دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام 29-36

دروس وعبر

من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

د. أبو بكر الشامي

أول معركة في الشام ( عربة وداثنة ) ( 9 )

سمع هرقل بتحركات المسلمين وهو في بيت المقدس بفلسطين ، وكان يعتقد بحتمية انتصارهم عليه لما له من عقل وحكمة وتديّن ، فجمع أهل الرأي عنده واستشارهم في الأمر ، فأجمعوا على القتال ، فأيقن بانتهاء ملكه ، ولكنه كان يخافهم على نفسه،  فارتحل من فلسطين ، ولم يقف إلا في انطاكية ، وهي في أقصى شمال الشام  وراح من هناك يحشد الروم للقتال ...

أما جيوش المسلمين فقد اتخذت مواقعها ، أبو عبيدة في الجابية ، جنوب دمشق ، وشرحبيل في بصرى ، جنوب سورية ، في منطقة حوران حالياً ، ويزيد في البلقاء من أرض الأردن حالياً ، شرقي البحر الميت ( أنظر الخارطة )...

في هذه الأثناء دفع الروم بقوّة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل ، يقودها سرجيوس ، فانطلقت من غزّة لتلتف على جيوش المسلمين من خلفهم ، في محاولة لتطويقهم  ، وقطع طريق إمدادهم ...

وكانت عيون يزيد ومخابراته ترقب الموقف ولا تغفل أبداً ، فكتب بذلك إلى أبي عبيدة ، وكان القائد العام لجيوش الشام كما ذكرنا ، فأمدّه أبو عبيدة بقوّة من الفرسان يقودها أبو إمامة الباهلي رضي الله عنه ، وأمره بالتحرك فوراً لملاقاتهم ..

وفي مثل لمح البصر ، تحرّك يزيد لملاقات عدوه ، ودفع مقدّمته بسرعة وعليها أبو أمامة الباهلي ، فوجدوا طلائع العدوّ في وادي عربة فهزموهم ، كان ذلك في الرابع والعشرين من ذي الحجة ، لسنة اثنتي عشرة للهجرة ...

وهرب الروم بعد هزيمتهم باتجاه غزّة ، وتبعهم المسلمون ، فلحقوا بهم في قرية داثنة ، على أطراف غزّة ، فسحقوهم ،  ثم عادوا بسرعة إلى مواقعهم ...!!!

عند ذلك غضب الروم واغتاظوا غيظاً شديداً ، وكتبوا إلى ملكهم هرقل يستعجلونه المدد ، فكتب هرقل إلى عمال مملكته يستنفرهم ، فنفرت إليه أعداد من المقاتلين لا حصر لها ولا عدّ ، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى أبي بكر الصديق يضعه في صورة الموقف ويستشيره ، فردّ عليه أبو بكر يقول : (أما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه تيسّر عدوّكم لمواقعتكم ، وما كتب به ملكهم ووعده لهم بأن يمدّهم من الجنود ما تضيق به الأرض ، ولعمرو الله ، لقد أصبحت الأرض ضيّقة عليهم ، وأيم الله ، ما أنا بآيس أن تزيلوه من مكانه الذي هو به عاجلاً إن شاء الله .

فبثّ خيلك في أرضهم ، وضيّق عليهم بقطع الميرة والمادّة عنهم ، فإن ناهضوك ، فانهد إليهم ، واستعن بالله عليهم ، فإنه ليس يأتيهم مدد ، إلا أمددناكم بضعفهم أو مثليهم ، وليس بكم والحمد لله قلّة أو ذلّة ، وإن الله فاتح لكم ، ومظهركم على عدوّكم بالنصر ، وملتمسٌ منكم الشكر لينظر كيف تعملون  )

ثم أرسل أبو بكر الصدّيق من فوره رسالة عاجلة إلى عمرو بن العاص ، وكان عامله على صدقات قضاعة في شمال الجزيرة ، يصف له وضع إخوانه في الشام ، ويخيّره بين الجهاد أو يبقى على الصدقات .!؟

أتدرون أيها العرب والمسلمون ماذا كان جواب عمرو بن العاص رضي الله عنه .!؟

قال : ( يا خليفة رسول الله ، إني سهمٌ من سهام الإسلام ، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها ، فانظر أشدّها وأخشاها وأفضلها ، فارمِ به ، وإني لأرجو أن يريك الله منّي ما تقرُّ به عينك إن شاء الله  )...!!!

يا للروعة ... و يا للعظمة ... و يا لألق التاريخ ...

ثم استخلف عمرو على عمله الذي كان عليه ، وتحرّك من فوره ليلبي دعوة الصدّيق ، فأمره أن يتحرّك لنصرة إخوانه ، على رأس جيش رابع ، فيه نخبة من أبطال قريش ، ووجوه العرب ، وذلك في الثالث من محرّم للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة ...

وأمره أن يسلك طريقاً مغايراً لطريق إخوانه الذين سبقوه ، فيسلك طريق الساحل ، ويخرج على إيلة ، ثم يرابط على أطراف فلسطين ، فيحمي مؤخرة الجيوش العربية الإسلامية المتوغلة في الشام ، ويمنع تكرار التهديد الذي شكّله سرجيوس من قبل .

يقول القائد العسكري الشهير مونتغمري : ( المفاجأة من العوامل الرئيسية لنجاح المعركة ، ولكن من السهل على أي قائد أن يحدث مفاجأة تكتيكية ، أما المفاجأة الستراتيجية فلا يقدر عليها إلا كبار القادة ) ...!!!

ولعمرو الله ، لقد كانت خطة أبي بكر بالإطباق على غربي الفرات بفكّي كماشة ، والإطباق على شرق وجنوب الشام بأربعة جيوش ، مفاجأة ستراتيجية من العيار الثقيل ، حيث أربكت الأعداء ، وشتت قواتهم ، ودوّخت قياداتهم ، ومنعتهم من معرفة المحور الرئيسي لهجومهم  ...!!!

ترى ، ففي أية أكاديمية عسكرية ، تعلّم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ، فنون التخطيط ، والستراتيجية ، والتكتيك ...!!!؟

وما أجدرنا أن نحافظ على هذا الإرث الحضاري العظيم ، ونقتدي به ، ونسير على نهجه ، وننسج على منواله ...!!!

دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

خالد بن الوليد يقود جيوش الشام ( 10 )

عندما تواترت الأخبار القادمة إلى أبي بكر الصديق بحشد الروم لأعداد هائلة من المقاتلين تضيق بهم الأرض كما يقول الرواة ، ولما كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد أنجز مهمته في العراق على أحسن وجه ، فطهّر غربي نهر الفرات من أية قوّة فارسية ، واستقر به الأمر في الحيرة ، منتظراً إذن الخليفة بالانقضاض على المدائن عاصمة الفرس ...

لذلك رأي الخليفة الصدّيق رضوان الله عليه بنظره الستراتيجي الثاقب ، أن الموقف في الشام أكثر إلحاحاً ، وأشدّ حاجة لفكر خالد العسكري المبدع ، ولقيادته المتميّزة، فقرر تحريكه من العراق إلى الشام ، وهذا نص رسالته إليه :

( أما بعد ، فإذا جاءك كتابي هذا ، فدع العراق ، وخلّف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه ( يقصد المثنى ومن معه من بني شيبان ) ، وامض  متخفّفاً  في أهل القوّة من أصحابك ، الذين قدموا العراق معك من اليمامة ، وصحبوك من الطريق ، وقدموا عليك من الحجاز ، حتى تأتي الشام ، فتلقى أبا عبيدة بن الجرّاح ، ومن معه من المسلمين ، فإذا التقيتم ، فأنت أمير الجماعة ، والسلام ...)

وفور وصول رسالة الصدّيق ، قال خالد رضي الله عنه : ( سمعاً وطاعة لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم )

وقسم جيشه إلى نصفين ، نصف معه ، ونصف أبقاه مع المثنى رضي الله عنه ، ثم التفت إلى من بقي في العراق مودعاً ومطمئناً فقال : ( إن في الشام أهل الإسلام ، وقد زحفت إليهم الروم ، وتهيؤوا لهم ، وإنما أنا مغيثٌ لهم ثم راجع إليكم ، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التي أنتم عليها ، فإذا فرغت مما أنا شاخص له ، فأنا منصرفٌ إليكم عاجلاً ، وإن أبطأت ، رجوت ألا تعجزوا ولا تهنوا ، فإن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليس بغافل عنكم ، ولا بتارك أن يمدّكم بالرجال والجنود حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله )

فبكى القوم حزناً على فراق خالد لما كانوا يحبونه ويرجون النصر والفتح على يديه.

وخرج خالد من الحيرة بتسعة آلاف مجاهد ، وذلك في الثامن من شهر صفر للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، وكتب من فوره إلى أخيه أبي عبيدة  رسالة تقطر بالأدب والتواضع قائلاً : (بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى أبي عبيدة بن الجرّاح من خالد بن الوليد ( فقدّم اسم أبي عبيدة على اسمه معرفة لفضله ) سلام عليك ...

فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ، فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف ، والعصمة في دار الدنيا .

لقد أتاني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرني بالمسير إلى الشام ، والمقام على جندها ، والتولّي لأمرها .

و و الله ما طلبت ذلك ، ولا أردته ، ولا كتبت له فيه .

وأنت رحمك الله على حالك التي كنتَ بها ، لا يُعصى أمرك ، ولا يُخالف رأيك ، ولا يُقطع أمر دونك ، فأنت سيد من سادات المسلمين ، لا يُنكر فضلك ، ولا يُستغنى عن رأيك . تمّم الله ما بنا وبك من نعمة الإحسان ، ورحمنا وإياك من عذاب النار .

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ... )

ثم كتب رسالة أخرى إلى جنوده الجدد في الشام : ( من خالد بن الوليد إلى من بأرض العرب من المؤمنين والمسلمين ..سلام عليكم ...

فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .. أما بعد ...

فإني أسأل الله الذي أعزّنا بالإسلام ، وشرّفنا بدينه ، وأكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم ، وفضّلنا بالإيمان ، رحمة من ربنا لنا واسعة ، ونعمة منه علينا سابغة ، أن يتم ما بنا وبكم من نعمته ... واحمدوا الله عباد الله يزدكم ، وارغبوا إليه في تمام العافية يُدمها لكم ، وكونوا له على نعمه من الشاكرين .

وإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاني يأمرني بالمسير إليكم ، وقد شمّرت ، وانكمشت ( أسرعت ) ، وكأنّ خيلي قد أطلّت عليكم في رجال ، فأبشروا بإنجاز موعود الله ، وحسن ثوابه ، عصمنا الله وإياكم بالإيمان ، وثبّتنا وإياكم على الإسلام ، ورزقنا وإياكم حسن ثواب المجاهدين ، والسلام ...)

ولما عرف المسلمون بقدوم خالد فرحوا فرحاً عظيماً ، لما يعرفون عنه من شجاعة نادرة ، وبطولة خارقة ، وحسن القيادة ، وميمون النقيبة ...

وأما العملاق أبو عبيدة رضي الله عنه ، الذي كانت تولية خالد ، بمثابة عزل له ، فلم يتبين في وجهه ، ولا في سلوكه أية كراهة ، ولما قرأ  كتاب خالد رضي الله عنه إليه ، قال : ( بارك الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما رأى ، وحيا خالداً بالسلام ) .

ولم يلبثوا إلا قليلاً ، حتى هبط عليهم خالد من صحراء السماوة كالصقر الجارح ، يسحق كل قوّة تقف في طريقه ، ويطهّر ما يمر عليه من البلدان ، فمر على عين التمر ، ثم أخذ على قراقر ، ثم شوا ، ثم اللِّوى ، ثم قُصم ، ثم مرّ على أرك ، ثم تدمر ، فافتتحها ، ثم أتى القريتين ، وحوارين ، ثم مرّ على أعراب غسّان ، فاجتمعوا له في مرج راهط ، فانتسف عسكرهم في يوم فصحهم ، حتى طلع على الجهة الشرقية من دمشق ، ونزل في غوطتها ، فدخل أهل دمشق المدينة رعباً منه  وأغلقوا عليهم أبوابها ، ثم تابع مسيره حتى نزل على أبي عبيدة في الجابية ...

