الأخ كيري السلفي !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يبدو والله أعلم أن السلفية ليست قاصرة على المسلمين وحدهم ، بوصفها مرجعية للفكر والسلوك في الصورة النقية التي تتجاوز الخلط والتشويش والآفاق المعتمة التي يصنعها الواقع الملتبس والفهم القاصر ، فهناك سلفية أخرى معكوسة تصر على اتباع المنهج الخاطئ والسلوك الفج ، ومخالفة الأعراف الدولية والقيم الإنسانية ، كما تفعل دول الغرب ، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة. هذه السلفية نجدها أيضا لدى الشيوعيين المصريين ، والناصريين المصريين ، ونجدها كذلك في إصرار أميركا وساستها المعاصرين على التمسك بما فعله أسلافهم القريبين والبعيدين من ممارسات وحشية غبية تعتمد على القوة والبطش والاحتلال والعملاء ، لم يأخذوا درسا مما جري في أميركا اللاتينية وأميركا الجنوبية مثلا ، ولكنهم يصرون على سلفيتهم القاتلة والمدمرة دون أن يتعظوا بما جرى هنالك ، ودون أن يدركوا أن الزمان اختلف ، وأن الأفكار والعقول  والوسائط الإعلامية والثقافية تغيرت .

كانت الولايات المتحدة تجيد لعبة الانقلابات في العالم وأميركا اللاتينية خاصة ، وتتخذ من بعض الجنرالات المغامرين أداة لتنفيذ سياستها وقمع الشعوب المستضعفة ونهب ثرواتها وتأمين مصالحها ، وظنت أنها بذلك تحقق استراتيجتها ، ولم تنتبه إلى أنها ملأت نفوس الشعوب المغدورة بالغضب والكراهية لكل ما هو أميركي ، وأنها أفسحت المجال لانتشار الشيوعية وتشكيلاتها القتالية التي كان أبرز رموزها آرنستو شي جيفارا إلى جوار حليفه وحليف كل الشيوعيين في المنطقة فيديل كاسترو زعيم كوبا . ويمكن القول إن جمهوريات الموز استطاعت في النهاية أن تحقق استقلالا معقولا وتنتصر على أميركا والانقلابات بفضل كفاحها ومقاومة نخبها الثقافية التي تملك ضميرا حيا وليس ضميرا ميتا مثل ضمير المثقفين المصريين الذين يتصدرون المشهد الثقافي !

لقد اضطرت الولايات المتحدة إلى القبول بالأمر الواقع والتعامل مع جمهوريات الموز على أنها دول ذات سيادة ، ولكنها للأسف تتناسي تماما ما يتعلق بالمنطقة العربية والإسلامية؛ ومصر على نحو خاص ، وتظن أن الجنرالات أو النخب التي استطاعت ترويضها أوتجنيدها لصالح سياستها وسياسة العدو الصهيوني يمكن أن تكرر تجربة 1954 في مصر ، وأن تحول بين الشعب المصري والتعبير عن إرادته ، وأن تكون البيادة هي صاحبة القول الفصل في مصائر الناس ، ثم تتجاهل أن انفجار الشعوب فيما عرف بالربيع العربي وضع حدا لمرحلة الاستسلام لإرادة البيادة المستبدة ، فهذا الربيع مع كل الآلام والمتاعب التي رافقته ومازالت تتوالى حتى  اليوم ، حقق نتيجة مهمة وأساسية وخطيرة ، وهي سقوط الخوف ، وخروج الناس للتعبير عن رأيهم والتضحية بأرواحهم إن لزم الأمر ، بل لواقتضى قتالا طويل الأمد كما يحدث في سورية على سبيل المثال .

رعاية الولايات المتحدة للانقلاب العسكري الدموي الفاشي في مصر وفرض تمويله على دول خليجية معادية للحرية والإسلام كان خطأ فادحا ، وسلفية مميتة وقاتلة ، ولاأظن الشعب المصري بعد الانقلاب الدموي سيتعامل مع الولايات المتحدة مثلما كانت الحال قبلها ، فقد عرف الشعب أن الدولة العظمى ما زالت تمارس سياسة الهيمنة والعدوان على الحرية وسحق الديمقراطية والاستهانة بإرادة الشعوب .  كانت الولايات المتحدة تعلن أنها تتعامل مع الحكومات الانقلابية بالحزم السياسي وعدم الاعتراف ، ولكنها مع الانقلاب العسكري الدموي الفاشي الذي صنعته في مصر بدت مترددة ومتذبذبة ، تساند الانقلاب عمليا في السر ، وتقول في العلن كلاما سخيفا ليس له معنى يظهر ارتباكها ومراوغتها أمام ضابط بالجيش المصري اختطف الرئيس الشرعي وعطل الدستور وألغى المجلس التشريعي وصادر الحريات وكمم الأفواه وحول الصحافة والإعلام إلى لون واحد وصوت واحد هو صوت العسكر الانقلابيين ، كما اعتقل المئات ووجه لهم تهما ملفقة ويطارد مئات آخرين للقبض عليهم وإلحاقهم بمن سبقوهم .

تحت عنوان "كيري يتراجع عن تعليقه المثير للجدل"، ذكرت وكالة أسوشيتد برس أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تراجع عن تعليقات بدت وكأنها إشارة لدعم أمريكي للانقلاب العسكري، وتأييد لـ "إقصاء" الرئيس محمد مرسي.

وأضافت الوكالة: " حاولت الولايات المتحدة ألا تبدو كما لو كانت تنحاز إلي جانب في الأزمة، ولكن عندما قال كيري إن الجيش المصري "استعاد الديمقراطية" في قيادة انقلاب 3 يوليو، ترك انطباعا بأن الولايات المتحدة دعمت العمل العسكري".

وأشارت الوكالة إلى أن كيري تحرك بسرعة لنزع فتيل الأزمة حينما صرح بأن كافة الأطراف، الجيش وأنصار مرسي في حاجة إلى العمل نحو حل سياسي سلمي شامل للخروج من الأزمة.

وتابعت أسوشتيتد برس أن تراجع كيري يأتي بعد استنكار الإخوان المسلمين لتصريحاته، والتي تصر على أن الرئيس المنتخب ديمقراطيا، هو القائد الشرعي لمصر.

ونقلت الوكالة الأمريكية عن جهاد الحداد المتحدث باسم جماعة الإخوان قوله: هل يقبل وزير الخارجية كيري أن يقوم وزير الدفاع الأمريكي تشاك هاجل بتنحية وإقصاء أوباما، إذا حدثت مظاهرات كبيرة في أمريكا ؟".

يتجاهل الأخ كيري السلفي المؤمن بالانقلابات لتحقيق الاستراتيجية الأميركية أن الانقلابات في العالم ومنه جمهوريات الموز لم تصنع ديمقراطية ، ولا يمكن للمغامر العسكري المستبد أن يصنع ديمقراطية، ولا أعلم هل يتذكر كيري جمال عبد الناصر وديمقراطيته المزيفة أو إنه يصر على صناعة عبد الناصر جديد يحقق للكيان الصهيوني نصرا جديدا يقسم مصر إلى دويلات ويجعله سيد المنطقة بلا منازع ؟!

إن السيد كيري السلفي يتجاهل الحقائق على الأرض ووجود الملايين الرافضة للانقلاب العسكري الدموي الفاشي في الميادين والشوارع وكلها لا تنتمي إلى الإخوان الذين يمثلون نسبة قليلة بين المعتصمين والمتظاهرين، ويصرّ على الانحياز إلى الأقلية العلمانية  الموالية للغرب بقيادة الانقلابيين العسكريين ، ويتصور أنه سينجح بوجود نائبه الصهيوني وليم بيرنز والسيد مارتن انديك سفير أميركا الأسبق في تل أبيب ، وآخرين يأتون من الاتحاد الأوربي في محاولة تسويق الانقلاب وفرضه أمرا واقعا ، وضرب عرض الحائط بإرادة الشعب واختياراته التي أنفق فيها أياما طوالا أمام لجان الاستفتاء والانتخاب على مدى عامين .

لن يستطيع الأخ كيري السلفي اللعب بإرادة الشعب المصري مهما كانت ألاعيبه وخداعه الماكر ، فالشعب كما تقول الصور المنقولة عن الشوارع والميادين مصرّ على  الحرية مهما كانت التضحيات السابقة واللاحقة. ومهما تكررت محاولات استنجاد قائد الانقلاب بالولايات المتحدة لتضغط على الإخوان من أجل حل يسوّق الانقلاب فهي محاولات فاشلة ، لأن أميركا صارت طرفا معاديا بسبب دورها  الرئيسي في صناعة الانقلاب والتخطيط له . ولن يخفف من طبيعة الموقف الأميركي العدواني ما يقوله الأخ كيري السلفي في خبث ودهاء عن مسئولية ما يسمى بالحكومة المؤقتة في احترام المتظاهرين، ومنحهم مساحة ليكونوا قادرين على التظاهر في سلمية، ومطالبة المتظاهرين أن يتخلوا عن مطالبهم المشروعة بحجة عدم إيقاف كل شيء من المضي قدما في مصر، فالانقلاب المجرم يجب ألا يكافأ تحت أي مسمى، وينبغي على الأخ كيري أن يتخلى عن سلفيته المميتة القاتلة !