الإعلام ذلك الوحش الذي يعيش بيننا

أسامة الخراط

من بداية التسعينات استقر الأمر للتلفاز لكي يكون هو التسلية الأكثر متعة في حياة الصغار والكبار، ومع كل محاولات الأهل تقنينه تحت ضغوط الدراسة والعلم والعمل، ولكن تأثيره كان يشبه المخدرات التي يدمن عليها الإنسان تدريجياً، فكان الأطفال يتشوقون بعد الرجوع من المدرسة لرؤية توم وجيري والمسلسلات العربية، وكان يلاحظ وجود آثارا كبيرة على الأطفال من خلال التعلق والتقليد للشخصيات الكرتونية مثل (كراند ديزر أو سالي أو توم وجيري)، أو بأبطال المسلسلات مثل أبطال المسلسلات المصرية أو كساندرا (بطلة المسلسل المكسيكي الماجن والأشهر في تلك السنوات).

وبعد عشر سنوات دخلت الكمبيوترات وبعده الانترنت، وبدأت الآثار لوسائل الإعلام تظهر بشكل أوضح من خلال تغيير حياة البشر وتوجيه اهتماماتهم من خلال ما تبثه وسائل الإعلام والترويج لمنتجات معينة أو أفكار محددة،

ومن السنين وصل الناس لدرجة الإدمان الكامل وأصبح الجلوس أمام التلفزيون أو الانترنت لساعات طويلة هو الوسيلة الأولى لتضيع أوقات الناس وأصبحت بشكل واسع تحرمهم من تحصيل العلم الحقيقي الذي يؤخذ من الكتب والجلوس للعلماء والحكماء، وأصبح حسب دراسات عديدة معدل جلوس الفرد أمام التلفزيون من 6 إلى 10 ساعات يوميا، وأصبح معدل القراءة للفرد العربي ثلاث صفحات في السنة، وكانت المحصلة لتلك السياسات ظهور أجيال جديدة زرعت فيها قيم ومعتقدات تتحكم في حياتهم اليومية وأصبحت الأفكار الخاطئة والقيم المشوهة هي بضاعة أغلب وسائل الإعلام.

ومن أمثلة تأثير وسائل الإعلام الهائل في السنوات الثلاث الأخيرة، وعلى سبيل المثال فقط ما حصل في الأحداث الأخيرة التي نتجت عن برنامج مسابقات الأغاني (عرب أيدول) والتنافس الهائل الذي اجتاح العالم العربي والعالم عموما ومشاركة مئات الملايين من البشر للتصويت عبر الهواتف، وأصبح الهاتف أيضا بعد ربطه بوسائل الإعلام الأخرى وسيلة إعلام وتجسس ومراقبة دقيقة وبالأرقام لأمزجة الناس واتجاهاتهم.

ومن المؤشرات الأشد خطرا لهذه الظاهرة هو خروج مئات آلاف الناس للشوارع في غزة احتفالا بفوز المتسابق الفلسطيني، فهل كان أحد يتصور أن يكون هذا التأثير الكبير حاصلا على غزة المحاصرة والتي ينقطع فيها الكهرباء وتعاني الأمرين من آثار الحرب الطويلة عليها من قبل الإسرائيليين !!! فما بالك ببقية الدول التي تعيش حياة عادية وطبيعية فمن المؤكد أن التأثير أكبر بعشر أضعاف ولكنه يتجلى من خلال ظواهر وصور مختلفة.

ومن المخيف لكل متابع أن غزة بكل رمزيتها يؤثر في جمهورها برنامج تلفزيوني واحد يقوده مجموعة من الفنانين يبثون أفكارا وعادات منها (العري، التنافس التافه، الدعاية للمشروبات الغازية ودجاج كنتاكي) فهذه الرسائل التافهة والسطحية بدرجة هائلة، لو كان هناك وعي كيف يمكن أن يتفاعل معها الناس في ظل وجود الدماء والدمار والفتن التي تلف العالم العربي من شرقه لغربه، ولا يتفاعلون أيضا مع مشاهد الناس التي تذبح في الشوارع يوميا في بلاد الشام قلب العالم العربي والإسلامي !!!

أما الحدث الآخر الذي أظهر التأثير المدمر لوسائل الإعلام، هو المظاهرات المليونية الكبيرة التي خرجت معارضة للرئيس الدكتور محمد مرسي، فقد تابع الكل الحملات الموجهة والممولة من خلال وسائل الإعلام، والتي تبث يوميا آلاف الساعات المخصصة لتشويه صورة الرجل بكل الطرق من الكذب والتوجيه الكاذب للحقائق والاقتطاع من الكلام ليوصل معاني مضللة، ومئات الوسائل المدروسة بعناية فائقة لتشويه الصورة.

واشترك الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بالأمر، فقد لاحظت في الأيام الأخيرة انتشار الدعوات لصفحات (الفيس بوك) الممولة وهي تروج لفكرة واحدة أنه يجب إسقاط هذا الرئيس وإلصاق كل التهم الكاذبة به، والتي يمكن لأي مقالة أو برنامج منطقي وعلمي أن يثبت بالدليل القاطع أن هذا كذب صريح، ولكن الناس صدقت وسائل الإعلام وخرجت بالملايين مستجيبة للتحريض الممنهج.