يا للروعة ... و يا للعظمة ... و يا لألق التاريخ ...!!!

ومرّة أخرى ، شكراً ، وألف شكر ، لرواة التاريخ ، الذين أوصلوا إلينا هذه الكنوز الباهرة ...

ومرّة أخرى أقول : ما أجدرنا أن نحافظ على هذا الإرث الحضاري العظيم ، ونقتدي به ، ونسير على نهجه ، وننسج على منواله ...!!!

دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

معركة أجنادين ( 11)

لم يكن الروم جالسون بلا حراك ، بل كانوا يرقبون تحركات جيوش المسلمين بمنتهى الحذر والقلق ، ونظروا إلى جيوش المسلمين المتفرّقة والمتباعدة ، فقرروا الالتفاف عليها لإرباكها ، فوجّهوا قوة  إلى عمرو بن العاص في فلسطين للانفراد به وسحقه ، وفي نفس الوقت تحركت قوّة أخرى من حمص ، عليها وردان ، وهو واحد من خيرة قادتهم ، وسلكت طريق الداخل ، للالتفاف على شرحبيل المرابط في منطقة بصرى من أرض حوران للاستفراد به وسحقه أيضاً ، ثم يلتفوا على خالد وأبي عبيدة ، ويحصرونهما في منطقة دمشق بزعمهم ، بعد أن يكونوا قد قطعوا عنهما خطوط الإمداد لهما من جزيرة العرب .

ولكن عيون خالد كانت ترقب كل هذه التطورات بعين الصقر ، فقرر الانسحاب من عمق الشام ، كعادته دوماً في عدم التمسك بالأرض ، إلى أقصى الجنوب في فلسطين ، وأرسل إلى جميع الجيوش الإسلامية أن توافيه هناك ، وشدّد على شرحبيل بشكل خاص ، وحذره من وردان ، وأمره بأن لا يشتبك معه ، حتى تجتمع الجيوش ، وتكون المعركة الفاصلة ، كما أرسل إلى عمرو بن العاص يحذّره من القوات الرومية المواجهة له بمثل ما حذّر به شرحبيل ...

وتحرّكت الجيوش إلى الجنوب تسابق الريح حتى التقت جميعها في منطقة أجنادين من أرض فلسطين ، ولما أحسّ وردان بإفلات شرحبيل منه ، وتحرك المسلمين بسرعة فائقة إلى الجنوب ، خشي على القوة التي تقابل عمرو بن العاص في فلسطين من أن ينفرد بها المسلمون فيسحقوها ، ولم يكن أمامه إلا أن ينصاع للأمر الواقع ، فعبر نهر الأردن من شرقه إلى غربه ، والتحق بالجيش الرومي الذي كان يواجه عمرو بن العاص ، وكان للعبقري خالد ما أراد ، من سحب جيش وردان بعيداً عن حمص مركز انطلاقه وإمداداته ، وتجميع قواته المتفرّقة لتوجيه ضربة ساحقة لأعدائه ، واختيار أرض المعركة التي يحب هو أن ينازل فيها أعداءه ...

وتقابل الجيشان : كان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة . جيش المسلمين ، وهو لا يزيد على ثلاثة وثلاثين ألف مجاهد ، وهم مجموع الجيوش الخمسة للمسلمين في أرض الشام ، بما فيهم جيش خالد الذي قدم معه من العراق ، وجيش الروم الذي يزيد على مائة ألف مقاتل ، ولكن المسلمين كانوا على يقين بأنهم لا يقاتلون أعداءهم بعدد ولا عدّة ، إنما كانوا يقاتلون بهذا الدين العظيم .

وعبّأ خالد قواته ، فجعل على المشاة أبو عبيدة بن الجراح ، وجعل على الميمنة معاذ بن جبل ، وعلى الميسرة سعيد بن عامر ، وجعل على الخيل سعيد بن زيد ، وأمر النساء أن يجلسن في مؤخرة الجيش لتشجيع المسلمين على القتال ...

وخرج بين صفوف قواته يحثّهم على الصبر ، ويحرّضهم على القتال ...

فأقبل حتى وقف على كل قبيلة ، وكل جماعة ، وهو يقول : ( اتقوا الله عباد الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوّكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأُسْد وأنتم أحرار ، فلقد أبيتم الدنيا ، واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزلٌ عليهم رجزه وعقابه )

ثم قال : ( فإذا حملت عليهم فاحملوا ) !!!

فكان أول من حمل على الروم ليكون قدوة لجنوده رضوان الله عليه ، ثم حمل أصحابه من بعده ...

يقول الرواة رحمهم الله : ( فما صبر الروم للمسلمين فواق ناقة )...!!!

وأما خالد فقد كتب من فوره إلى أبي بكر الصدّيق يبشّره والمسلمين بالفتح العظيم ، وانظروا إلى أدبه وتواضعه مع خليفة رسول الله رضوان الله عليهم جميعاً ::

( لعبد الله ، أبي بكر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلامٌ عليك ، أما بعد ...

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأخبرك أيها الصدّيق أنّا التقينا نحن والمشركون ، وقد جمعوا لنا جموعاً جمّة كثيرة بأجنادين ، وقد رفعوا صُلُبهم ، ونشروا كُتُبهم ، وتقاسموا بالله لا يفرّون حتى يُفنونا أو يُخرجونا من بلادهم .

فخرجنا إليهم واثقين بالله ، متوكّلين على الله .

فطاعنّاهم بالرماح ، ثم صرنا إلى السيوف ، فقارعناهم في كل شعب وفجّ

فنحمد الله على إعزاز دينه ، وإذلال عدوّه ، وحسن الصنيع لأوليائه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته )

فلما قرأ أبو بكر الرسالة ، وعلم بالخبر ، فرح به فرحاً عظيماً ، وقال : ( الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقرّ عيني بذلك )...

