عن الفاتيكان وموقف مسيحيي الشرق من ثورة سوريا

عن الفاتيكان

وموقف مسيحيي الشرق من ثورة سوريا

ياسر الزعاترة

في كل مرة خرج بابا الفاتيكان (السابق والحالي) متحدثا أو مشيراً للشأن السوري، فإن أحدا لم يتبين من هو الظالم والمظلوم بحسب تصنيفه؛ إذ تحدث كما لو أن عشيرتين قد اقتتلتا، ولا بد من وقف سفك الدماء فيما بينهما، عبر تسوية لا بد لها من تنازلات ضرورية يقدمها كل طرف.

والحال أن موقف الفاتيكان يبدو جيدا إذا ما جرت مقارنته بموقف غالبية مسيحيي الشرق مما يجري، وهو موقف يكاد يتجاوز سوريا إلى معظم تجليات الربيع العربي.

ففي مصر وقف الأقباط حتى اللحظات الأخيرة (الاستثناء محدود)، موقفا سلبيا من الثورة وظلوا منحازين إلى نظام مبارك، وحين جاء التغيير وقفوا إلى جانب أحمد شفيق الذي كان جزءا من نظام يتهمونه بالتمييز ضدهم، وحين اشتبك الرئيس مرسي مع معارضيه كان موقفهم أقرب بوضوح إلى الطرف الأخير.

ما يعنينا هنا على وجه التحديد هو المسألة السورية، فهنا يعلم القاصي والداني أن نظام بشار هو نظام دكتاتوري فاسد، ومن حق الشعب تبعا لذلك أن يهتبل فرصة الربيع العربي ويثور عليه أسوة بالآخرين، ولا قيمة هنا لسياسته الخارجية بصرف النظر عن تقييمها، لأن الربيع العربي كان يعبر عن ثورات داخلية، وإن حضر البعد الخارجي بهذا القدر أو ذاك.

منذ الأشهر الأولى للثورة، وربما قبل أن تحمل السلاح كان موقف أغلب مسيحيي الشرق سلبيا منها (لا نعمم دون شك)، ولا قيمة للقول: إن هناك أطرافا يسارية وقومية (مسلمة) قد وقفت ذات الموقف لأن التبرير هنا مختلف بعض الشيء، وإن استخدم من الطرف الأول أحيانا دون قناعة حقيقية. كما أنه لا قيمة للقول: إن مسلمين سنّة يقفون مع النظام (دعك من غالبية الشيعة)، لأن ذلك يحدث في كل الثورات التي تواجه أنظمة ربطت كثيرين بشبكة مصالحها.

وإذا قيل: إن الموقف قد تطور إلى حمل السلاح وتدمير البلد، فإن ذلك لم يحدث بسبب رغبة السوريين في الموت برصاص النظام، بل إلى اضطرارهم إلى ذلك للرد على موتهم في الشوارع وهم يهتفون «سلمية، سلمية»، «واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد».

إن القضية هنا إنسانية وأخلاقية في آن، ولا قيمة لأي بعد آخر، ولا يمكن لأي تبرير أن يكون مقبولا إذا ما كان الموقف منحازا إلى نظام مجرم، وحتى لو قيل: إن أقليات أخرى قد فعلت ذات الشيء، فإن ذلك لا يمنح التبرير مزيدا من القيمة، لأن الأخلاق لا تتجزأ، ولأن ارتكاب أكثر من فريق لخطيئة ما لا يجعلها صحيحة وصائبة.

المصيبة أن بعض المسيحيين قد تجاوزوا الوقوف إلى جانب النظام، إلى التنظير للموقف، أحيانا بطريقة موغلة في الاستفزاز للمسلمين، كما فعل الجنرال ميشال عون مرارا وتكرارا، وكما فعل البطريرك بشارة الراعي في لبنان. ويحدث ذلك رغم أن الجميع يعرف مثلا أن هناك طرفا مهما في لبنان يقف بغالبيته الساحقة إلى جانب الشعب السوري، ألا وهو الطرف السني، بينما لا يبدو موقف الطرف الشيعي مبررا بغير البعد المذهبي تبعا لموقف إيران. ولن يصدق عاقل أن ميشال عون يريد الإبقاء على سلاح حزب الله من أجل مقاومة إسرائيل، وليس ضمن صفقة سياسية، أو صدقنا أنه يريد فعلا تحرير فلسطين ويحرص على المقاومة. وإذا قيل: إن تيار جعجع يمثل طرفا آخر، فإن ذلك لا يلغي الغالبية الشعبية لصالح موقف عون، والأهم الغالبية بين مسيحيي الشرق عموما.

ما لا ينبغي تجاهله بحال هو أن لدى الأقليات المسيحية في الشرق مخاوفها من صعود الإسلاميين في سياق الثورات، وهذا أمر يستحق الكثير من الحوارات، رغم الشك في أن أية تطمينات يقدمها الطرف الإسلامي قد لا تغير الموقف؛ إذ سيقال دائما إن الجهاديين سيفعلون ويفعلون، مع العلم أن الموقف كان هو ذاته قبل أن يكون هناك جهاديون في سوريا.

ما من شك أن خطاب بعض المجموعات الإسلامية يبدو مخيفا بعض الشيء، الأمر الذي يغطي في كثير من الأحيان على خطاب آخرين يعلنون طروحات أخرى ترفض التعاطي مع الناس بحسب انتماءاتهم العرقية أو المذهبية أو الدينية.

لقد عاش المسيحيون في هذه المنطقة أغلب الوقت، وما زالوا في وضع جيد، أما الهجرة التي يتحدث عنها البعض، فتعود إلى جاذبية الغرب الذي استقطب خيرة شباب المسلمين وكفاءاتهم، وليس المسيحيين فقط، ولو وجد الشباب المسلمون فرصة للهجرة للغرب لتدفقوا على أبواب السفارات أكثر من المسيحيين، حتى لو أخذنا النسب بعين الاعتبار.

خلاصة القول هي أن موقف القطاع الأكبر من المسيحيين من ثورة سوريا، وربما من ربيع العرب، لا يبدو مقبولا (لا بد أن يخضع لإعادة تقييم)، لا من الناحية الدينية (هل يرضى الله وأنبياؤه بالظلم؟!)، ولا من الناحية الأخلاقية، ولا الإنسانية، وأي تبرير يُطرح لن يكون مقنعا، ولعل أسوأ ما في الأمر هو أنه سيترك تأثيرا سلبيا على العلاقة بين الأغلبية والأقلية أو الأقليات، وإن كنا لا نتوقع أن ذلك سيؤثر على حقوقهم في دولة المواطنة التي يبشر بها الربيع العربي الذي كان ثورة من أجل أن يكون البشر متساوين حقا، وليسوا مصنفين بحسب انتماءاتهم، ولا بين سادة يملكون السلطة والثروة، وبين عبيد ليس لهم غير البؤس والخنوع.