إلى سمير قصير، لرؤياه في تلازم المسار الديمقراطي

المثنى الشيخ عطية

في مآلات برمجة القتلة..

إلى سمير قصير، لرؤياه في تلازم المسار الديمقراطي

المثنى الشيخ عطية

في فن السينما، حيث تُعرض معارك طاحنة فاصلة، يجري استسلام الجنود أو موتهم أو تبخرهم، بمجرد موت قائد المعركة أو الزعيم أو الساحر كما حدث للمسوخ الذين اجتاحوا مملكة أوريغون بضراوة المحاربين الذين لا يأبهون للموت، بمجرد إلقاء الخاتم في بركان انصهاره وموت الساحر في فيلم "سيد الخواتم" كمثال.. وهذا نتاجٌ فنيٌ بلغ أوج تطوره في السنوات العشر الأخيرة بما وصل إليه فن الإنيميشن والمحاكاة على الكومبيوتر وتكنولوجيا المواد من تقدم، لكن أيضاً بالاعتماد على التحليل النفسي للقراءات والمشاهدات والتجارب من قبل الكتاب والفنانين وعلماء النفس الغربيين بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تركيز دراساتهم على وضعية الجنود الألمان الذين استسلموا بعد قتالهم الضاري بمجرد إعلان انتحار الزعيم هتلر، وكأن غشاوة السحر التي كانوا تحت تأثيرها القسري قد زالت عنهم، رغم أنها قبل ذلك كانت تعزلهم حتى عن الإحساس بحرقهم لأطفال استقبلوهم بحفاوة، وكانوا يلاعبونهم في القرية التي دخلوها قبل صدور أوامر تكديسهم مع ذويهم داخل الكنيسة، وحرقهم إلى درجة أن أحد هؤلاء الجنود أعاد طفلاً رماه أبوه إلى الخارج من النافذة لإنقاذه...

وقد زاد استخدام الفن للتحليل النفسي في السنوات الأخيرة بدمجه مع شطحات الخيال العلمي في برمجة المحاربين، وتحويلهم إلى آلات قتل خارقة القوة، للإشارة إلى الضمير الإنساني الذي يصعب الخلاص منه كلياً داخل أدوات القتل، حيث يعود لها بطريقة ما، وعي ما ترتكب في لحظة زوال سحر التغييب لتؤثر على المعادلة، ويعتمد أهل الفن في هذا على معرفتهم بطبيعة الإنسان المزدوجة  التي يتصارع داخلها الخير والشر، وعلى كمون أي صوت يَسمع، أي صورة يرى، أي فعل يقوم به، في داخله، إلى الدرجة التي لايمكن الخلاص فيها من تأثيرات ما يكمن ويتراكم في الداخل ليظهر بتفجرات نوعية حين بلوغ التراكمات حدّها القاهر للخروج.

****    ****    ****

في واقع الإنسان، قرب مدينة حمص، وفي معارك القصير، التي دخل فيها جنود حزب الله اللبناني لاحتلال قرى سورية، بعد قصف جوي عنيف من النظام وشبيحته، وبرّي براجمات صواريخ حزب الله، طال المدنيين والنساء والأطفال، وفي الاشتباكات العنيفة بين الجيش الحر الذي يقاوم دفاعاً عن أرضه، وغزاة حزب الله الذين يحاولون تدمير المقاومين، قال هادي العبدالله مراسل الهيئة العامة للثورة من الميدان في وصفه للاشتباكات أن جنود حزب الله يقاتلون بضراوة غير معهودة في جنود النظام والشبيحة، وهم على ما يبدو يقاتلون باعتقاد...

وسواء أدرك مراسل الثورة معنى ما تحدث به عن الشجاعة المعتقدية للخصم أو لم يدرك.. فإن الحديث يكشف ثلاثة أشكال لسلوك الجنود في المعركة: سلوك جنود النظام، وسلوك جنود حزب الله، وسلوك جنود الجيش الحرّ الذين تحدث المراسل الشهير من وسطهم بثقة وشفافية الاعتراف للخصم بالشجاعة.. ويقودنا الحديث عن المعتقد في الأشكال الثلاثة إلى الحديث عن ماهية المعتقد بدرجاته الظاهرة والأكثر عمقاً لكشف طبقاته داخل أنواع الجنود وعمق تأثيراته في سلوكهم، ومحاولة تكوين توقعات لمآلات هذا السلوك وفقاً لسير الأحداث...

