الثقافة: انتماء وهوية..

عقاب يحيى

الثقافة هوية، والثقافة وعاء الانتماء، ومظلة بنيان الأفكار والبشر، وخط الجذور التي تفرّع الأغصان والأوراق المتنوّعة كي تعطي ثمراً يخص شعباً أو أمة بالتلاقح بين موروثاتها وأصالتها وتطورات العصر، وموقع الحداثة والانفتاح فيها، والإنسانية المتشابكة مع الخصوصية ..وهي الجامع والمورد لمختلف مظاهر الفكر والأدب والفنون واللغة والتراث والأصالة والإنتاج البشري العقلي..وهي التي تُضفي تلك " النكهة" الخاصة على شعب من الشعوب بكل تمايزاته، وصفاته ودوره في الحضارة البشرية .

ـ لعلها الأمة العربية من بين أكثر الأمم التي تعاني إشكالات في الثقافة تتصل بجوهر الانتماء والهوية، كونها تحمل خصائص معينة من جهة، ولأنها تعرّضت لعمليات قسرية من التفكيك والتقسيم والتجزئة من جهة ثانية، ولفشل مشروعها النهضوي ـ التوحيدي من جهة ثالثة، وخيانة تلك القوى والنظم التي ادعت حملها لذلك المشروع فارتدّت عليه، ومزقته، وفرّخت، هي وبقية النظام العربي، مزيد عوامل التشتت والضعف، والتراجع.. وفتحت الأبواب لأواع مختلفة من الصراعات ما قبل وطنية وقومية تهدد الكيانات القائمة بمزيد الشرذمة والتفتيت .. بما يطرح بقوة قصة الهيوة، والانتماء، وموقع ومآل العروبة من الذي يجري، ومن مستقبل الأمة ..

ـ الثورات العربية تنكش اليوم مختلف الظواهر الأصيلة والفرعية، وتُبرز إلى السطح كل ما كان مغموراً، أو منسياً، او مقموعا في مرحلة مخاضية من جهة، واستعراضية من جهة أخرى ..وتلقي ـ دفعة واحدة ـ بمختلف التراكمات، والمكوّنات الطبيعية والمفتعلة والمُضَخّمة من جهة ثالثة .

ـ الإثنيات، والقوميات، والعشائر والقبائل والعائلات.. والأديان والمذاهب، والتاريخ القديم، وطيّاته وما حمل، والأصول والعوابر والمختلطات.. وكل شيء يتناطح ويبرز في فترة الموار.. ويحصل ذلك التشابك الأقرب للمتاهة، والتوهان.. حيث يسمح انفجار الخزين السوري بانبعاث، وترويج كل أنواع الأطروحات.. خاصة المتعلقة بالهوية، والانتماء..وبالأصول، وموقع سورية من الوطن العربي، ومن الجوار، وصلب المفاهيم المرتبطة بعناوينها واسمها ومضامينها واهتماماتها ....إلخ .

ـ الخلاف جلي حول الهوية.. وهل هذه البلاد عربية ؟.. أيّاً كان تعريف ومضمون العربية، والعروبة المتطورة، الحاوية لجميع القوميات والتباينات، والمقرّة بحقوق الجميع، بما فيها القوميات والأديان والمذاهب والمعتقدات، وعلى أساس المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات في جميع المجالات؟؟..أم أنها كيان مستقل، ومنفصل عن أكثريتها، وتاريخها المديد ؟؟....وهل الوطنية السورية مجردّة من بعدها العربي ولا علاقة لها به، ولا صلة، ولا مسؤولية ؟؟؟؟.........

ـ هل سورية التاريخية، وسورية العصر الحديث جزء من وطن عربي أم أنها كيان سوري مستقل.. يعتقد البعض أن أصوله خارجة عن التعريف..بدءاً من الآشوريين والسريان والفينيق.. وغيرهم، وأن العروبة طارئة، ودخيلة جاءت مع الإسلام قبولاً، أم فرضاً.. وسيطرة، فاستوطنت، واستقرت، وطغت ؟..وقسرت، وتعصّبت؟؟....وأن العودة للأصول تقتضي الاعتراف بأنها بلد الشعوب والقوميات المتعددة التي تستوجب تعريفاً دستوريا يقترب من الفيدرالية، وحتى الكونفدرالية لدى البعض، وإرجاع اسمها : الجمهورية العربية السوري للبعث والتعصب، والفرض.. وأنها سورية وحسب : الوطن المستقل عن الجوار، والعمق، والامتداد، شأنها شأن بقية الدول المستقلة التي تبني علاقاتها على اساس المصالح المشتركة.. وحسب ...

ـ أم أن سورية التي يراد إقامة دولتها التعددية الديمقراطية هي حالة سورية خاصة. كيانية مستقلة تتشكّل من مجموع القوميات و"الشعوب" المتواجدة : القديمة منها والوافدة، ولا علاقة لها بالعرب الآخرين إلا مثل علاقتها بالدول الأخرى.. بكل مستتبعات ذلك من قطع لأفكار التوحد، أو الاتحاد، أو الموقف من فلسطين، ناهيك عن الانتماء، وحقوق الأكثرية.. وكل الهموم والقضايا العربية ؟؟...

