تجرُّد أم تمرُّد أم تمرُّس ؟!

( تجرُّد أم تمرُّد أم تمرُّس ؟!!!)

قل اللهُ ، ثم ذَرْهُم !

د. موسى علي موسى

لعل هذا الكلام الذي أسوقه لأبناء وطني لا يروق لبعضهم ، وخاصة في ظل الصراع الدائر، واللغط الكثير ، وما يسيطر على المشهد السياسي ؛ من دعوات للتمرد تارة ، وللتجرد أخرى ، وأضيف إن كان لي أن أضيف دعوة ثالثة باسم " تمرُّس " وقبل أن يفهم أحد منها معنى لا أقصده ، وإن كنت لا أستبعده ، وهو أنه يعني الدعوة إلى تأييد الرئيس د مرسى ، وإعطائه فرصته  ،كما نص علي ذلك الدستور ، وكما اختاره الناس منذ البداية لفترة كاملة ، ولكنى ومع هذا المعنى أعني بـ " تمرُّس " : أن يتمرَّس أهل البلد الواحد والهم الواحد والهدف الواحد على الحوار والتواصل والاحترام المتبادل ، والتعايش والود والتراحم ، والعمل المشترك ، والتعاون على البر والتقوى ، والتناصح والتنافس الشريف ، وشرف الخصومة والاختلاف ، وتلك المعاني التي يحتاج إليها الجميع ، ولا سيما ونحن نبني جميعا وطنا يسع الجميع ، ولا يُقصي أحدا من أبنائه ، فأولى لنا وأولى بنا أن نتمرَّس جميعا على هذه القيم والمعاني ، لنبني جميعا هذا الوطن المنشود .

ومع حرصي على أن يكون كلامي مرضيا لأكثر من يقرؤه أو يسمعه ، لكن قول الحق لابد منه على أية حال ، والتذكير به واجب على من يعلمه ، وحق لمن يتوجه إليه من القراء المحترمين ، لا سيما إذا حضر وقته ، واستدعت الحالة والظروف إيراده ليسهم كل مخلص وصادق ومحب لبلده ولأهلها – جعلنا الله منهم – في التواصي بالحق والتواصي بالصبر .

لابد كذلك أن أؤكد على أمر أراه من الثوابت في فهم المسلم ورؤيته لأمور الحياة وأحوال الناس من حوله ، وهو : " أن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر ، والهدى والضلال ؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان والباطل مسلح ويبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له فكان لابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة.

وهناك أمر آخر مهم وهو : أن الله تعالى أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم فلم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيؤون للدفاع ، وقد آذنهم أنه سبحانه سيتولى الدفاع عنهم ، فهم في حمايته : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) [ سورة الحج : 38] فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه ، ظاهر حتما على عدوه . لكن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من « التنابلة » الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!

نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ، ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله. لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ـ فالأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .

والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .كما أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولا : لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانيا : لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه " . كما أشار لذلك صاحب الظلال رحمه الله .

ولستُ بحاجة إلى أن أذكر العديد من الحقائق التاريخية الثابتة ، والوقائع التي حدثت قديما وحديثا، والتي تتجلى فيها هذه الحقيقة السالفة  الذكر .

ومع ذلك فلا بأس أن أذكر القراء المحترمين بما كان عليه حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في بداية الدعوة ، وفي بداية بناء الدولة الإسلامية في المدينة ، وبكم التحديات والمعوقات التي واجهتهم والتي زادت عندما شرع صلى الله عليه وسلم في بناء وتأسيس الدولة الإسلامية القوية التي تقوم بمهامها ومسؤولياها في قيادة الأمم وريادتها وإنقاذها من الكفر والظلم والجهل والفساد إلى الإيمان والعدل والعلم والإصلاح . والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كلهم أمل وثقة في نصر الله تعالى لهم ، وهم مستمسكون عاملون صابرون صادقون . ابتداء مما كان منهم في أول الدعوة وما لاقوه في مكة من أذى وحصار وظلم واضطهاد وإخراج من بيوتهم وأهلهم ووطنهم ، مرورا بما واجههم في المدينة وتطور للمواجهة في بدر وأحد والأحزاب التي وصل الحال فيها ببعض الصحابة أن يصف الله حالهم فيقول : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) [سورة الأحزاب : 10 - 11]

لكن هؤلاء هم ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [ سورة آل عمران : 173 ، 174] والأمثلة التي تجمع بين الشدة والأمل والثقة بنصر الله كثيرة ، تدعوني أن أقول ناصحا لكل المخلصين ولكل العاملين بصدق ، ولكل من يقوم على ثغر ولو كان صغيرا لكنه يسهم في بناء الأمة ونهضتها وعودتها العودة الراشدة التي طالما حلمنا بها ورجوناها كثيرا وطويلا ، وبذل من أجل تحقيقها والوصول إليها رجال مخلصون نفوسا طاهرة ، وأوقاتا طويلة ، وجهودا مضنية ، وأموالا طائلة . وعلى رأس أولئك العاملين رئيسنا المنتخب حفظه الله ، ورعاه وأيده بالحق وأيد الحق به وهيأ له من الأسباب ومن الرجال المخلصين الناصحين من يعينه على مهمته الصعبة في اللحظات الصعبة أمام التحديات الصعبة ، ومن ورائه من أيده وما يزال يؤيده ، ومن أعانه ولو بشطر كلمة ، أقول للجميع ما وجه الله تعالى إليه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: ( قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) [ سورة الأنعام : 91]

 أي : لا تهتم ولا تحفل من جدالهم ولجاجهم ومرائهم ، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد ، قدر ما فيه من الاستهانة ، قدر ما فيه من الحق والجد ؛ فحين يبلغ العبث أن يقول الناس أي كلام صوابا كان ما يقولون أم خطأ ؟ صدقا كان ما يتكلمون وما يسمعون أم كذبا وافتراءً ؟عندئذ يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام!

ولسوف تأتي اللحظة التي يتبين فيها من صدقوا ومن كذبوا ، ومن خدعوا ومن مكروا ، وحينئذ يسعد العاملون وينفع الصادقين صدقهم ، ولئن سأل سائل : متى هو  نقول كما قال الله تعالى : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ) [ سورة الإسراء : 51]

وأخيرا وصية الله الخالدة ، والدواء الشافي لكثير إن لم يكن لكل الأدواء والمشكلات : ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ) [ سورة الروم : 60]

إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية، والثقة بوعد الله الحق والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك ، الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ومن تكذيبهم للحق ، وشكهم في وعد الله؛ ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين مهما يطل هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم.