الحقُّ أقدسُ مِن زلاّتِ الرجال!

الحقُّ أقدسُ مِن زلاّتِ الرجال!

كلمات من حكمة السلف : قال فاروق الأمة عمر رضي الله عنه : ( من أظهر لنا خيراً أمّناه وقرّبناه وليس إلينا من سريرته شيء , الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه ، وإن قال: إن سريرته حسنةٌ ) 

وروى أبو نعيم في (الحلية) (2/177) عن عروة بن الزبير قال : ( إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أنّ لها عنده أخوات ، فإذا رأيته يعمل السيّئة فاعلم أنّ لها عنده أخوات ؛ فإنّ الحسنة تدلّ على أخواتها ، وإن السيّئة تدلّ على أخواتها ) .

وأخرج في رواية أخرى لهذا الأثر عن عروة أنّه كان يقول : ( إذا رأيتم خلّة شرّ رائعة من رجُل فاحذروه ، وإن كان عند الناس رجل صدق ، فإنّ لها عنده أخوات ؛ وإذا رأيتم خلّة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عنه إياسكم ، وإن كان عند الناس رجل سوء ، فإنّ لها عنده أخوات ) .

بعدما كتبت بعض الكلمات .. أمسكت قلمي عن الكتابة ، وقلت : إنّ هذا الحدث قد مضى زمنه ، فاشتغل بما هو حاضر .. ولكنّني أفاجأ يوماً بعد يوم بمن يلعب بعواطف الناس ، وينثر ألواناً من الضباب ،التي تلبّس الحقّ بالباطل ، فكان لا بدّ من هذه الكلمات ، بياناً لما أعتقد أنّه الحقّ ، ونصحاً لدين الله ، وللعامّةوالخاصّة ..

إنّ من شرّ الطغاة القتلة ، الذين ابتليت بهم أمّة الإسلام في صدر تاريخها الحجّاج بن يوسف الثقفيّ .. ولم أقرأ ، ولم أسمع أنّ عالماً واحداً في عصره أو بعد عصره برّر له ما فعل ، أو التمس له عذراً بما قتل ، ولم يُجز أحد من العلماء فيما أعلم أن يدعى له بالرحمة بعد موته ، وإنّما كانوا يقولون : لقد أفضى إلى ما قدّم ..!أمره إلى الله ..

وما فعل الحجّاج من جرائم لا يعدل عشر معشار ما فعله بأهل سورية طاغية العصر ، ومن قبله المجرم أبوه .. فكيف يبرّر بعض الناس لمن وقف مع هؤلاء الطغاة ، وساندهم ، وقدّم لهم الفتاوى التي لا يحلمون بمثلها .؟! وكيف يعدّونه مجتهداً معذوراً فيما وقف من مواقف ، فإن أخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران .؟! وهل بهذه البساطة المفرطة ، والسذاجة العجيبة تستباح دماء الناس في دين الله تعالى بفتوى فرد ، لا عصمة له أن تتلاعب به الأهواء ، وتعصف به رياح الشهوات .؟!

منذ أكثر من ثلاثين عاماً وعالم السوء يقدّم للطاغية المجرم ، وبكلّ جراءة وإصرار سنداً شرعيّاً ، وتبريراً دينيّاً للقتل بلا قيود ولا حدود لخيرة رجال سوريّة وشبابها .. ولم تتحرّك الضمائر المخدّرة ، ولاالمشاعر المتبلّدة للنكير عليه ، والجهر بمخالفته ..

وعندما غدر به المجرم كما هو في كلّ مرّة ديدنه مع أعوانه .. ( وقد ظهرت بعض الأدلّة على ذلك ، وستبدي الأيّام الحقائق القاطعة التي تكشف مسئوليّة النظام عن ذلك ) غضب رجال لقتله .. وتكلّم رجال .. وروّجوا رواية النظام بكلّ بلاهة وعماء .. وتباكى أشباه رجال .. ليس دفاعاً عن دم مهدر بغير حقّ ، وإنّما لأنّهم ـ وبكلّ أسف ـ جزء من فصول مسرحيّة النظام المجرم ، يصرّحون بما يمليه ، ويجهرون بأمانيه ، ويتحرّكون بما يرضيه ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون ..

فويحكم أين كنتم أيّها المتباكون خلال عشرات السنين .؟! وأين كنتم خلال هاتين السنتين .؟! التي يقتل فيها من شعبكم كلّ يوم مئات ، بفتاوى شيخكم الضالّة المضلّة .. أم لأنّ فقيدكم كان مفتي القتل ، ومتبنّيه ، والمشجّع عليه .؟! بما لا يحلم به النظام المجرم ولا يتصوّره .. فأنتم معه شركاء بكلّ ما يقول ، أو مع النظام لا فرق ..

لا عجب ولا غرابة أن تغلب العاطفة على العامّة ، وتحجبهم صورة صغيرة محبّبة لنفوسهم ، عن الصورة الحقّة الكبيرة ، فهذا أمر متوقّع معقول .. لأنّ العوامّ تحكمهم العواطف لا المبادئ والأهواء لا الحقائق..

أمّا أن تغلب العاطفة على عقول بعض طلاّب العلم ، وتختلّ في تصوّراتهم الحقائق والمبادئ ؛ فيعملون نصّاً ، ويهملون نصوصاً ، ويتحدّثون عن شيء ، ويتناسون أشياء .. ويسكتون عن فتاوى ومواقف كانوا بالأمس يجهرون بإنكارها ، ويكتبون المقالات العلميّة في نقضها .. ويقبلون اجتهاداً فرديّاً في أمر جلل يخصّ كلّ الأمّة .. وكانوا من قبل يجهرون بإنكار ذلك أشدّ الجهر .. فهذا أمر يعزّ على الفهم والتفسير ، ويستعصي على الإصلاح والتقويم ، لأنّك تسير مشرّقاً ، ويسير القوم مغرّبين ، فأنى لكم التلاقي .؟! ولا حلّ له في نظري إلاّ درّة ابن الخطّاب رضي الله عنه ، الملهم بالحقّ والصواب أن تخفق تلك الرءوس ، التي استكانت عن نصرة الحقّ ، وعشّش فيها الباطل ، فتستخرج منها عفنه ، وتنقّيها من اختلاطاته وزيفه ، التي طمست نور الحقّ فلم تترك له كلمة ..

الحمد لله أن لم يكن في زمن الحجّاج أمثال هؤلاء المشايخ .. إذن لكان إسرافه في القتل لا يدخل تحت حدّ أو تصوّر .. ولقدّموا له شهادات تزكية بعد موته ، تجعل منه إلى قيام الساعة ، حجّة لكلّ مجرم ، وفتنة لكلّ مسلم ..

ومعذرة إلى شعبنا وأمّتنا أن ذكرت الحجّاج في معرض الحديث عن مجرم العصر الأكبر .. فليس الغرض مقارنة سفّاح بسفّاح .. وإنّما بيان موقف الناس من كلّ سفّاح ..

اللهمّ أرنا الحقّ حقّاً ، وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واهدنا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنك ، إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .