السياسة بين الدين والدنيا

د. أحمد محمد كنعان

د. أحمد محمد كنعان

لقد مارس البشر عبر تاريخهم الطويل أشكالاً مختلفة من النظم السياسية التي تبلور منها عبر العصور شكلان متباينان هما النظام الشمولي المستبد أو الدكتاتوري الذي يكون فيه الحاكم هو الدولة كما صرخ نابليون ذات يوم أغبر : ( أنا الدولة ! ) أو كما تبجح فرعون من قبل قائلاً : ( أنا ربكم الأعلى ! ) .

أما النظام الآخر فهو نظام الشورى أو الديموقراطية الذي يعطي السلطة للشعب من خلال ممثليه في مجلس الشعب أو البرلمان ، ويكون فيه فصل تام للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وقد تحدثنا في مقالة سابقة عن النظام الشمولي واليوم نتحدث عن النظام الديموقراطي .

النظام الديموقراطي :

الديموقراطية مصطلح منحوت من اللغة اليونانية وهو يعني ( حكم الشعب بنفسه ولنفسه ) وتتسع الديموقراطية بمدلولها العام لكل مذهب سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدراً للسلطات ، كما تشمل كل نظام سياسي يقوم على أساس حكم الشعب نفسه بنفسه من خلال اختياره الحر لحكامه ، ثم مراقبتهم بعد اختيارهم ، والديموقراطية ليست ضرباً جديداً من ضروب الممارسة السياسية المعاصرة ، بل هي قديمة في تاريخ العمل السياسي ، فقد عرفت في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفي عام ، وبالتحديد منذ عام ( 510 ق.م ) عندما أجرى المفكر الإصلاحي (كليسثينيس) إصلاحات واسعة في الدستور الأثيني أدخل فيه تغييرات جذرية جعلت الشعب جزءاً أساسياً في الممارسة السياسية ، علماً بأن بعض المؤرخين يدفعون بميلاد الديموقراطية الأثينية إلى الوراء حتى عام ( 594 ق.م ) بينما يعتقد آخرون أن العناصر الجوهرية للحكم الشعبي لم تبرز إلا بعد إصلاحات إيفيالتيس سنة (462ق.م)(1) .

ونحن نرجح أن الدعوة لمشاركة الشعب في سياسة الرعية هي دعوة سماوية قديمة ، ولا نستبعد أنها وردت في بعض الكتب السماوية التي لم تصل إلينا ، بدليل ما ورد في القرآن الكريم من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لمشاورة أصحابه كما نبين بعد قليل ، فالديموقراطية في حقيقتها ما هي إلا صورة من صور (الشورى) التي حضَّ عليها الإسلام ، وهي وإن اختلفت عن الشورى من بعض الوجوه فإنهما تلتقيان على أمور جوهرية عديدة في الممارسة السياسية ، فهما تقرران أن تسيير أمور المجتمع ينبغي أن يقوم على المشاركة الجماعية ، وأن لا يتخذ قرار في القضايا المصيرية التي تخص الأمة إلا بعد تشاور وتراض ، أو استفتاء عام على حد التعبير السياسي المعاصر ، وأن يكون التشريع الاجتهادي الذي يبحث في القضايا العامة اجتهاداً جماعياً من قبل مجلس مختار من أهل الخبرة والاختصاص ، أي أهل الحلِّ والعَقْد في الإسلام ، أو البرلمان في النظام الديموقراطي ، لأن رأي الجماعة يكون غالباً أبعد عن الخطأ وعن التحيز الذي لا يكاد ينجو من سقطاته أولئك الذين يستبدون بالرأي فينتهون بأقوامهم إلى الهلاك ، كما فعل فرعون بقومه عندما جاءه نبي الله موسى عليه السلام يدعوه إلى الإيمان بالله ، فقد جمع فرعون أهل الرأي عنده وعرض عليهم القضية على طريقة الحكومات الديكتاتورية التي تتخذ من برلماناتها ديكوراً لتلميع صورتها أمام الرأي العام ، وحين بدأ القوم يتشاورون ويعرضون آراءهم ، ولاح لفرعون أن الآراء الغالبة بدأت تميل إلى الإيمان بدعوة موسى عليه السلام ، وأن (التصويت) لن يكون في صالح فرعون آخر الأمر ، ضرب فرعون بقبضته طاولة الاجتماعات وصرخ بالقوم ساخطاً ومهدداً : (ما عَلِمْتُ لَكُم من إلهٍ غَيْري .. ما أُريكُمْ إلا مَا أَرَى .. ومَا أَهْديكُمْ إلا سَبيلَ الرَّشَاد ..) ونهاية القصة معروفة ، فقد أورد قومه سبيل الهلاك ، وانتهى بهم إلى نار جهنم ، وهذه هي نهاية الاستئثار بالحكم ، والازدراء بالشورى التي قرنها الله عزَّ وجلَّ بأهم عبادتين في الإسلام ، هما الصلاة والزكاة كما نبين بعد قليل !