ومن الحقائق المغيبة أيضا أن وسائل الإعلام أغلبها موجه وممول بالكامل من شخصيات تريد أن تؤدي مهمة معينة موكلة إليها، وذلك لأن أغلب التلفزيونات في العام العربي خاسرة تماما وخصوصا المحطات الإخبارية، بل أنها تخسر مئات ملايين الدورات كل سنة وعائدات الإعلانات فيها لا تعوض ولا حتى عشرة بالمئة من مصاريفها الهائلة، وهذه حقيقة مثبتة بالأرقام والبيانات المنشورة لميزانيات وسائل الإعلام هذه، إذن من يعوض الخسائر هذه حتى تبقى وسائل الإعلام هذه تعمل وتبث أفكارها ؟؟

إنهم بلا شك المستفيدين من الأوضاع التي تخلقها وسائل الإعلام في الشارع العربي من حروب وفوضى وتحريض، وحتى أحيانا يتم خلق حدث معين أو تضخيمه ليس لذاته بل لإيصال الناس لوجهة نظر معينة بعد أن تشاهد آثار ذلك الحدث، ولا يجب أن نستهين بالعقول الكبيرة والمنظمة التي تسيطر على وسائل الإعلام وتسيرها، ولا نريد أن ندخل في تحديد هذه الجهات فلكل حدث مستفيد، ولكن دائما ابحث عن الممول وستعرف من هو المستفيد من الأمر فيوجد مثل عربي يقول: (الذئب لا يهرول عبثا)

أما في الشأن السوري فلوسائل الإعلام تأثير كبير جدا لا أريد الدخول في تفصيلاته ولكن أعطيكم إشارات فقط، فقد لفت نظري أحد الأخوة التقنيين لحقيقة لم أكن أعرفها وهي أن (الفيس بوك واليوتيوب) قد كان يمنع بشكل قاطع بث أي مشاهد عنف أو قتل أو حتى مشهد دماء بسيطة، وأيضا يمنع أي صفحات فيها تحريض على القتل أو التحريض المذهبي أو العرقي، وهذه هي القواعد التي أنشئ عليها الموقع من أول يوم ويلتزم بها بشدة، ولكن فجأة تغيرت هذه السياسة في الشرق الأوسط فقط، وأصبحت وسائل الإعلام هذه تسمح ببث مشاهد قتل وذبح صريح تماما وكتابات غاية في العنف والعنصرية، فما هي المصلحة الحقيقية لوسائل الإعلامية الغربية هذه في تحريض الناس بعضهم على بعض، وإيصال رسائل إعلامية مؤثرة جدا ومحفزة لكل الأطراف مثل مشاهد القتل والنحر والتحريض الطائفي ؟؟؟

في خلاصة أخيرة نقول قاطعين، إن ما يشكل حياة الإنسان هو وعيه وثقافته فهي ما تجعلك تتحرك وتتفاعل مع الأحداث فتجعلك تخرج من بيتك لتذهب لمظاهرة معينة أو تدفع مبلغا معينا لشراء أمر ما أو دعم قضية معينة، أو حتى تسكت في بيتك وعملك عن ظاهرة معينة أو تتكلم بقضية معينة أو تتصرف بطريقة محددة. فنحن إذن نربي وحشاً في بيوتنا اسمه وسائل الإعلام، ويمكن أن يؤكلنا في أي لحظة ....

الإنسان في عالم اليوم محروم من العلم والمعرفة الحقيقة والتي توجد في الكتب السماوية مثل القرآن وكتب العلم التي تعطيك خلاصة تجارب البشر في كل المجالات الشرعية والحياتية والسياسية، نحن نتعلم الأمور التي يريدنا مالكو وسائل الإعلام أن نعلمها، ويقومون بتحفيزنا للقضايا التي يريدونها، وتسخين أو تبريد القضايا حسب ما يرغبون، ووصل الأمر لقلب الحق الواضح باطلا ممكنا، أو التشكيك بالباطل ليكون أقرب للحق.

يجب أن تملك الشعوب الإسلامية والعربية وسائل إعلامها لتقوم ببث الحقائق فقط، ولا تقوم بتشويهها أو تجميلها، يجب أن نعرف ما هي الحقيقة والحق، يجب أن نعرف أمراضنا وأدويتها، وكيف نخرج من التخلف الهائل الذي وصلنا إليه، يجب أن يتوقف التضليل فقد أضاع كل قضايانا وميعها، وأنشأ الفتن والتناحر والتعصب بين الناس، يجب أن نعرف أننا أمة المليار والنصف إنسان ولو قررنا بلحظة واحدة مقاطعة دولة أو منتج أو فكرة فستسقط فورا وستنهار أمامنا، فمن يستطيع الوقوف أمام قضايانا ساعتها ؟؟؟ تصورا معي أن نقاطع منتجات بلد معين أو شركة معينة فكيف ستصمد بعدها ؟؟؟ وكم هو حجم التأثير الإعلامي لذلك ؟؟ وتذكروا معي أيام الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومدى تأثير ذلك على الدنمرك والتي أصبحت تستجدي الخروج من الغضب الهائل والمقاطعة والمظاهرات التي اجتاحت العالم الإسلامي.

وفي قصة أخيرة ستلخص لكم القضية ... فقد التقيت مؤخرا في اسطنبول بأسير فلسطيني محرر ومبعد لتركيا، وعندما سألته ماذا تدرس، فقال لي: أدرس الإخراج السينمائي، فقلت له مستغربا ولماذا اخترت هذا العلم، فالناس عندنا لها نظرية سلبية لهذه المهن،

فقال لي: لقد قابلت مرة القائد الشهيد الرنتيسي رحمه الله، فوجد فيني ذكاء وهمة، فأوصاني أن أدرس الإعلام وقال لي نحن اليوم لا نملك السلاح الحقيقي، لأن الإعلام هو السلاح الوحيد الفعال والذي ملكه أعداؤنا .. فخسرنا بعد ذلك كل معاركنا ....

فلم غربي يشرح لكم تأثير وسائل الإعلام على الناس

">