حول معتقد جنود النظام الذين لاحظ الجميع جبنهم وانهزامهم في مواجهة الجيش الحر يتبدّى المعتقد وفقاً للطبيعة المختلطة لهؤلاء الجنود، معتقداً مهزوزاً ومتأرجحاً وفقاً لتنوعه من جنود ينتمون لطائفة الزعيم ومؤمنون بالدفاع عنه لكن بتأثير مهزوز يأتي من كونه امتداداً عاجزاً لفعالية تأثير أبيه، ومن الخوف الذي ولّده النظام فيهم على بقائهم الوجودي كطائفة، والخوف من العودة لتورطهم بجرائم لايمكن محوها. وجنوداً ينتمون لطوائف أخرى، ومجبرين على القتال بسبب الخوف والتورط في القتل مع التفكير بوسيلة للخلاص. وجنوداً بين هؤلاء وهؤلاء يعرفون أنهم يقصفون ويذبحون مدنيين ونساء وأطفال رغم قوة تغييب الدم والضلوع في القتل لعامل التفكير في مرتكبي القتل عادة خلال المعارك، ويضيف كون معظم هؤلاء الجنود لصوصاً متكسبين لا يقاتلون دفاعاً عن أرضهم وأطفالهم ونسائهم ولا من أجل فكرة سامية، إلى معتقد جنود النظام مزيداً من التأرجح والتبلبل يؤثر في المعنويات ويخلق جنوداً مترددين يمارسون القتل كوهم للخلاص من القتل، ويستسلمون أو ينشقون بمجرد إتاحة ثغرة في هذا الوهم.

حول معتقد جنود حزب الله، الذين أوصلت عوامل مركبة ومختلقة صيت شجاعتهم حدّ الأسطورة، وتداخل فيها دعمهم من دولة قوية مثل إيران، وغربلتهم بحذف كل من يعارض ولاية الفقيه، وتعظيم قدراتهم من قبل سادتهم، ومن العرب المهزومين الباحثين عن بارقة أمل بالقوة أمام إسرائيل حتى لو كانت اختلاقاً، ومن الإسرائيليين الذين يلجأون إلى تضخيم قوة الخصم لإيجاد مبرر لضرب قوته مهما كانت، ولهزّ ثقته المستقبلية بأي أمل في نفسه عند هزيمته.. يتبدى هذا المعتقد في المعركة للوهلة الأولى متماسكاً شجاعاً كما حدث في الهجوم الأول الذي أثار ردة فعل مقارنته المعاكسة لسلوك شركائه من جنود النظام، كما يتبدى متناغماً مع منطق زعيمه حسن نصر الله في ترويج الثقة بالنصر.. لكنه يهتز بعد أيام من اشتداد المعارك في مواجهة الجيش الحرّ المتماسك بمنطق دفاعه، ويهتز أكثر مع خسائره وزيادة قتلاه واضطرار زعيمه إلى الإفصاح عن تقية انصياعه التام لأمر الولي الفقيه، وفقاً لما أورد الباحث صبحي حديدي في مقاله: "نصر الله بين أسدين" حول هذه التقية في تصريحات سابقة لحسن نصر الله حول مشروع حزب الله بأنه: "مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني"، مع إضافة القلق في أصحاب هذا المعتقد من أسئلة مذيعي الأخبار حول معنى سلوك حزب الله في قصف أطفال شعب فتح له بيوته، وليس الخيام، عند محنته في الهجوم الإسرائيلي عليه في حرب تموز، ومعنى سلوك حزب بنى مقاومته على اعتقاد مواجهة إسرائيل وتحرير الأراضي اللبنانية والسورية والفلسطينية من احتلالها، في التنكيل باللاجئين السوريين، وتوجيه صواريخه ورشاشاته وسكاكينه إلى رقاب شعب طلب الحرية والكرامة وتحرير أرضه من إسرائيل ضد نظام استعبد هذا الشعب وأذلّه واتفق مع إسرائيل على معادلة بقائه بقمع كل من يقوم أو يطالب بتحرير هذه الأرض، مع الأسئلة العميقة حول تناقض هذا المعتقد بين ما يعلن وما يمارس، والقلق أيضاً من الردود التي  تتناول انصياع حزب الله إلى أمر الولي الفقيه الأجنبي الذي يفرض الانصياع دون سؤال عن ماهية مشروعه مهما كان متعارضاً مع المصلحة الوطنية.. ليظهر هذا المعتقد كما لو أن أحداً يخلع قناعاً في فيلم أو يقشر الوجه الإنساني عن وجه الوحش، أو يكشف سلوك التوحش الإجرامي غير المسيطر عليه في الجنود المبرمجين بأفلام الخيال العلمي/ معتَقداً مفصولاً عن جذوره الشيعية الإنسانية التي بنيت على نصرة المستضعفين، وظهرت قوية بحكمتها في حديث العديد من شيوخ الشيعة أمثال محمد الأمين، علي الأمين، وصبحي الطفيلي، الأمين العام السابق لحزب الله، والعديد من المثقفين والكتاب الشيعة المهمين، وليظهر مسخ هذا المعتقد مجسّداً بشوائب المذهبية الشيعية التي تراكمت بفعل طقوسيات الخرافة المليئة بروح الانتقام التعويضية المهزومة، والانصياع العبودي الأعمى للساحر/ صاحب الزمان، في الزعيم حسن نصر الله الذي ألقى خطاب المسوخ، كما في جنود حزب الله المقاتلين بعماء لكن بذعر من تسيّره الخرافة الخرقاء كآلة قتل لا تمتلك قوة وشجاعة إبداع المعركة...

