منطقة حقل تجارب استعمارية!

صبحي غندور*

[email protected]

تميّزَ انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، التي امتدّت من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، بأن الاستعمار الأوروبي كان يخلي البلدان التي كانت تخضع لهيمنته، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بعد أن يوجِد فيها عناصر صراعات تسمح له بالتدخّل مستقبلاً، وتضمن إضعاف هذه البلدان التي قاومت الاستعمار وتحرّرت منه. فقد ظهرت دول وحكومات خلال القرن الماضي إمّا تتصارع فيما بينها على الحدود، أو في داخلها على الحكم بين "أقليّات" و"أكثريّات"، وفي الحالتين، تضطر هذه الدول النامية الحديثة للاستعانة مجدّداً بالقوى الغربية لحلّ مشاكلها أو لدعم طرفٍ داخلي ضدّ طرفٍ آخر. وجدنا ذلك يحدث في الهند مثلاً، التي منها خرجت باكستان ثمّ تصارعت الدولتان على الحدود في كشمير. ووجدنا ذلك يحدث أيضاً في صراعات الحدود بين عدّة دولٍ عربية وإفريقية. كما حصلت عدّة حروب أهلية وأزمات أمنية وسياسية في بلدانٍ أخلاها المستعمر الأوروبي بعد أن فرض فيها أنظمة حكم مضمونة الولاء له، لكنّها لا تُعبّر عن شعوبها، وتُمثّل حالةً طائفية أو إثنية فئوية لا ترضى عنها غالبية الشعب.

 متغيّراتٌ دولية كثيرة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال العقود الماضية التي تبعت انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، ومنها ظهور كتلة دول "العالم الثالث" التي حاولت التمايز عن معسكريْ "الشرق الشيوعي" و"الغرب الرأسمالي"، لكن انتهاء "الحرب الباردة" بين المعسكرين، مع غروب القرن العشرين، لم تكن نهايةً لنهج التنافس الدولي على العالم وثرواته ومواقعه الجغرافية الهامّة، كما هو موقع الأمَّة العربية وثرواتها الهائلة.

 وقد كانت حقبة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن محطّةً هامّة في تاريخ أميركا والعالم كلّه. فهي تزامنت مع بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين، الذي أراد صُنّاع القرار في واشنطن أن يكون أيضاً "قرناً أميركياً" كما كان القرن المنصرم. كذلك خضعت إدارة بوش الابن لحكم "المحافظين الجدد"، وما هم عليه من علاقات خاصة مع إسرائيل، وما كان لديهم من أحلام بجعل العالم محكوماً من إمبراطوروية أميركية واحدة، وبتوظيفهم الكبير لأعمال الإرهاب التي حدثت ضدّ أميركا من أجل تبرير حروبٍ وسياسات ما كان لها أن تحدث لولا "خدمات" جماعات "القاعدة" لهذه القوى، والتي تحكّمت على مدار 8 سنوات بالقرار الأميركي.

 ولعلّ أبرز "إنجاز فاشل" لسياسة "المحافظين الجدد" كان الحرب الأميركية على العراق وما خلّفته هذه الحرب من ويلات ودمار وخسائر بشرية ومادية باهظة. لكن بعد احتلال العراق، أطلقت إدارة بوش الابن ثلاثة شعارات، فشل منها اثنان وبقي الشعار الثالث رهناً بوقائع ومتغيّرات عربية. الشعار الأول كان عقب غزو العراق مباشرة عام 2003 حينما تحدّث أكثر من مسؤول أميركي عن أنّ العراق سيكون "نموذجاً للديمقراطية" في الشرق الأوسط، وأنّ دولاً عديدة في المنطقة ستحذو حذوه. الشعار الثاني، كان عن "الشرق الأوسط الكبير" الجديد الذي سيخرج إلى الوجود بعد تفاعلات الحرب في العراق، وبعد حروب إسرائيل في لبنان وغزة في عام 2006 والتي دعمتّها بشدّة إدارة بوش الابن.

 سقط حكم "المحافظون الجدد" في أميركا في انتخابات العام 2008، وسقطت معهم أحلام "الإمبراطورية الواحدة في العالم"، وأصبحت التجربة الأميركية في العراق "نموذجاً" للفشل والكذب والخداع في السياسة الأميركية، ولم تتدحرج أنظمة المنطقة خلف "الدومينو العراقي"، كما توهَّم وراهن "المحافظون الجدد"، وكذلك كان مصير شعار "الشرق الأوسط الكبير"، والمراهنات في القضاء على ظواهر المقاومة ضدّ إسرائيل بعد حربيْ صيف عام 2006 في لبنان ونهاية عام 2008 في غزّة.