ونحن نقول : الحمد لله الذي حفظ لنا هذا التراث الخالد لأولئك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعاً ، وأوصله لنا بهذه الأمانة ، وهذه العظمة ، وهذا النقاء وهذا الصفاء ...

دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

وفاة الخليفة أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه ( 12)

بعد أن فرغ خالد رضي الله عنه من مطاردة فلول الروم في أجنادين ، أمر قواته بالتحرّك شمالاً إلى دمشق لمحاصرتها مرّة أخرى ، وسلك في مسيره الطريق الشرقية الخارجية ليبتعد عن الحاميات الرومية في الداخل ، وترك شرحبيل بن حسنة بأسفل الشام ، في منطقة الأردن ، ليحمي مؤخرة المسلمين ، ويمنع أي تعرّض لهم من خلفهم .

نزل خالد بجيشه الذي قدم معه من العراق شرق دمشق قبالة دير للنصارى ، الذي صار يُعرف فيما بعد بدير خالد ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبي سفيان على جانب آخر من دمشق ، ونزل عمرو بن العاص على بعض أبوابها وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم ، وهم يرجون فتحها...

وبينما هم على ذلك ، إذ جاءت الأخبار إلى خالد ، وكانت عيون مخابراته لا تغفل ، بأن الروم قد حشدوا له جيشاً في مرج الصُّفَّر إلى الجنوب من دمشق بحوالي أربعين كيلومتراً ، وكان ذلك في السابع عشر من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، فتحرّك إليهم خالدٌ على تعبئة كاملة ...

يقول الرواة عن خالد رضي الله عنه : ( وكان من أبصر الناس بالحرب ، مع وقار وسكينة وشفقة على المسلمين ، وحسن النظر لهم ، والتدبير لأمورهم ).

البلاذري 141 )..

وبعد أن هُزم جيش الروم شرّ هزيمة ، عاد خالد والمسلمون لمحاصرة دمشق والتضييق عليها ، ونزل كل جيش في مكانه السابق ...

وبينما هم على ذلك إذ قدم يرفأ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكتاب من المدينة المنوّرة ، ودفعه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، ولم يعطه لخالد رضي الله عنهم جميعاً ، كان ذلك في السادس من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ...

كان يرفأ يحمل رسالة من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما ، يعلمه فيها بوفاة أبي بكر الصدّيق ، وتولية عمر الخلافة ، وعزل خالد بن الوليد ، وتولية أبي عبيدة لقيادة جيوش الشام .

ولكن أبا عبيدة لم يشأ أن يخبر خالد رضي الله عنهما بهذا الأمر لما كان يكنّه له من حبّ واحترام ، ولما في هذا الخبر من حرج عظيم لأبي عبيدة ، وسيف خالد يقطر من دماء الروم ، وهو يقود المسلمين من نصر إلى نصر ، وخرج يرفأ من المعسكر راجعاً إلى المدينة ، وأبو عبيدة ما زال يتحرج في إخبار خالد رضي الله عنهما .

ولكنه الفاروق عمر ، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ، والذي كان يرى في سيف خالد رَهَقاً ، ولطالما ألحّ على أبي بكر بعزله ، ولكن أبا بكر رضوان الله عليه ، كان يأبى عليه ذلك ، ويقول لعمر : ( يا عمر ، ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله على الكفار)

فكتب عمر إلى أبي عبيدة ثانية : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبي عبيدة  عامر بن الجرّاح ، سلام عليك .

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلّ وأسلّم على نبيّه محمد ، وبعد ...

فقد ولّيتك أمور المسلمين فلا تستحي ، فإن الله لا يستحي من الحق ، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى ، وقد استعملتك على جند خالد ، فاقبض جنده ، واعزله عن امارته ).

ولكن أمراً كهذا لم يكن ليبقى مكتوماً إلى الأبد ، فلقد كانت رسل عمر بن الخطاب تغدو وتروح على أبي عبيدة ، وأبو عبيدة كاتم للأمر ، محرج من إبلاغه ، حتى علم خالد بالأمر عن غير طريق أبي عبيدة ، فأقبل حتى دخل عليه ، فقال :

( ))

فأجابه أبو عبيدة : ( وأنت يغفر الله لك يا أبا سليمان ، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من غيري ، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كلّه ، ثم قد كنت أعلمُك إن شاء الله .

وما سلطان الدنيا أريد ، وما للدنيا أعمل ، وإنّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان وقوّام بأمر الله عز وجل ، وما يضرُّ الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه ، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة ، وأوقعهما في الخطيئة ، لما يعرض من الهلكة ، إلا من عصم الله عز وجل ، وقليل ما هم )

ثم دفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد ، كان ذلك في السادس والعشرين من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، أي أن أبا عبيدة كان قد أخفى إمارته ، وعزل خالد ، لأكثر من شهر ، وهو يصلّي خلفَه ، والولايةُ ولايتُه ( تُوفي أبو بكر رضي الله عنه في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة )...

فلما قرأ خالد الكتاب قال : ( الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت ، وكان أحبّ إليّ من عمر ، والحمد لله الذي ولّى عمر ، وكان أبغض إليّ من أبي بكر ، ثم ألزمني حبّه )

سجّل يا تاريخ البشرية ... واحفظي يا ذاكرة الإنسانية ...!!!

سجّلوا هذا الألق ، وهذا الطهر ، وهذا السموّ ، وهذا الإعجاز ، الذي يعزّ على البشرية مجرّد تصوّره وتخيّله ، لولا أنه قد حدث فعلاً في واقع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، في يوم من الأيام ...!!!

أيها العرب ... يا شباب سورية الثائر ... أيها المجاهدون الأبرار في الشام ...

هذا هو تاريخكم ، وهذا هو  ألق أجدادكم ...

تاريخ يشرّف السوريين ، وسيرة ترفع رأس العرب ، وألقٌ يبيّض وجوه المسلمين.

فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونجاهد جهادهم ...!؟

(( وقل اعملوا ، فسيرى اللهُ عملكم ورسولُه والمؤمنون

دروس وعبر من الفتوحات العربية الإسلامية لبلاد الشام

معركة فحل بيسان ( 13)

وبينما كان المسلمون يحاصرون دمشق ، جمع الروم قوّة جديدة في الجنوب ( في منطقة بيسان ) لضرب شرحبيل بن حسنة ، وقطع الإمدادات عن المسلمين من جزيرتهم العربية ، كما حرّك هرقل قوة أخرى من انطاكية إلى بعلبك لدعم حامية دمشق المحاصرة ، فاستشار أبو عبيدة خالداً رضي الله عنهما ، وكعادته فقد كان خالد خصب الذهن العسكري ، حاضر البديهة ، فأشار على أبي عبيدة بأن يرسل عمرو بن العاص وجيشه لدعم شرحبيل ، ويتحرك هو لسحق القوة الرومية المتجمعة في بعلبك قبل أن تلتقط أنفاسها ، فأُعجب أبو عبيدة لرأيه ، وقال : ( نعم ما رأيت يا أبا سليمان  ).!

وفعلاً تحرك عمرو إلى الجنوب لدعم شرحبيل المهدد ، وتحرك خالد إلى الشمال الغربي لسحق القوة الرومية في بعلبك (على مسافة 80 كم من دمشق

وتحرّك خالد بفرسانه يسابق الريح ، حتى نزل في منطقة فحل على الضفة الشرقية لنهر الأردن بين بحيرة طبريا والبحر الميت ، ثم لم يلبث أن لحق به أبو عبيدة وعمرو وشرحبيل رضي الله عنهم جميعاً ، ونزل الروم في بيسان من أرض فلسطين على الضفة الغربية من نهر الأردن  ، خلف فرع من فروعه يُقال له نهر جالود ....

كان الروم في الجانب الخصب من الأردن ، ولم يكن المسلمون في مثل ما كان فيه الروم من الخصب والكفاية ، ولذلك كان من مصلحة الروم الانتظار ليتجمع إليهم أكبر عدد من الجنود من القرى والرساتق التي تحيط بهم ، بينما كان من مصلحة المسلمين معاجلتهم فوراً ...

ثم جرت مفاوضات عقيمة بين الطرفين ، لم يثمر عنها أي شيء ....

وأصبح الصباح وقد صفّ المسلمون صفوفهم للقتال ...

ونهض أبو عبيدة بالمسلمين من فحل نحو بيسان ، ودنا منهم ، وتقدّمت قوات المسلمين تغير عليهم وتستفزّهم ، ولكنهم لم يحرّكوا ساكناً ، فعاد المسلمون في المساء إلى مواقعهم .

وفي اليوم التالي خرج إليهم خالد ومعه كتيبة من الفرسان الأشداء ، فاشتبك معهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم عادت فرسان المسلمين ، ولها الظفر ، وأما الروم فقد رأوا ما أصابهم من الوهن والهزيمة ، فانكسرت نفوسهم ، ووهنت أُصُرهُم ، وهابوا المسلمين مهابة عظيمة .

وأراد خالد أن يستثمر الهزيمة النفسية للروم ، فأشار على أبي عبيدة أن يكون الهجوم الساحق فجراً قبل أن يلتق الروم أنفاسهم ، ويضمّدوا جراحهم ، فوافقه أبو عبيدة ، وقال : ( فانهضوا على بركة غداً بالغداة )

ولما مضى من الليل ثلثاه ، قام أبو عبيدة في الثلث الأخير من الليل ، فلم يزل يعبيء المسلمين ، ويصفّ صفوفهم ، ويحمّسهم ، ويحرّضهم ، حتى أصبح ..

فلما حان الفجر ، صلى بالمسلمين ، ثم قام من فوره ، فجعل على ميمنة الجيش معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وجعل على المشاة سعيد بن زيد ، وعلى الفرسان القائد المبارك خالد بن الوليد ، وبقي هو في القلب ، رضوان الله عليهم جميعاً .

وركب أبو عبيدة ، واستعرض الصف من أوله إلى آخره ، يقف على كل راية ، وكل قبيلة ، ويقول : ( عباد الله ، استوجبوا من الله النصر بالصبر ، فإن الله مع الصابرين . عباد الله ، أنا أبشّر من قُتل منكم بالشهادة ، ومن بقي بالنصر والغنيمة، فوطنوا أنفسكم على القتال ، والطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف ، والرمي بالنبل، ومعانقة الأقران ، فإنه والله ، ما يُدركُ ما عند الله إلا بطاعته ، والصبر في المواطن المكروهة ، والتماس رضوانه ، ولن تبلغوا ذلك إلا بالله    )

الثامن والعشرين من ذي القعدة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة الشريفة ...

نظر خالد فإذا بصفوف العجم لا يُرى أولها من آخرها ، وقد قدّموا الفرسان ، وجعلوا جندياً على يمين كل فارس وشماله ...

وكعادته في الحرب فهو يبحث دوماً عن ثغرة ينفذ منها إلى أعدائه ، فهداه فكره العسكري الملهم ، إلى أن تدعيم فرسان الروم بمشاتهم ورماتهم قوّة لهم ، وأن أجنابهم من المشاة المجرّدة من الفرسان هي نقاط ضعفهم ، فقسّم فرسانه إلى ثلاث مجموعات ، جعل على الأولى فارس العرب ، قيس بن هبيرة المرادي ، وأمره أن ينقضّ على ميسرة الروم ، وقاد الثانية بنفسه لينقضّ بها على ميمنتهم ، وجعل على الثالثة ، البطل ميسرة بن مسروق العبسي ، وقال له : ( صفّف مقابل صفّهم في خيلك ، فإذا رأيتنا قد حملنا ، وقد انتقض صفّهم ، فاحمل على من يليك منهم )

ثم خرج خالد بميسرة فرسانه حتى انتهى إلى ميمنتهم ، فلما علاها ، وخاف الروم أن يلتفّ من ورائهم ، بعثوا إليه فرساناً لتشغله عن ذلك ، وكذلك فعل قيس بن هبيرة ، ففعلوا معه مثل ما فعلوا مع خالد ...

وكان ذلك ما أراد خالد ، أن يستدرج فرسانهم بعيداً عن مشاتهم ، ليفقدهم عنصر التعاون بينهما ، وتركهم يتقدمون إليه ، حتى إذا دنوا منه ، نادى : ( الله أكبر ، أخرجهم الله لكم من رجّالتهم ، شدّوا عليهم أيها المسلمون ).

قال الرواة : ( وحمل عليهم قيس بن هبيرة من قبل ميسرتهم ، فقصف بعضهم على بعض ، وقد تكسّرت في يده يومئذٍ ثلاثة أسياف ، وبضعة عشر رمحاً ) ...

فألف شكر لأمناء التاريخ الذين نقلوا إلينا هذا التراث الباهر ...!!!

وضغط المسلمون على الروم يقصفونهم ذات اليمين وذات الشمال ، ثم قتلوا قائدهم وخيرة أبطالهم ، وأظلم عليهم الليل وهم على ذلك ، ثم انهزموا شرّ هزيمة ، حتى غاصوا في الأوحال التي صنعوها للمسلمين ، وتبعهم المسلمون يصطادونهم بالرماح كأفراخ البط ، ولم يفلت منهم في هذه الملحمة إلا الشريد ...!!!

هذا هو تاريخكم يا أبناء الشام النجباء ، وهؤلاء هم أجدادكم ...

هذا هو أملنا بعد الله ، بكم ، وبثورتكم المباركة ....

(( يا أيها الذين آمنوا ، اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلّكم تفلحون

فتح دمشق ( 34)

قال زكريا بن محمد القزويني عن دمشق : قصبة بلاد الشام ، وجنّة الأرض ، لما فيها من النضارة ، وحسن العمارة ، ونزاهة الرقعة ، وسعة البقعة ، وكثرة المياه والأشجار ، ورخص الفواكه والثمار ..

( آثار البلاد وأخبار العباد 179))

الغوطة ، ليس بالمغرب مكان أنزه منه .

( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 157)..

عاد أبو عبيدة بجيوش المسلمين بعد معركة فحل بيسان من الأردن إلى دمشق فحاصرها من جديد ، ونزل هو في باب الجابية غربي دمشق ، بينما نزل خالد قبالة الباب الشرقي الذي تعوّد أن ينزل به دوماً ، ونزل يزيد على باب كيسان جنوبي المدينة ، بينما نزل عمرو بن العاص على باب توما ، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس شمالها ، وأقام أبو الدرداء في قوة على مسافة خمسة كيلومترات شمال دمشق في سفح جبل قاسيون عند قرية برزة  ، وتقدّم ذو الكلاع الحميري بقوة أخرى ونزل على مسافة ليلة (45 كم ) في الشمال باتجاه حمص ، وذلك لمنع أي دعم عنها من الشمال ...

واستمر الحصار قرابة أربعة أشهر ، من أواخر ذي القعدة / 13 هجري إلى منتصف رجب / 14 هجري ..

وحين يعتصم المُحاصرون بالأسوار يكون هدفهم انتظار مدد جديد لهم من هرقل ، وكسر حدّة اندفاع المسلمين ، ويعمد المسلمون إلى تضييق الحصار عليهم ، وقطع أي إمداد يصل إليهم ...

ولكنه خالد عبقريّ الحروب ، وسيّد القادة ، فلقد أدرك بأن فصل الشتاء قادم ، وأن جنود المسلمين لا طاقة لهم بالبقاء في العراء في شتاء دمشق القارس ، بينما أعداؤه ينعمون بالدفء في منازلهم ، فقرر أن يفعل أي شيء لحسم المعركة .

ودسّ عيونه من النصارى العرب داخل دمشق ليعرفوا له خبر الروم فجاؤوه بالخبر الذي ينتظر : ولد لبطريق الروم ، نسطاس بن نسطورس ، غلام جديد في يوم الأحد ، فاحتفل بذلك وأولم وليمة لحامية المدينة الرومية ، فأكلوا وشربوا وغفلوا عن أماكنهم من الحراسة والدفاع ...

إذا سمعتم تكبيرنا على السور ، فارقوا إلينا ، وانهدوا إلى الباب ) ..

وبعد منتصف الليل ، وبينما كانت الخمرة تعمل عملها في عقول الروم ، عبر خالد مع مجموعة من أبطاله الأشداء الخندق المملوء بالماء حول أسوار دمشق من الجهة الشرقية سباحة ، وقذف بحباله وسلالمه على السور فعلق بعضها ، ثم تسلّقوا السور حتى علوه ، فكبّر هو وأصحابه من فوق السور ، وانحدروا إلى داخل دمشق فقتلوا حرّاس الباب ، وتدفّق المجاهدون عبر الباب ، وراحوا يعملون سيوفهم في رقاب الروم ، وثار أهل المدينة ، وفزع الناس ، وتسارع كلّ منهم إلى مواقفه ، وهم لا يدرون ما الخبر ...

وأدرك بطريق المدينة بأن الأمر قد انتهى ، فأسرع إلى أبي عبيدة على الباب الغربي للمدينة ، باب الجابية ، والذي لم يكن يدري بفعل خالد ، فطلب منهم الصلح ، ونزل على شروطه ، فقبل أبو عبيدة بذلك ، وأجرى ما فتحه خالد عنوة مجرى الصلح خروجاً من الشبهة ، ورحمة بالناس ، لأنهم إنما جاءوا دعاة فاتحين ، ورحمة للعالمين ، ولم يأتوا لقتل الناس وسلب أموالهم كما يصوّر المغرضون  ... !!!

فتح حمص ( 35)

قال الأصطخري : حمص من أصحّ بلدان الشام تربة ، في أهلها جمال مفرط ، ولها مياه وأشجار وزروع كثيرة .

وقال القزويني : حمص مدينة حصينة بأرض الشام ، أصحّ بلاد الشام هواءً وتربة ، وهي كثيرة المياه والأشجار ، ويُوصف أهلها بالبلاهة والجمال المفرط .