وفي مقابل هذا الموقف الديكتاتوري المتسلط من فرعون يقدم لنا القرآن الكريم صورة وضيئة لممارسة الشورى الحقيقية ، فنراه يثني على (بلقيس) ملكة سبأ التي جاءها الكتاب من نبي الله سليمان عليه السلام بأن تأتيه هي وقومها مسلمين ، فما كان منها إلا أن جمعت أركان حكمها وشاورتهم بالأمر : (قالتْ يا أيُّها الملأُ أَفْتُوني في أَمْري ما كُنْتُ قاطِعَةً أمْرَاً حتَّى تَشْهَدُون) النمل 32 ، ونظراً لما يعرفه مستشاروها من رجاحة عقلها وسداد رأيها فقد فوضوها بالتصرف بما تراه مناسباً (قالوا نحنُ أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديدٍ والأمرُ إليكِ فانظري ماذا تأمُرين) النمل 33 ، واحتراماً من هذه المرأة الحكيمة لقومها لم تستبد برأيها كما فعل فرعون ، وبهذه الحكمة والحنكة جنَّبت قومها وبلادها معركة مدمِّرة لا قبَل لهم بها ، وأدخلتهم في الإسلام ففازت في الدنيا والآخرة .

ونظراً لما في الشورى من خير كبير للمجتمع فقد جعلها الله عزَّ وجلَّ من صفات المؤمنين : (والذينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأمْرُهُمْ شُورَى بينَهم وممَّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُون) سورة الشورى 38 ، ونلاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله عزَّ وجلَّ وضع الشورى بين فريضتين هما من أعظم فرائض الإسلام ، هما الصلاة والزكاة ، وذلك تعظيماً لشأن الشورى ومكانتها في استقرار المجتمع ، ولم يكتف بهذا بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه وأركان دولته ، فقال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ) آل عمران 159 ، وكأنه جعل الشورى من تكاليف النبوة ، مع أن النبوة مستغنية عن الشورى بالوحي ، ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه فلم يكن يقطع بأمر من الأمور التي تخص الجماعة إلا شاورهم فيه ، وكان يكرِّر عليهم عند كل نازلة : (أشيروا عليَّ أيها الناس ، أشيروا عليَّ ..) حتى إذا استوثق من اتفاقهم على الرأي أَنفَذَه ، وقد انتهى جمهور الفقهاء في الإسلام إلى أن (الشورى من قواعد الشريعة ، وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا مما لا اختلاف فيه)(2) .

ويبقى أن نشير هنا إلى فارق جوهري ما بين الديموقراطية والشورى ، فهما وإن اتفقتا في آليات الممارسة كما أسلفنا فإنهما تختلفان في المرجعيات ، فالديموقراطية ليست لها مرجعية تقوم عليها ، اللهم إلا مواد الدستور الذي هو أساساً اجتهاد بشري ، أما الشورى فإنها ترجع أساساً إلى أحكام الشريعة ، لأن الأصل في حياة الأمة المسلمة أن تحقق مقاصد الشارع الحكيم في حياتها ، ومن ثم فإن على أهل الحل والعقد أو من يقوم مقامهم من ممثلي الشعب أن يراعوا في اجتهاداتهم وتشريعاتهم تلك المقاصد ، وهذا لا يعني التوقف عند النصوص السماوية وحدها ، فقد أعطى التشريع الإسلامي هامشاً واسعاً للاجتهاد البشري في ممارسة السياسة بشرط أن تراعي المقاصد الكلية للشريعة ، وقد عبر الإمام ابن القيم ( ت 751هـ ) يرحمه الله عن هذه المقاصد الرفيعة بوضوح فقال : (إن الله سبحانه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات ، فإن ظهرت أمارات العدل ، وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثمَّ شرعُ الله ودينُه ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين)(3) .

تطور الممارسات السياسية :

وقد عرف التاريخ البشري صوراً عديدة من ممثلي السياسة في المجتمع قبل تقنين الممارسات السياسية في العصر الحديث ، فكان هناك أولاً ( رب الأسرة ) الذي مارس سياسته على أهل بيته ، ثم كان هناك كبير العشيرة ، ثم زعيم القبيلة ، ومع نشأة الدول واتساع السلطان ظهر السلاطين والملوك والأباطرة والزعماء ، وكان هؤلاء في بادئ الأمر يفرضون سلطانهم على المجتمع بقوة العشيرة أو المال أو الجاه أو قوة المؤيدين ، أو "الملأ" بتعبير القرآن الكريم ، ومع مرور الوقت بدأ الحكام يوزعون المهمات على مساعديهم ، فأصبح هناك وزراء ومستشارون وقواد جيش ومسؤولون عن الخزينة إلى غير ذلك من مهمات الدولة .

أما المجالس التشريعية التي تتولى سنَّ القوانين فربما كان أقدمها المجلس المسمى ( أقّيم ) الذي أسس في عام 2800 ق.م في مدينة ( أرَتْش ) في العراق وكان مجلساً مزدوجاً للمهمات التشريعية والتنفيذية ، أما أقدم مجلس تشريعي مازال يعمل حتى اليوم فهو ( مجمع تنوالد ) في جزيرة مان البريطانية الذي احتفل بعيده الألفين في عام 1979 ، أما أول هيئة تشريعية تفرغت للمهمات التشريعية دون التنفيذية فهي هيئة ( ألثِنْغ ) التي تأسست في عام ( 930 ) في مجلس جزيرة أيسلندا وكانت تضم 39 زعيماً محلياً واستمرت تعمل حتى عام 1800 .

أما ( البرلمانات ) فقد جاء ذكرها لأول مرة بتاريخ 19/12/1241 في وثيقة إنكليزية ملكية هي استدعاء من الملك هنري الثالث لمجلسه الاستشاري ، أما أول نواة للبرلمان في إنكلترا فقد تشكلت عام 1250 من خلال المجلس الإقطاعي أو "المجلس الكبير" الذي كان الملوك يستشيرونه في المسائل المهمة ، وقد مر البرلمان بتحولات عديدة قبل أن يصبح أحد مجلسي البرلمان الإنكليزي المعروفين وهو "مجلس اللوردات" الذي يضم الأشراف الوراثيين وكبار رجال الدين مع احتفاظه ببعض الاختصاصات التشريعية والقضائية القديمة إلى جانب احتفاظه باختصاصاته المالية حتى عام 1911 ، وفي عام 1250 سمح الملوك لممثلين عن الشعب بحضور جلسات البرلمان ، وبعد قرن كامل من الزمان انقسم البرلمان الإنكليزي إلى "مجلس اللوردات" الذي يتألف من نخبة خاصة من النواب و "مجلس العموم" الذي يضم 625 عضواً ممثلين عن الشعب ينتخبون انتخاباً عاماً .

بعد ذلك بدأت البرلمانات تظهر هنا وهناك ، تحت مسميات مختلفة ( مجلس الشعب ، مجلس الأعيان ، مجلس النواب .. ) إلى أن أصبحت إقامة هذه المجالس تقليداً عالمياً في مختلف الدول ، ومختلف أشكال الحكم الملكي والجمهوري ، الديموقراطي والديكتاتوري على حد سواء ، وهي في كثير من البلدان لا تعبر حقيقة عن رأي غالبية الشعب بل تعبر عن رأي الأسرة الحاكمة ، أو الطائفة الغالبة ، أو الحزب الأوحد ، أو الزعيم الملهم ، أو أصحاب المال والامتيازات الخاصة !