وفي اضطراره للكشف عن وجهه تبدّى "مسخ المعتقد" أكثر تحرراً من قيد التقية الذي كان يدفع  زعيمه للكذب، ويجعل عرقه يضخ، وإصبعه يرتفع وصوته ينشرخ صراخاً وتهديداً  في خطاباته، وتبدّى المدافعون عنه في الإعلام أخف ذلاً أمام دهشة الصحفيين من شدة وقاحتهم في الكذب، لكنه في المقابل وقع بالانكشاف أمام تحليل الثقافة لمنطقه، وبالتآكل من فعل دق مسامير هذا التحليل المضافة إلى مسامير قتله للسوريين بنعشه.. ولم يكن سهلاً عليه في الحقيقة تلقّي مسامير الأسئلة على تجليات زعيمه من المثقفين اللبنانيين، ومن كتاب معروفين بتجذرهم في المقاومة الوطنية منذ ما قبل تشكيل حزب الله من أمثال الياس خوري في مقاله "مفارقات لبنانية في سورية"، واتهامه بقلب الحقائق واعوجاج المنطق و"كسر الباب تحت المظلة الإيرانية، وإيصال الخطاب الطائفي للنظام السوري الاستبدادي الى ذروته، وذهابه إلى القصير لتدميرها بصواريخ المقاومة، وتحطيمه آخر ما تبقى من قدسية الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، واستدراج لبنان الى الفتنة والحرب في دعوته اللبنانيين المعارضين لموقفه الى قتاله في سورية وليس في لبنان؟".. كما لم يكن سهلاً عليه اضطرار حزب الله الإفصاح بشكل سافر عن ممارسة إرهابه على طائفته، الحافلة بعلماء ومثقفين يدركون مدى ما تجرّهم إليه مغامرات حزب الله من مجازر، كما حدث من تنكيل بالروائي رامي علّيق، المنشق عنه، ولم يكن سهلاً عليه كذلك في مستوى نفسي أعمق اهتزاز منظومة برمجته للجنود كقتلة، بفعل تكشّف وعود الأب الذي أوهمتهم إيديولوجيا الفقيه بأنه ضالتهم،  بالنصر والنصر والنصر دون جدوى، إلى وجه الأب الذي حقدوا عليه لإهمالهم، مثلما لم يكن سهلاً عليه أبداً مواجهة شعب كامل وصلت بسالته إلى الأمثولة التاريخية في الإصرار على نيل الحرية والكرامة وتحرير الأرض من جميع قوى الاستبداد.. ويكمل كل هذا في اهتزاز "مسخ المعتقد"، وتصعيب مهمة آلته في القتل وتوقع مآله إلى الهزيمة مواجهته لمعتقد الجيش الحر الذي لا تشوبه شائبة في الدفاع عن أرضه وأطفاله ونسائه إضافة إلى إحساس الفخر في حمله لقضية سامية هي قضية الحرية والكرامة وإحساس الانتماء إلى جذور راسخة وإلى شعب تتداعى جميع مدنه وقراه للمؤازرة.

****    ****    ****

بالعودة إلى الفن والواقع يبدو أن مآل الأحداث في تفكك برمجة القتل لدى جنود حزب الله لن ينتظر موت زعيمه الساحر الذي رفعه الترويج الإعلامي إلى مرتبة سيد المقاومة في المعركة، فالسيّد الساحر الذي يمنعه تضخم الأنا فيه عن إدراك أنه في زمن الصورة والإعلام الذي لا يمكن الاستمرار في خداعه، يموت بحبل الكذب القصير العالق برقبته مما صنعت يداه بأطفال القصير، وفي حصاده لما زرعت يداه من نصرة للاستبداد والظلم والجريمة في المدن السورية، وفي تفجّر سنابل المظاهرات والاحتجاجات على جرائم غزوه للسوريين في دول العالم، وفي معاناة جنوده من مسامير النبذ والتعليق على قوائم الإرهاب كقتلة مبرمَجين، وفي مآل الأحداث التي تسير بسرعة في اتجاه توجيه الاتهام إلى القتلة المبرمِجين، حيث يزيد تدحرج كرة النار التي أضرمتها حماقته، من ضغط استياء اللبنانيين من وقوفهم متفرجين على مسرحية توجيه تهم الجرائم إلى المبرمَجين الصغار في قتل سمير قصير، جورج حاوي، رفيق الحريري، جبران تويني، وسام الحسن، وقائمة شهدائهم الطويلة.. وربما أغلقت شجاعة اللبنانيين في مواجهة جحيم صندوق باندورا الذي فتحته أصابع السيد الساحر، متلازمة في مسارات التحول الديمقراطي كما رأى سمير قصير ودفع حياته ثمناً لذلك، مع شجاعة السوريين في تحرير أرضهم من غزاة "مسخ المعتقد"، نوافذ الحماقات الطائفية في برمجة القتلة، وفتحت أبواب الدولة المدنية التي تحرر الإنسان من قيد دويلات الطوائف، وتزوده بمصل المناعة الذي ينهي برمجته كقاتل خائف منفوخ بأوهام الشجاعة.