بين جاسم ومنبج كما بين الباب والموصل

د. محمد أحمد الزعبي

بين جاسم ومنبج

كما بين الباب والموصل

خواطر تراثية 

د. محمد أحمد الزعبي

لا يدخل عنوان هذه المقالة في باب الألغاز، ولكنه يتعلق من جهة بشاعرين عربيين  كانا متعاصرين أولهما هو أبو تمام الذي ولد في قرية جاسم بحوران( 803م ) وتوفي ودفن في الموصل في العراق  (845 م ) ، والثاني هو البحتري ،الذي ولد في منبج التابعة لحلب سنة  ( 205هـ)  ، ودفن بعد وفاته في مدينة الباب التابعة بدورها لحلب  ( 897م ). 

إن ما يرغب الكاتب قوله ، فيما يتعلق بهذا العنوان ، بل بهذا الموضوع فهو مايلي : 

1. يرتبط اسم أبي تمام  ( حبيب بن أوس  بن الحارث الطائي ) في ذهن الكاتب ( وربما في أذهان الكثيرين غيره) بقصيدته التي مطلعها : 

السيف أصدق إنباء من الكتب   في حدّه الحد بين الجد واللعب 

من حيث أن مقولة أبي تمام ، إنما تشير بصورة لالبس فيها ولا غموض إلى الفارق النوعي بين استجابة الخليفة  المعتصم الفورية عندما أبلغه أحدهم أنه شاهد بأم عينه عسكر الروم في عمورية وهم يجرون امرأة مسلمة (تبين لاحقاً أن اسمها شراة  العلوية)، وهي تصيح " وامعتصماه وامعتصماه " ، حيث كتب الخليفة المعتصم إلى حاكم عمورية الرومي قائلا : (أخرج  المرأة من السجن ، وإلّا أتيتك بجيش بدايته عندك ، ونهايته عندي ) ، وهو ما فعله عندما لم يستجب حاكم عمورية لطلبه ، وفتح عمورية المحصنة وحرر المرأة التي استغاثت به ، وبين الاستجابة المخزية والمخجلة للحكام العرب الحاليين  ، بل وللمجتمع الدولي كله ، لنداءات واستغاثات النساء والشيوخ والأطفال في كل من فلسطين والعراق وسورية ومصر وليبيا واليمن ، الذين تجهز عليهم الأنظمة الديكتاتورية العميلة و بلاطجتها وشبيحتها والميليشيات التابعة لها  بمختلف أشكالها ومسمياتها ، ذبحا وسلخاً واغتصاباً وتعذيباً وتجويعاً واعتقالاً ، دون وازع من ضمير آو شرف او كرامة أو خلق أو مخافة من  أي عقاب  دنيوي أو أخروي ، بل ودون مبرر حقيقي ،  اللهم إلاّ من أكذوبة مكافحة الإرهاب ( الإسلامي ) التي اخترعوها  بأنفسهم وعممتها وسائل إعلامهم وأجهزة مخابراتهم ، كواحدة من وسائلهم المتعددة للقضاء على انتفاضات الربيع العربي الشعبية والديموقراطية ، التي قضّت مضاجعهم ، وهزت الكراسي من تحت إلياتهم .ولقد حق فيهم قول عمر ابوريشة ( المنبجي أيضاً ) :

رب وامعتصماه انطلقت       ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها         لم تلامس نخوة المعتصم

لايلام الذئب في عدوانه       إن يك الراعي عدو الغنم

2. أما اسم البحتري ( الوليد بن عبيد التنوخي الطائي ) ، فهو يرتبط في ذهن الكاتب ( وربما في أذهان الكثيرين غيره أيضاً )  بتوصيفه الرائع لفصل الربيع : 

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا     من الحسن حتى كاد أن يتكلما 

والذي ذكرني ( عن طريق التداعي بالاقتران اللفظي ) بربيعي دمشق السياسيين :

أما الربيع الأول ، فهو الربيع الذي ارتبط بتصديق البعض  ( كل لسببه الخاص )  بأكذوبة الرئيس الوريث بشار في خطاب القسم أمام مايسمى مجلس الشعب في 17 تموز 2000 ، والتي جاء فيها : " ... فلا تتكلوا على الدولة ، ولا تدعوا الدولة تتكل عليكم ، بل دعونا نعمل سوية كفريق واحد ... ولذلك أجد من الضروري جداً أن أدعو كل مواطن لكي يشارك في مسيرة التطوير والتحديث إذا كنّا فعلاً صادقين وجادين في الوصول إلى النتائج المرجوة " .