وحمص مدينة قديمة جداً ، دعاها الرومان إيميزيا ، وبالقرب منها هزم الإمبراطور أورليانس جيوش الملكة العربية زنوبيا / عام 272 ميلادي .

وبالقرب منها وقعت معركة قادش بين رمسيس الثاني والحيثيين ..

كان ذلك في أواخر ربيع الأول / 15 هجريي

تقدّم خالد باتجاه حمص يسحق أية قوّة رومانية تعترضه ، ويفتتح أية بلدة يمرّ عليها ، حتى بلغ حمص ، فتحصّن أهلها وراء الأسوار ، فحاصرها المسلمون من كل جانب ، وخاصة من الشمال باتجاه الرستن ، لمنع أي دعم روماني يأتيها من تلك الجهة .

ولما وجد أهل حمص أنفسهم محصورين داخل أسوار مدينتهم ، وقد تخلى عنهم هرقل وجنوده ، وخافوا على نسائهم السبي إن فُتحت المدينة عنوة ، لذلك أرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح ، فقبل منهم أبو عبيدة ذلك ، وكتب لهم كتاباً بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم .

ثم بعث طلائعه تطارد فلول الروم نحو حلب والجزيرة ...

وكتب أبو عبيدة إلى عمر مخبراً ومهنّئاً وشاكراً لله ...

( بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ،

أما بعد ... فالحمد لله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة في الشام أهلاً وقلاعاً ، وأكثرهم عدداً وجمعاً وخراجاً ، وأكبتهم للمشركين كبتاً ، وأيسرهم على المسلمين فتحاً ..

أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، أنّا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير ، والمسلمون يزفّونهم ببأس شديد ، فلما دخلنا بلادهم ، ألقى الله الرعب في قلوبهم ، ووهّن كيدهم ، وقلّم أظفارهم ، فسألونا الصلح ، وأذعنوا بأداء الجزية ، فقبلنا منهم ، وكففنا عنهم ، وفتحوا لنا الحصون ، واكتتبوا منّا الأمان ، وقد وجّهنا الخيول إلى الناحية التي فيها ملكهم وجنوده ، فنسأل الله ، ملك الملوك ، وناصر الجنود أن يعزّ المسلمين بنصره ، والسلام عليك ) .

ولكن عمر رضي الله عنه ، القائد الستراتيجي المبدع كان له رأي آخر، فلقد كان سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه يزحف في الميدان الشرقي للأمة باتجاه القادسية ، ليخوض واحدةً من أعظم معارك التاريخ ، فوجب تهدئة الميدان الغربي ، فأرسل إلى أبي عبيدة يقول :

( أما بعد ، فقد بلغني كتابك تأمرني فيه بحمد الله على ما أفاء الله علينا من الأرض ، وفتح علينا من البلاد ، ومكّن لنا في القتال ، وصنع لنا ولكم ، وأبلانا وإياكم من حسن البلاء ، فالحمد لله حمداً كثيراً ليس له نفاد ، ولا يُحصى له تعداد ..

وذكرت أنك وجّهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم فلا تفعل ، وابعث إلى خيلك فاضممها إليك ، وأقم حتى يمضي هذا الحول ، ونرى من رأينا ، ونستعين بالله ذي الجلال والإكرام على جميع أمورنا ، والسلام )

يا للعظمة ... ويا للروعة ... ويا للعبرة ... ويا لألق التاريخ ...

تعلموا أيها القادة والعسكريون فنون الستراتيجية والحرب ...

معركة اليرموك ( 36 )

أرسل هرقل بعد كل هذه الهزائم المتلاحقة إلى بيزنطة عاصمة دولته ، وإلى روما عاصمة الامبراطورية الرومانية الغربية ، ولم تكن يومها تحت سيطرته ، يطلب فيها حشد كل من يقوى على حمل السلاح في تجنيد إجباري ، ليرمي آخر سهم في جعبته ...

يقول الرواة : فأقبل إليه من الجموع ما لا تحمله الأرض ..!!!!

فمنهم من أوصل الرقم إلى أربعمائة ألف مقاتل ، ولكن الراجح أنهم كانوا حوالي مائتي ألف مقاتل ..

فلما قدمت عيون أبي عبيدة بأخبار الروم وجمعهم الكبير هذا ، جمع قادته ليستشيرهم ، فأجمع رأيهم على الخروج من أرض الشام إلى حدود بلاد العرب ليخوضوا معركتهم الفاصلة هناك كعادتهم دوماً في عدم التشبث بالأرض ، فإن هزموا الروم ، فتعود الأرض لمن غلب ، وإن كانت الأخرى ، لا سمح الله ، لاذوا بصحرائهم ، فهم بها أعرف ، وعدوّهم بها أجهل ، وكانوا قريبين من عاصمة ملكهم ، وخطوط إمدادهم ، وكتب أبو عبيدة إلى عمر يخبره الخبر ...

فلما أراد أبو عبيدة أن يمضي بجيش المسلمين من حمص أمر برد الجزية إلى أهلها ، فأخذ أهل حمص يقولون : ( ردّكم الله إلينا ، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، فو الله  لو كانوا هم ما ردّوا علينا درهماً ، بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا ، فو الله لولايتكم وعدلكم ، أحبّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ..إلخ )..

وتحرك أبو عبيدة بالمسلمين من حمص إلى الجنوب حتى نزلوا اليرموك في جنوب سورية ، وجمع إليه قادة المسلمين بجيوشهم حتى صاروا في صعيد واحد ، واستعدّوا للمعركة الفاصلة .

وفي واحدة من أندر مواقف التاريخ العسكري ، بل البشري كلّه ،  يجتمع خالد بأبي عبيدة رضي الله عنهما ، فيقول خالد : يا أبا عبيدة ، ولّني ما وراء بابك ، وخلّني والقوم ، فإني لأرجو أن ينصرني الله عليهم ، فيقول له أبو عبيدة : قد فعلت .!!!

يا الله ... يا للروعة ... يا للعظمة ... يا للعبرة ... يا لألق التاريخ ..

سجّل يا ريخ البشرية ... ونتحدّى أن يكون ذلك قد تكرّر في التاريخ البشريّ كلّه عند غير هؤلاء العمالقة الكرام رضوان الله عليهم ...!!!

