القضية الفلسطينية.. تاريخ وذاكرة

القضية الفلسطينية.. تاريخ وذاكرة

د. لطفي زغلول /نابلس

[email protected]

 المسافة الزمنية منذ أيار/مايو العام 1948– وهو عام الصفحة الاولى على أجندة النكبة الفلسطينية– حتى أيار/مايو من العام 2013 هي خمسة وستون عاما من عمر منظومة التيه والشتات والمأساة التي ما زالت تفرزها هذه النكبة. برغم هذا الزمن الطويل جدا، إلا أن تاريخها ما زال يضيء ذاكرة الشعب الفلسطيني، وأن الذين راهنوا على انطفاء جذوتها لا شك أنهم قد خسروا الرهان.

القضية الفلسطينية "وكان من المفترض أن لا يكون لها أي مسمى آخر"، كان هو العنوان الرئيس الذي حمل في سطوره قضية شعب معذب، صودرت أرضه وطرد منها قسرا وإكراها وإجبارا. إنها والحال هذه قضية لها بعدها الإنساني، إلى جانب بعديها التاريخي والجغرافي، كون هذه الأرض وطنا تاريخيا للشعب الفلسطيني، أقام عليها منذ عشرات القرون.

إضافة إلى هذا البعد الإنساني، كما أسلفنا فإن لها بعدين آخرين، جغرافيا يتقاطع مع بعد آخر هو البعد التاريخي، كون القضية تنصب على هذه الأرض السليبة المسماة فلسطين والتي نزلت عليها النكبة بتغيير مسماها وكل ما يمت إلى تاريخها وجغرافيتها بصلة، كما أن هذه النكبة حلت بشعبها وذلك عن طريق طرده منها إلى منافي التيه التي زج إلى جحيمها الشعب الفلسطيني وما زال يتردى في مهاويها حتى هذه الأيام، وإلى زمن لا يعلم مداه إلا الله.

وعلى ما يبدو فإن مسمى"القضية الفلسطينية" لم يرق للجهات التي خططت لزج شعبها في أخدود جحيم النكبة، فقزمتها لتصبح "قضية اللاجئين الذين هاجروا" من ديارهم بما يحمله الفعل هاجر من طواعية وعدم إكراه. والمقصود أنهم تركوا ديارهم وأراضيهم من تلقاء أنفسهم، في محاولة لطمس معالم الجريمة التي اقترفت بحقهم، والتعتيم على عناصرها الرئيسة، والمقصود هنا القسر والإكراه والإجبار.

إلا أن أمرا خطيرا آخر طرأ على مسمى القضية الفلسطينية، إذ أصبحت تحمل عنوانا اخترع لها يتمثل" بالصراع العربي الإسرائيلي"والذي لا يمكن تفسيره إلا أنه صراع إقليمي يخص دولا عربية، فقدت أراضيها في العام 1967 ليس أكثر، وأن هذا الصراع يمكن أن ينتهي بانتهاء المسبب. وقد استثني منه مفهوم اغتصاب الأرض، وما أعقبه من احتلال لبقية الوطن.

لكن الأخطر من ذلك أن القضية الفلسطينية، أصبحت تحت تحمل عنوان"أزمة الشرق الأوسط"، وهو المسمى الذي قصد به واضعوه أن هناك أزمة علاقات دبلوماسية ما بين دول الشرق الأوسط وإسرائيل التي أصبحت "حقيقة لا ريب فيها". والأغرب من ذلك أن الأنظمة السياسية العربية، وكذلك وسائل إعلامها تردد هذا المصطلح الذي لا يمت إلى القضية الفلسطينية بصلة. لقد كان الهدف تشتيت عناصر القضية الأساسية وتمييع العنصر الفلسطيني إلى درجة إذابته وفقدانه مشروعيته والإلتفاف على حقه التاريخي في الأرض والوطن.

لقد ردد الإسرائيليون مقولة من نسج أفكارهم، مفادها أن الأجيال الفلسطينية التي عاصرت النكبة، سوف تموت مع الأيام، وأن الأجيال اللاحقة سوف تنسى الأرض والجغرافيا والتاريخ والتراث، في غمرة انشغالها في واقعها الجديد.

إنها مقولة نسجها خيالهم الذي لا يريد أن يعترف بالجريمة التي اقترفت بحق الفلسطينيين، وأن هذه الجريمة لا يمكن أن تنسى، وأن الشعب الفلسطيني ما زال يعيش إفرازاتها وتداعياتها الكارثية، وأنه يتذكر كل يوم من أيامها، وكل قرية وبلدة من قراه وبلداته التي دمرت، وأقيمت عليها مستوطنة أيا كان شكلها ومسماها.

في هذا السياق فإن الشعب الفلسطيني لا يمكن له أن ينسى الدور التآمري الذي لعبته السياسة البريطانية التي منحت من لا يستحق وعدا، هو وعد بلفور في العام 1917. هكذا فإن النكبة الفلسطينية ابتدأت بالفعل يوم أصدرت بريطانيا هذا الوعد في العام 1917، وما تبعه من سياسات مارستها على مدى ثلاثين عاما من انتدابها لفلسطين، عملت خلالها على إضعاف الفلسطينيين وقهرهم من خلال منظومة قوانين تعسفية فرضتها عليهم، في حين أنها بسطت يد العون للطرف الإسرائيلي الآخر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

واستمرارا وفي العام 1967 حينما احتلت القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية فيما كان يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة، كانت تسمية فلسطين أو النسبة إليها تزعج السياسة الإسرائيلية وتتنافى مع أسسها. فهي في العام 1948 أطلقت على الفلسطينيين الذين لم يتم تهجيرهم من بلادهم تسمية"عرب أرض إسرائيل" أو العرب الإسرائيليين.