انتشرت إثر هذه الدعوة التي اثبتت الممارسة اللاحقة  لنظام عائلة الأسد كذبها ،المنتديات الفكرية والسياسية في العديد من أحياء العاصمة دمشق ، وبدأت تناقش بعض الأمور السياسية ومن بينها ـ بطبيعة الحال ـ   بعض المحرمات التي طبعت بميسمها نظام الأب بعد 1970 ، مثل تغييب الديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان ، الأمر الذي أدى إلى انكشاف المستور، وبالتالي انقلاب بشار على نفسه ، وإغلاق هذه المنتديات وتحريمها ، وزجّ عدد من ناشطيها في غياهب السجون ، وتحويلهم إلى قضائه العادل (!!) ( تماماً مثل زميله القضاء المصري الحالي الذي وصفه الجنرال السيسي يوم أمس بالقضاء الشامخ !! )  الذي حكمت عدالته عليهم  مددا مختلفة  كان من يحدد طولها وعرضها وعمقها  جناب الرئيس الوريث  نفسه ، وليس  جناب السيد القاضي ( وهو أمر يعرفه الكاتب ولا يخمّنه ) ، وحق على جلالته القول ( اسمع كلامك يعجبني أشوف فعالك أستعجب ) .

أما الربيع الثاني ، فهو ربيع ثورة 18 آذار 2011 السورية العظيمة ، التي عجز العالم شرقه وغربه ، عربه وعجمه ،  عن إطفاء جذوتها ، وإخماد لهيبها ، وذلك  لأن " نخوة المعتصم " قد لامست عقول وقلوب أبطال وشباب هذه الثورة من الرجال والنساء ، من الصغار والكبار ، حيث تعاقد وتعاهد الجميع على موقف موحّد هو : ( ثورة حتى النصر / الموت ولا المذلّة  ) ، ولابد من الديموقراطية والتعددية والعدالة والمساواة ، وإن طال السفر ، وإن النصر " صبر ساعة " .

3. وفي إطار ذات الموضوع لابد من التوقف أيضاً ، عند مسألة الانتماء الوطني والقومي لكلا الشاعرين ، ذلك أن شاعر جنوب سورية ( أبو تمام )، وشاعر شمال سوريا ( البحتري ) ، ينتميان إلى نفس القبيلة ( طيء ) ، الأمر الذي يشير إلى وحدة كل من التاريخ والجغرافيا بين جنوب وشمال سورية ، ماضياً وحاضراً . أما  كون مدينةالباب التي احتضنت رفاة البحتري ، هي اليوم سياسياً مدينة سورية ، ومدينة الموصل التي احتضنت رفاة  إبي تمام  هي اليوم ـ أيضاً سياسياً ـ مدينة عراقية ، فإن هذا لايغير من الحقيقة شيئاً ، في أن عوامل التاريخ والجغرافيا ، ومعهما وقبلهما ، اللغة العربية التي نقرأ بها اليوم شعر كل من أبي تمام والبحتري ، والتي ( العوامل التاريخية والجغرافية واللغة ) ربطت بين الشاعرين العربيين بالأمس ( القرن التاسع الميلادي )، ستظل تربط بين أحفاهما اليوم وغداً ( القرن الواحد والعشرين ) ، بعيداً عن أفكار وممارسات كل من حالش وداعش ومعهم كل اللطّامين  ، التي لاتمت لاإلى أفكار الأجداد ولا إلى أفكارالأحفاد ، لاإلى التراث ولا إلى المعاصرة بصلة ، والتي تدخل في إطار التفتيت والتشتيت وليس في إطار التجميع والتوحيد.