                                                      *****

إننا في مرحلة الفوران . مرحلة حقّ الجميع بالتعبير عن ذواتهم، وقومياتهم، ومعتقداتهم، بما في ذلك ردود الفعل على المظالم الحقيقية التي تعرّضت لها عديد القوميات، وبما فيها أيضاً المبالغات، والاختلاقات، والتوظيف لأغراض تخرج عن نطاق الحقوق المشروعة على ما يضبّ في مشروعات خاصة .. ومرحلة التأسيس للحقوق الطبيعية الثابتة لجميع هؤلاء.. في إطار المجتمع الواحد، والكيان السياسي الواحد، والجغرافيا الموحدة غير القابلة للتقسيم، واستقبال كيانات ما تحلم بعض الأطراف بها ـ إلى هذه المسافة أو تلك .

ـ ونعلم أيضاً أن الأمم تتعرّض لعديد التماوجات، خاصة تلك التي لم تحقق كيانها، والتي عرفت عمليات قسر تفكيكي، وتآمر معلن من الخارجي، وأن حضورها في الوجدان والواقع والمقوّمات والبرامج رهن بأهلية المؤمنين بها، وقدرتهم على توفير عوامل التحقق، وأن انهيار المشروع النهضوي العربي، وتكريس التفكك، وما دون الدولة القطرية.. يؤدي إلى عديد الإفرازات متعددة الاتجاهات.. حيث أصبح الحفاظ على الدولة القطرية : منتجات اتفاق سايكس بيكو، غاية المنى، ودونه مخاطر كثير تحفر تخومها وكياناتها في الواقع، أو في آفاق التحولات الطبيعية والمفروضة، والنتاج .

ـ وأن الأمم في حالات الصعود، وامتلاكها لمشاريعها الخاصة غيرها في مراحل الهزائم، والنكوص، والتفتت حيث تضمحل ـ في الأولى ـ معظم الاتجاهات الفرعية، التقسيمية، بينما تنمو وتتضخّم في الثانية، وقد تتغول وتبتلع كل شيء، وقد تصبح أمراً واقعاً لا فكاك من التعامل معه ..وأن الوضع الحالي للدول العربية لم يعد يسمح بطرح ما كان يعتبر بديهيات في مرحلة الخمسينات والستينات.. حول الوحدة، والانتماء، والروابط، والتاريخ، وأعمدة القومية الواحدة..المنفتحة أو العصبوية.. وأن حالة الخوار، والفوات، والتمزق، والتبعية تهدد بالتلاشي، وتسمح لجميع الأفكار المناهضة، والإحباطية، والسلبية الناشئة عن ردّات فعل تبدو طبيعية.. ان تجد مرتسماتها، وأنصارها.. فتُحاصر تلك الاتجاهات القومية، وتنعزل حتى عمليات التطوير النوعي قي نطاق ضيّق ..

ـ من جهة أخرى، ومقابلة هناك خلط في المفاهيم حول الأمة العربية وعلاقتها بالإسلام، حيث يقفز بعض الإسلاميين فوق القومي، مستنكراً وجود أمة قومية عربية مستقلة في الزمان والمكان والمقومات كي يلحقها بأمة إسلامية تثير الجدل في المصطلح، والجوهر العلمي لتعريف القوميات، وتخومها، أو تشابكها مع العامل الديني، وهؤلاء ينطون إلى ما فوق الدولة الوطنية والقومية، ويطرحون الأمة، والخلافة، والدولة الإسلامية الواحدة التي يجب أن تشمل وتحتوي ليس فقط البلدان التي تحتوي أغلبية غسلامية فقط، بل وحتى تلك التي تتواجد فيها أقليات إسلامية، وربما ما هو أبعد .

ـ حق القوميات وجميع الإثنيات في الثقافة واللغة وجميع الحقوق الأخرى ـ على قدم المساواة مع جميع المواطنين ـ لا يتنافى مع وجود هوية الانتماء لما هو جمعي، وتاريخي، وأكثري، حين تصبح العروبة هوية وليست عنصراً، وعامل تجميع وتوحيد وليس قصراً على دم معين، أو دين واحد، أو مذهب ما.. حينها ، وفي إطار العروبة المتسعة، المنفتحة ستجد جميع المكونات القومية والدينية والمذهبية مكانها، وتحقق خصوصياتها في الإطار الجمعي.. ناهيك عن أهمية التكتلات والوحدات الإقليمية، والجهوية في عالم اليوم، وفي نقل البلدان على مصاف العصر، والإسهام بدور فاعل في الحضارة الإنسانية .

ـ  العروبة بمفهومها الحضاري المنفتح لا تتعارض ووجود إثنيات وقوميات مختلفة المنشأ، والثقافة، واللغة، ولا حتى الطموحات.. حيث يُفترض بالدولة العصرية، الديمقراطية أن تستوعب الجميع ضمن دستور جمعي يوفر الحقوق المتساوية، ويلبي مطالب مختلف الأطياف في إطار جمعي، وتحت راية الدولة الواحدة بهويتها العربية العامة.