لقد تفننت السياسة الYسرائيلية في إطلاق تسميات على سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فالضفة الفلسطينية أصبحت"يهودا والسامرة" وسكانها إما "سكان المناطق المدارة، أو السكان المحليون، أو عرب المناطق المدارة.  وفي كل التسميات هذه نفي للتسمية الأصلية للأرض الفلسطينية وللشعب الفلسطيني. إن مصطلح  سكان أو مقيمين له دلالته في السياسة الإسرائيلية التي لم تكن تعتبر الفلسطينيين مواطنين لهم حق في وطن، وإنما هم مقيمون أشبه ما يكونون بالمستأجرين ليس إلا.

لقد ظلت إسرائيل وبتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية، وتخاذل في المواقف العربية التي تنازلت أنظمتها عن الثوابت الخاصة بالقضية متمسكة بثوابتها التي تعتبر الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر هي أرض إسرائيل الكبرى التي ترفض حق قيام دولة أخرى للفلسطينيين عليها.

إن إسرائيل تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية بغية تهويدها، تصادر ما تشاء منها، تهجر سكانها الشرعيين، تفجر منازلهم، تجرف أشجارهم، تبني مئات المستوطنات، وعشرات الآلاف من الوحدات السكنية، والطرق الإلتفافية، تغتصب المياه الفلسطينية، والهواء الفلسطيني، وكل المقدرات الفلسطينية الأخرى، وتقيم هذا الجدار اللعين، وتهدد أقصاهم بالتدمير، وتنتهك مقدساتهمدون حسيب أو رقيب.

كل هذا يتم تحت ظلال اتفاقيات أوسلو التي ما كانت إلا مرحلة"تهدئة" في التشدد الإسرائيلي لمآرب اتضحت معالمها لاحقا، تجسدت في المماطلات والتفسيرات الأحادية الجانب والإلغاءات والتبريرات الواهية في افتراس الأرض الفلسطينية ما عليها، وما فوقها، وما تحتها.

تكريسا لاحتلال فلسطين من النهر إلى البحر، تفنن مخططو السياسة الإسرائيلية في خلق"ملهيات" للشعب الفلسطيني، وهروبا من استحقاقات أية عملية سلمية حقيقية، تعيد حقوق الفلسطينيين إلى نصابها، تارة يعزفون على أوتار ما يسمونه الوطن البديل، وتارة  الدولة المؤقتة، وثالثة المفاوضات غير المباشرة، ورابعة، وخامسة.. وهكذا فإن جعبتهم لا تخلو من هذه الترهات التي يرفضها الشعب الفلسطيني.

وكرد على مبادرة السلام العربية، اجتاحت إسرائيل في العام 2002 بآلتها العسكرية اتفاقيات أوسلو الهزيلة والتي لم تشكل أصلا الحد الأدنى للطموحات الفلسطينية، ودمرت على أرض الواقع كل ما ترتب عليها من حقوق للشعب الفلسطيني، لتؤكد المرة تلو الأخرى أنها ترفض أن يكون هناك قضية وحق سيادي للفلسطينيين.

وها هي إسرائيل تسرح وتمرح في سياستها هذه، فالمباركة الأميركية لها زاد وزنها واتسعت مساحتها في أعقاب أحداث الحادي عشر من إيلول/سبتمبر 2001. وكانت الهدية الكبرى من أميركا لها اعتبار مجمل نضالات الفلسطينيين إرهابا. وثمة هدية أخرى لها جاءتها من العالم العربي الذي أنهى علاقته فيما يخص القضية بانسحابه التدريجي من ساحتها، والتطبيع مع الكيان الصهيوني.

 في ظل هذا التآكل والإضمحلال في مقومات القضية وكل عناصر صمودها وثباتها، وهذا المنخفض القومي العميق الذي أثر عليها مصحوبا بتخلي"الأشقاء العرب"، وسقوط بغداد، سقطت أهم الأوراق وربما آخرها التي كانت في أيدي العرب. فليس هناك جبهات، وليس هناك مقاطعة ولا لاءات، وليس هناك"وطن عربي"، وإنما أنظمة سياسية متفككة متباعدة ضعيفة ترتجف خوفا وخشية من غضبة أميركية تنزل عليها.

برغم هذا كله، وبرغم ما عانته القضية الفلسطينية من تآمر عليها في المسمى والمضمون، تظل الذاكرة الفلسطينية أقوى من كل ما لحق بها من صدأ وتآكل على مذابح التآمر العالمي والصهيوني والعربي. إنها تاريخ، والتاريخ لا ينسى، يظل يضيء هذه الذاكرة، وتظل الذاكرة مضيئة وضاءة به.

إن الذين راهنوا على نسيان القضية، قد باءوا بالفشل. صحيح أن الأجيال الفلسطينية الأولى التي شهدت مأساة الشعب الفلسطيني، قد طوى الموت معظمها، إلا أن الأجيال اللاحقة لم تزل وفية لها، لم تنسها، لم تخنها، لم تتخل عنها، لم ولن ترضى بديلا عن ثوابتها أيا كانت.  

تحت ظلال هذه الظروف، يقف الفلسطينيون وحدهم في الميدان ليخوضوا مع إسرائيل لعبة المماطلة والتسويف والمفاوضات العبثية. إن إسرائيل لا تؤمن بالمفاوضات الجدية، وهي في الحقيقة لا تؤمن بالسلام العادل الذي يفترض أن ينهي احتلالها، ولا تؤمن لحل الدولتين لتقوم على أنقاض هذا الإحتلال الدولة الفلسطينية العتيدة كاملة السيادة والحقوق، وفي مقدمتها حق العودة، تكون عاصمتها القدس.