الدساتير :

والدستور هو مجموعة القواعد القانونية الأساسية التي تنظم تسيير شؤون الدولة ، وهو يحدد وظائف الحكومة ومهماتها والصلاحيات التي تحتاجها من أجل أداء هذه المهمات ، ويطلق علماء السياسة على الدولة التي تخضع فيها الهيئات الحاكمة للدستور وصف "الدولة الدستورية" ، وقد استقر هذا الوصف في الفكر السياسي بعد استقرار فكرة الفصل بين السلطات الثلاث ( التشريعية والقضائية والتنفيذية ) ويعدُّ الحكام في الدولة الدستورية مفوضين عن الشعب الذي هو صاحب السلطة الحقيقية ، وهؤلاء الحكام يتصرفون وفق قواعد مقيدة يحددها الدستور مسبقاً لكل منهم ، وفي الظروف الاستثنائية تعطي معظم الدساتير للحكام هامشاً ضيقاً من حرية التصرف ، وإذا ما أراد الحاكم توسيع هذا الهامش يتوجب عليه الرجوع إلى السلطة التشريعية لأخذ موافقتها أولاً ، وتشترط معظم الدساتير أن لا تتجاوز هذه الصلاحيات حداً معيناً وإلا فقد النظام دستوريته كما هو حاصل اليوم في العديد من دول العالم التي تفاخر نظرياً بأنها دول دستورية ، وعندها دساتير مكتوبة أنيقة الخط والتغليف ، لكنها في واقع الحال لا تعير الدستور أي اعتبار ، ولا تقيم له أي وزن !

ويخبرنا التاريخ أن الدساتير المدونة حديثة العهد نسبياً إذا ما قورن تاريخها بتاريخ الحكومات والدول الموغل في القدم ، ولعل أول دستور مكتوب ومعروف في التاريخ السياسي هو ذلك الدستور الذي عرف باسم "الصحيفة" وهي الوثيقة التي أبرمها النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ( عام 1هـ / 622م ) عندما هاجر إلى المدينة المنورة بناء على طلب من أهلها الذين دخل معظمهم في الإسلام ، وقد كان هذا الدستور هو أول عمل سياسي للنبي الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة ، وقد تضمن دستور المدينة جملة من القواعد الأساسية التي تنظم العلاقة بين المسلمين وبقية أهل المدينة من المشركين واليهود والقبائل التي كانت تسكن المدينة حينذاك ، والقبائل التي اختارت أن تكون في حماية الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة .

أما أقدم الدساتير المدنية المكتوبة فلم ير النور إلا بعد دستور المدينة المنورة بأكثر من ألف عام ، وهو دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي ووفق عليه بالأكثرية يوم ( 21/6/1787) ووضع قيد التنفيذ العملي يوم ( 4/3/1789 ) علماً بأن هناك العديد من دول العالم حتى اليوم ليس لها دستور مكتوب على الرغم من أن بعضها دول ديموقراطية نيابية مثل ( بريطانيا ، نيوزلندا ) إلى جانب بعض الدول العربية التي ليس لها دستور مكتوب حتى اليوم ، وقد عرفت الدساتير العربية في العصر الحديث لأول مرة في مصر التي صدر فيها دستور عام 1882 بأمر من الباب العالي العثماني ، وتلاه دستور عام 1923 بعد إعلان الاستقلال عن بريطانيا ، أما بقية البلدان العربية فلم تعرف الدساتير إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ، ولعل أول الدساتير العربية هو الدستور الذي صدر في العراق بعد عام من سقوط الخلافة ، ثم دستور لبنان 1926 ، فسوريا 1930 ، فليبيا 1951 ، فالسودان 1958 ، فتونس 1959 وقد شهدت هذه الدساتير تعديلات كثيرة منذ إعلانها وحتى اليوم .

السياسة همٌّ متجدد :