 أمّا الشعار الثالث، الذي أطلقته الوزيرة كونداليزا رايس خلال الفترة الثانية من حكم بوش الابن، فكان عن "الفوضى الخلاّقة" والتي كانت المراهنة على حدوثها في بلدان الشرق الأوسط من خلال تفاعلات الأزمات الداخلية في دول المنطقة. ولعلّ ما حدث ويحدث في السنتين الماضيتين في عدّة بلدانٍ عربية يؤكّد أنّ شعار "الفوضى الخلاّقة" لم ينتهِ مع نهاية حكم "المحافظون الجدد"، وبأنّ المراهنات ما زالت قائمة على هذا الشعار، رغم التغيير الذي حدث في الإدارة الأميركية.

الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد وجود أهداف ومصالح ومؤسسات أميركية، محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأميركية من تحوّلات وصراعات انتخابية محلّية.

ولعلّ أبرز مضامين الرؤية الأميركية للشرق الأوسط في مطلع القرن الجديد، هو ضمان التحكّم فيه، كأحد أهمّ مصادر الطاقة الدولية، لعقودٍ عديدة قادمة، خاصّةً وأنّ المنافسين الجدد للقطب الدولي الأعظم حالياً يعتمدون في نموّ اقتصادهم على الشرق الأوسط، إضافةً طبعاً إلى التنافس الدولي التاريخي على ما تمتاز به المنطقة من موقع جغرافي إستراتيجي.

ولأنّ التواجد العسكري الأميركي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الرؤية الأميركية المطلوبة للمنطقة، فقد شجّعت "المؤسسات الأميركية" على توفير ثلاثة عناصر سياسية، وبشكلٍ متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:

1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في بعض دول العالم الإسلامي لتصبح مبنيّةً على مزيجٍ من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية، حيث أنّ الانقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر "سياق ديمقراطي" ضابط لها في إطار من الصيغة "الدستورية الفيدرالية"، يمكن أن يجعلها سببَ صراعٍ مستمر يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود بالرؤية الأميركية، ويجعل القوات الأميركية المتواجدة بالمنطقة عرضةً للخطر الأمني المستمر، في ظلّ حروبٍ أهلية ومفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثير من أطراف تناهض السياسة الأميركية. إضافةً إلى أنّ "التركيبة الفيدرالية" القائمة على "آليات ديمقراطية" ستسمح للولايات المتحدة بالتدخّل الدائم مع القطاعات المختلفة، في داخل كلّ جزءٍ من ناحية، وبين الأجزاء المتّحدة فيدرالياً من ناحية أخرى، وهذا ما حدث في تجربة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق.

2- التركيز على هويّة "شرق أوسطية" كإطار جامع لبلدان المنطقة. لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في مستقبل "الشرق الأوسط" المنشود أميركياً، إذ بحضوره الفاعل، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل.

3- العنصر الثالث المهم، في الرؤية الأميركية للشرق الأوسط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وعدم انتظار تحقيق التسوية الشاملة. ويجد صانعو القرار الأميركي أنّ تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيسهّل إنهاء ظاهرة المقاومة، حتّى من غير تسوياتٍ سياسية شاملة.

ولعلّ خلاصات هذه الرؤية تفسّر المواقف الأميركية الآن من عدّة حكومات ومعارضات وقضايا عربية، تتفاعل فيما عُرف باسم "الربيع العربي". ولم يكن ممكناً طبعاً فصل ملف الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفات "الأزمات الأخرى" في المنطقة العربية، وعن حلفاء طهران في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع، حدث أو قد يحدث، فيما فُتِح الآن من أزمات عربية. ومن رحم هذه الأزمات على الأراضي العربية توالدت مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان وما يزال من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ الحراك الشعبي العربي الحاصل، وما يرافق هذا الحراك أحياناً من عنفٍ مسلح وصراعات وتنافس على الحكم وعلى المعارضة.

والمحصّلة من ذلك كلّه، أنّ إدارة أوباما قد مارست مراجعة عميقة للسياسة الأميركية التي كانت عليها الإدارة السابقة، لكن دون تراجعٍ عن مضامينها، فصُنّاع القرار الأميركي يأملون الآن كثيراً في تحقيق أهداف السياسة الأميركية في "الشرق الأوسط"، من خلال تفاعلات الصراعات المحلية والإقليمية الدائرة بالمنطقة، ودون حاجةٍ لتورّطٍ عسكريٍّ أميركي مباشر في أيٍّ من بلدانها!.

               

* (مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)