلاب قد يفشل أمام هذا الصمود، فلا بد من صدمة جديدة يعيدون فيها بناء جمهورية الخوف التي انهارت مع بداية ثورة يناير 2011، فكانت أحداث فض اعتصامات رابعة والنهضة، حيث استخدموا قوة هائلة، فاقت بفتكها تلك التي استخدمها بشار الأسد في بداية الثورة السورية، فسقط آلاف القتلى ومثلهم جرحى في أكبر مجزرة تقع في يوم واحد منذ بداية الربيع العربي...

وزادوا على ذلك بالحديث بصورة علنية بأنهم سيستخدمون الرصاص الحي في مواجهة "الإرهاب"، علهم يقللون من زخم المتظاهرين في الأيام التي تلي أحداث فض الاعتصامات، إلا أنّ السحر قد انقلب على الساحر، فقد أفاق المصريون من غفلتهم، وأدركوا أنّ ما يحدث الآن ليس صراعاً بين الإخوان والجيش، كما يروج الإعلام المحلي، وإنما صراع من أجل إعادة سلطة العسكر وجمهورية القهر إلى مصر، وهو ما يعني الرجوع عشرات السنوات إلى الخلف...

وأحداث جمعة الغضب التي تلت مجزرة رابعة والنهضة أثبتت عودة الشعب إلى الالتحام بالإخوان لمواجهة الخطر الأكبر الذي تواجهه بلادهم والمتمثل بحكم العسكر الذي دمّر البلاد على مدار عقود مضت، وهذا يعني أن يبقى الالتحام الشعبي في أوجه لمواجهة العسكر وإحباط مخططهم الجهنمي في جمهورية العمالة والخوف، حينها لن يتمكن العسكر من تدمير مكونات ثورة 25 يناير، وهو ما لن يتم كما تشير الأحداث في أرض الكنانة...