 بالرغم من كل ما قدمناه من محاولات لتطوير العمل السياسي فقد ظلت لعبة السياسة على مدار التاريخ البشري مثل الكرة التي يتقاذفها اللاعبون في الملعب ، لا تستقر على حال ، ومازال البشر حتى يومنا الحاضر يجربون أشكالاً جديدة من أنظمة الحكم التي يبتكرها الساسة أو الملأ الموالون لهم ، ولكن الهدف من مختلف هذه التجارب ظل هو .. هو .. لم يتغير على مدار التاريخ ، فقد ظل الهدف أن يبقى الحاكم متربعاً على العرش ، ماسكاً عصا القيادة ، لأطول فترة ممكنة من الزمان ، لا فرق في هذا بين ملك أو رئيس أو سلطان أو أمير أو زعيم أو شيخ قبيلة ، فقد أصاب هذا المرض السياسي المزمن كل من تصدى للحكم ، ولم يكن ثمة مانع عند معظم الحكام ـ إن لم نقل كلهم ـ من سلوك مختلف السبل المشروعة وغير المشروعة في سبيل تحقيق هذا الهدف ، لأن المهم آخر الأمر أن تبقى عصا القيادة في يد "الكبير" وليكن من بعده الطوفان ، ومن الطريف أن تاريخ السياسة قد شهد فترات حكم لا تكاد تصدَّق ، امتد بعضها زهاء قرن كامل من الزمان ، وهذه الأرقام القياسية في الحكم مسجلة حتى الآن لثلاثة من الملوك والأباطرة ، وهم على التوالي حسب الأقدمية في التاريخ :

·        الفرعون (فيوبس الثاني) أو أنفركار ، في مصر القديمة ، الذي ظل في سدة الحكم حوالي ( 94 سنة )

·   وملك أراكان في بورما ( مينهتي ) الذي يعتقد أنه بقي في الحكم مدة تربو على ( 85 عاماً ) في الفترة ما بين عامي ( 1294 ـ 1379 )

·   وأمير منطقة نزيغا في تانجانيكا وسط أفريقيا وهو (موصوما كاينجو) الذي يعتقد أن فترة حكمه دامت ( 98 عاماً ) ما بين عامي ( 1864 ـ 1963 )

أما الأسر الحاكمة فقد تجاوز حكم كثير منها حاجز القرن الواحد ، واستمر بعضها عدة قرون ، بل إن بعضها استمر في الحكم آلاف السنين ، كما هي مثلاً حال الفراعنة في مصر القديمة ، أما أقدم الأسر الحاكمة التي مازالت على رأس السلطة حتى اليوم فهي الأسرة الإمبراطورية في اليابان المنحدرة من نسل الإمبراطور الأول جيمو تنّو ( 660 ـ 581 ق.م ) وقد مضى عليها في الحكم زهاء 2600 عاماً حتى الآن ، إلا أن الممارسة السياسية في اليابان بدأت في العصور الحديثة تنتهج النهج الديموقراطي الذي يتولى فيه رئيس الوزراء الشؤون التنفيذية ، مع بقاء الإمبراطور ممثلاً للسلطة العليا في البلاد !

تحكيم الشريعة :

من الجدير بالذكر قبل أن نختم هذا الفصل المليء بالإشكالات والملابسات والمخاطر والذي نتوجس خيفة أن نخوض فيه أبعد مما خضنا ، أقول لابد لنا أن نبين هنا جانباً مهماً من الجوانب التي تختلف فيها السياسة الشرعية في الإسلام عن غيرها من الممارسات السياسية التي شهدها التاريخ ، بما فيها الحكومات الدينية أو الثيوقراطية ( Theocracy ) التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى ، ونحن هنا سنتحدث عن منهج التشريع الإلهي في هذه المسألة وليس عما جرى على أرض الواقع عبر التاريخ الإسلامي ، لأن ما جرى لم يكن دوماً يستلهم المنهج الإلهي في تسيير دفة السياسة ، بل كان يقترب منه حيناً ، ويبتعد أحياناً ، وفق ما تمليه الظروف والأشخاص والأهواء والمصالح والغايات !

وقد كثر الحديث في العقود الأخيرة حول إشكالية السلطة في الإسلام ، أو ما يعرف بفصل الدين عن الدولة ، أو الفصل ما بين السلطتين الزمنية والروحية ، وقد أثيرت هذه القضية منذ زمن مبكر في التاريخ الإسلامي وكانت هي الشرارة الأولى التي فجرت "الفتنة الكبرى" ابتداء من مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ( 35هـ / 655م ) وما أعقب ذلك من نزاع بين علي ومعاوية وما أسفر عنه من ظاهرة "الخوارج" الذين قاموا في وجه علي متهمين إياه بأنه ( لا يحكم بما أنزل الله ) وقد كان من نتيجة هذه الإشكالية جرح غائر في تاريخنا الإسلامي لم يبرأ حتى اليوم !

وقد أعيد إنتاج هذه الإشكالية مراراً وتكراراً في فترات مختلفة من تاريخنا الإسلامي ، وظهرت هذه الإشكالية على السطح مرة أخرى في العصر الحديث ، ولعل من أوائل من تجرؤوا على إثارتها في أوائل القرن العشرين الشيخ علي عبد الرازق ( 1885 ـ 1947 ) الذي كان قاضياً بمحكمة المنصورة في مصر ، فقد أقدم في عام 1925على إصداره كتابه المثير للجدل "الإسلام ونظام الحكم" الذي نفى فيه الصفة الدينية عن نظام الحكم في الإسلام ، وقد بدا الكتاب في حينه وكأنه رجع الصدى لكتاب المستشرق البريطاني ويلفريد سكوون بلانت ( 1840 ـ 1922 ) الذي كان قد نشره بعنوان "مستقبل الإسلام" ودعا فيه المسلمين لفصل الدين عن السياسة ، وقد أثار كتاب الشيخ ردود فعل غاضبة من قبل علماء الأزهر ونفر واسع من علماء الأمة الإسلامية ، وأدين الشيخ بحجة أنه جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بأمور الدنيا ، وأن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل المُلك لا في سبيل الدين ، وأن نظام الحكم في عهد النبي كان غامضاً مبهماً موجباً للحيرة ، وأن مهمة النبي كانت مجرد بلاغ للشريعة ولا علاقة لها بالحكم أو السياسة ، وأنكر الشيخ كذلك إجماع الصحابة على وجوب تنصيب إمام للمسلمين ، وزعم أن حكم الخلفاء الراشدين لم يكن دينياً !

وبالرغم من أن الشيخ فصل من وظيفته وأخرج من زمرة العلماء وصودر كتابه ومنع من نشره ، إلا أن الأفكار التي أثارها وجدت لها فيما بعد مؤيدين من بعض المفكرين أولاً ثم من بعض أصحاب القرار الذين بدؤوا ينتهجون النهج العلماني في تسيير السياسة العامة في معظم البلدان الإسلامية ، مما أثار موجة احتجاج مضادة من قبل نخبة من الإسلاميين الذين بدؤوا ينادون بشعار ( تطبيق الشريعة ) ونشطوا في تشكيل جماعات إسلامية لتحقيق هذا الهدف في شتى البلدان العربية والإسلامية ، وقد حدثت مواجهات كثيرة بين هذه الجماعات من جهة وبين أنظمة الحكم التي لم تلبي هذا المطلب من جهة أخرى ، وكانت المواجهات في كثير من الأحيان دامية ، ومما يؤسف له أن هذه المواجهات ماتزال قائمة ، هنا أو هناك ، مشَكِّلة استعصاء سياسياً أشبه بالدخول في نفق مظلم لا ندري كيف ولا متى نخرج منه !

ونظراً لطبيعة بحثنا هذا فإننا لا ننوي الخوض في تفاصيل هذه الإشكالية ومنعرجاتها الخطرة ، لكن تكفينا الإشارة هنا إلى أن هذه الإشكالية ترجع أساساً إلى أن الإسلام يطالب معتنقيه بأن يستهدوا بنور الوحي في السياسة وفي غيرها من شؤون الحياة ، على النقيض من المناهج الوضعية التي تعتمد العقل البشري مرجعية وحيدة لها ، وقد تكلم الفقهاء طويلاً في هذه المسألة ، وصنفوا فيها العديد من الكتب ، من أشهرها كتاب "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" للإمام الماوردي ( 974 ـ 1058م ) ، وكتاب "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 1263ـ 1328 ) وغيرهما ممن فصَّلوا سمات الحُكْم من الوجهة الشرعية ، ولعل أفضل من يحدثنا عن هذه الإشكالية ابن خلدون هذا المفكِّر الرائع الذي يفرض علينا حضوره في كل مناسبة ، ونحن لا نعود هنا إلى ابن خلدون لأنه فقيه فيلسوف مؤرخ فحسب ، بل لأنه إلى جانب ذلك كله قد اكتوى بنار السياسة حين تولى مناصبها في بلدان إسلامية مختلفة ، وعرَّض نفسه مرات عديدة للموت لأنه تجرأ على اجتراح هذا الفعل المحفوف بالمخاطر ، وعندما أحسَّ بالعيون تترصده وتتربص به الدوائر اعتزل السياسة وعكف على رياضته المفضلة في التفكر والتأمل والتأليف ، فطلع علينا بفصل شيِّق طويل في ( المقدمة ) عقده تحت عنوان ( في معنى الخلافة والإمامة ) ميز فيه بوضوح ما بين السياسة الدينية والسياسة الدنيوية ، وأول ما يسترعينا في عرض ابن خلدون أنه يستخدم مصطلح ( الخلافة ) للسياسة التي مرجعها الدين ، ومصطلح ( المُلْك ) للسياسة التي مرجعها غير ديني ، وهو يتحدث عن القوانين المتبعة في السياسية فيقول : ( فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصَرائها كانت سياسة عقلية ، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط .. بل المقصود بهم إنما هو دينهم المفضي بهم إلى السعادة في آخرتهم .. فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة ، حتى في المُلْك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني ، فأجْرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطاً بنظر الشارع . فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب .. فَجَوْرٌ وعدوان ومذموم عنده .. وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضاً لأنه نَظَرٌ بغير نور الله .. لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور آخرتهم ، وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم .. وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط .. ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم ، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم ، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ، ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء )(4)

ويخلص ابن خلدون بعد نقاش طويل لمسألة الخلافة والمُلْك إلى أن بؤس العالم الإسلامي والعنف السياسي السائد فيه ( طبعاً في أيامه ، فكيف به لو رأى أيامنا ! ) يعود بالدرجة الأولى إلى أن الخلافة التي تعد رسالة إلهية في الإسلام قد تحولت بعد العصر الراشدي إلى مُلْك ، أي إلى استئثار بالحكم لا يخضع لقانون سوى أهواء الأمير ، وذهب ابن خلدون إلى أن الملك يناقض الخلافة ، لأن الخلافة تعني خضوع الحاكم نفسه للشريعة الإلهية وهذا ما يجعل رغباته الذاتية لا شرعية ، وفي هذا تكمن عظمة الإسلام السياسي حسب ابن خلدون ، فالخليفة مقيد بأحكام الشريعة وكذلك رغباته وشهواته ، أما الملك فلا يعترف بأي قانون أعلى من سلطته وميوله وأهوائه !

وتمتاز الخلافة عن الملك بشيء آخر ، فالملك يسهر على مصالح المحكومين الدنيوية فحسب ، أما الخلافة فتسهر أيضاً على آخرتهم ، كما أن الخليفة ليست لديه حرية التصرف التي يتمتع بها الملك ، لأن الخليفة مقيد بالشريعة التي تنطبق عليه كما تنطبق على محكوميه ، وهنا تكمن في نظر ابن خلدون جدَّة الإسلام وخصوصيته السياسية الفريدة ، وينبهنا ابن خلدون إلى جانب آخر على درجة كبيرة من الأهمية ، وهو أن الخليفة ليس مقيداً بالشريعة الإلهية فحسب ، لكنه فوق هذا لا يملك لها تغييراً لأنه مهما كانت قوته فإنه لا يملك في عرف الشرع سلطة التشريع ولا حق التشريع لأن المشرع الوحيد هو الله سبحانه وتعالى ، وما مهمة الخليفة إلا تطبيق الشرع(5) ، وبسبب هذا الاختلاف الجوهري ما بين الخلافة والملك نشأت صراعات مريرة ومواجهات دامية عديدة على طول تاريخنا الإسلامي ما بين المطالبين بإقامة الخلافة وبين الطامعين بالملك ، ومازالت هذه المواجهات قائمة إلى يومنا الحاضر ، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الإشكالية كان يمكن أن تحل بهدوء وسلام من خلال الحوار الهادئ بين الطرفين ، إلا أن هذا الأمل العزيز ظل بعيداً عن التحقيق وذلك لسببين اثنين يفضي أحدهما إلى الآخر ليدخلا معاً في حلقة مفرغة يتعذر الخروج منها :

* السبب الأول : يأتي من قبل المطالبين بتطبيق الشريعة وعودة الخلافة ، الذين يعتقدون أنهم يطالبون بواجب شرعي لا يرفضه إلا خارج عن الملة ، فهؤلاء يرون أن المسألة تتعلق مباشرة بثنائية ( الإيمان / الكفر ) ومن ثم يمسي الاتهام بالكفر تهمة جاهزة لديهم ضد معارضيهم !

* والسبب الثاني : يأتي من قبل المعارضين لتطبيق الشريعة وعودة الخلافة ، الذين يعتقدون أن تطبيق الشريعة يعني العودة بالمجتمع إلى صورة الحكم الديني أو الثيوقراطي الذي ذاقت منه أوروبا الأمَرَّين في حقبة طويلة من تاريخها المظلم ، ويتوجسون فوق هذا من أن وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم يعني إقامة ( محاكم تفتيش ) جديدة لتطهير المجتمع من الكفار على منوال ما حصل في العصور الوسطى في أوروبا !

وما بين هؤلاء وأولئك عاشت الأمة الإسلامية ردحاً طويلاً من تاريخها في أزمات سياسية متلاحقة مازالت تدور في دوامتها العنيفة إلى اليوم ، ونعتقد أنه لا مخرج من هذه الدوامة إلا بتحكيم العقل والقبول بالطرف الآخر مهما كان رأيه مخالفاً لرأينا مع الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى التي استطاعت أن تنزع فتيل هذا النزاع بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع ، هذه الصناديق التي استطاعت بجدارة أن تحول وجهة الأزمة من صراع على السلطة إلى تنافس حثيث على ممارسات سياسية أفضل ، ليست بالضرورة ممارسات خالصة لوجه الله كما يأمل أهل الدين ، بل ربما تكون بدافع الطمع للبقاء في (الكرسي) فترة انتخابية ثانية ، ومع أن هذا الدافع قد لا يريح أهل الدين إلا أنه على أية حال أفضل بكثير مما جربناه عبر تاريخنا الطويل الذي أسلمنا فيه مصيرنا للحاكم ، تاركين إياه لضميره ، إن شاء عدل وإن شاء ظلم ، فإذا فعلنا ذلك فربما نستطيع التخلص إلى غير رجعة من ذلك النفاق السياسي الذي ظل يجبرنا على الدعاء للسلطان بطول ( البقاء ) لا لأننا راضون عنه بالضرورة ، بل لأننا نخشى أن يخلفه من هو أشد منه بطشاً وأشد تنكيلا !

وغني عن البيان أن دعوتنا هذه ليست دعوة مفتوحة لتبني المنهج (الديموقراطي) الغربي بعجره وبجره ، بل هي دعوة للاستفادة من تجارب الأمم التي استطاعت أن تحول مبدأ ( الشورى ) الذي هو مبدأ إسلامي أصيل إلى مؤسسات راسخة قادرة على تنصيب سلطان مكان سلطان دون إراقة قطرة دم واحدة ، فيما عجزنا نحن المسلمين عن هذه النقلة ، بل قدمنا ثلاثة من خلفائنا الراشدين شهداء على مذبح السياسة ، بينما نجد في العصر الحديث دولاً شتى قد تناوب على حكمها رؤساء كثيرون دون أن تدخل متاهة التصفيات السياسية كما هو حاصل لدينا ، وها نحن اليوم نشاهد عدداً من رؤساء تلك الدول الديمقراطية الذين مازالوا على قيد الحياة وقد تنازلوا عن ( الكرسي ) طائعين بعد انتهاء مدة ولايتهم ليتابعوا حياتهم العادية مثل بقية المواطنين ، بينما لا نجد في أي بلد من بلداننا الإسلامية زعيمان في نفس الدولة على قيد الحياة ، إلا إذا كان أحدهما رهين الزنزانة المنفردة!

               

(1) انظر مجلة : الثقافة العالمية ، العدد 67 ، ص 121 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت 11/1994 .

(2) أحكام القرآن للقرطبي 4/249 ، أحكام القرآن للجصاص 2/48 ، تفسير الفخر الرازي 9/67 ، مواهب الجليل 3/395 ، بدائع السلك في طبائع الملك 1/295

(3) ابن القيم : إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/372

(4) ابن خلدون : المقدمة ، ص 178 ، تحقيق د.درويش جويدي ، المكتبة العصرية ، صيدا وبيروت 2002 .

(5) فاطمة المرنيسي : سلطانات منسيات ، ص 9 ( بتصرف ) ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل ، المركز الثقافي العربي بيروت ، نشر الفنك الدار البيضاء 2000