وهكذا يعود خالد مرّة أخرى ليصبح القائد العام للقوات العربية الإسلامية المسلحة في الشام كلّها ...!!!

يقول الرواة : ( وكان خالد رضي الله عنه ، من أعظم الناس بلاءً ، وأحسنهن غناءً ، وأعظمهم بركة ، وأيمنهم نقيبة ، وكانت جموع الروم أهون عليه من الذباب ) ...!!!

ويرد خالد لأبي عبيدة رضي الله عنهما ، التحيّة بأحسن منها ، فيعبيء قوات المسلمين ، ويمزج الجيوش الخمسة في جيش واحد ويبتكر في تقسيمها طريقة الكراديس ، ليزيد من مرونتها في الحركة ويقول لأبي عبيدة بأدب لا يتكرّر في التاريخ العسكري والبشري : من كنتَ تجعل على ميمنتك .!؟

ثم لم يزالا على هذا  التعاون والتشاور حتى تعبأ الجيش كلّه ، ثم قسّم خالد قوات الفرسان إلى أربعة فرق ، حتى تسهل المناورة بها  عند الشدائد ، وجعل على كل فرقة منها صنديداً من صناديد الإسلام ، قيس بن هبيرة ،  وعمرو بن الطفيل ، وميسرة بن مسروق ، وكان هو على رأس إحداها .!!

ثم  بعث أبو عبيدة إلى أهل كلّ راية وأمرهم بطاعة خالد ، فقالوا جميعاً : سمعنا وأطعنا ..!!!

ثم خرج الدعاة والخطباء والأمراء والقراء أمام الصفوف يحرّضون الناس على الصبر والثبات والشجاعة والتضحية ...

سجّل يا تاريخ البشرية ... وسجّل يا تاريخ العسكرية ...!!!

وألف شكر مرّة أخرى لرواة التاريخ النبلاء الذين نقلوا لنا هذه الروائع الخالدة ...!!!

وتقابل الجيشان في الخامس من رجب / 15 هجري ، وخرج فارس رومي يطلب المبارزة ، فهمّ أن يخرج إليه خالد بنفسه ، ولكن عملاق اليمن قيس بن هبيرة أسرع إليه ، وفي مثل لمح البصر ضربه بالسيف على هامته ، فقطع ما عليه من المغفر ، وفلق هامته ، وسقط الروميّ مضرجاً بدمائه ، فكبّر قيس ، وكبّر معه المسلمون ، الأمر الذي كان يثلج صدر خالد ، ويحرص على أن يفتتح بع معاركه كلّها ، لما فيه من رفع معنويات جنوده ، وسحقها لدى أعدائه ، ثم صاح خالد بالمسلمين : (ما بعد ما ترون إلا الفتح ، إحمل عليهم يا قيس  )...!!!  

وحمل قيس على من قبله من فرسان العدوّ حتى كشفها وقصفها على صفوف المشاة ، وكذلك فعل خالد وقادة الفرق الأخرى على من قبلهم، وكانت هذه من خالد لفتة معنوية مذهلة أراد أن يفتتح بها معركة غير متكافئة العدد والعدّة ، فلقد كان عدد الروم حوالي أربعمائة ألف ، بينما عدد المسلمين حوالي ثلاثين ألفاً ، أي أن العدوّ عشرة أضعاف المسلمين عدداً وعدّة ، وكان الظاهر فيها انسحاب قوات المسلمين أمام أعدائهم بما يرفع من معنويات العدوّ ، فيجترئوا ، ويحطّها لدى المسلمين ، فيخافوا .

ثم تزاحف الفريقان ، فأما الروم فقد أقبلوا بكتائب كالجبال ، وبصفوف لا يُرى أولها من آخرها ، يحملون صلبانهم ، ويزفّون زفيفاً ...!!!

وأما المسلمون فقد صمدوا لهم صمود الأبطال ، وامتصوا صدمتهم الأولى بشجاعة وثبات لا تتكرر في التاريخ العسكري ، وكان القادة يتقدّمون الصفوف ، ويرفعون الهمم ، ويقاتلون قتال الأبطال .!!!

لقد فعلها خالد والله ، فكان هو على رأس تلك الوحدات في الميمنة ، وقيس بن هبيرة على رأس الأخرى في الميسرة ، وصاح في الناس :

( يا أهل الإسلام ، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوّة إلا ما قد رأيتم ، فالشَدَّة ، الشدَّة ، فو الذي نفسي بيده ، ليُعطيَنَّكم اللهُ الظفر عليهم الساعة ، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم ).

فلما تضعضعت قوات الروم ، وتكسّرت صفوفهم أمام صمود المسلمين كما تتكسّر أمواج البحر على الشاطيء ، شدّ وشدّ معه قيس بن هبيرة على أجناب العدوّ ، وأعملوا السيوف في الرقاب يقتلونهم كيف شاؤوا ...!!!

وبدأت خيل الروم بالفرار ، فأفسح لها المسلمون الطريق لتهرب .

وانهارت معنويات الأعداء ، وبدأت جموعهم تتقصّف بعضها فوق بعض ...

يقول الرواة : وأقبل المسلمون على الروم ، ففضّوهم ، فكأنما هُدم بهم حائط ...!!!!

ثم دفعهم المسلمون إلى الخلف حتى ألقوا بهم في الياقوصة ، ويقدّر الرواة عددهم بعشرات الألوف ، هذا عدا عن الذين قتلوا في ميدان المعركة وعددهم خمسون ألفاً ...!!!

ثم خرج خالد في الخيل يتعقّب الفلول المنهزمة ويقتلهم في كل شعب وفي كل واد ...

ولقد كانت ملحمة اليرموك قاصمة ظهر الروم ، كما كانت ملحمة القادسيّة التي جرت بعد حوالي شهر من اليرموك قاصمة ظهر الفرس وبعدهما لم تقم للفرس والروم قائمة ...

ألا ما أعظم هذا التاريخ الزاهر ، وما أروع هذه الملاحم الخالدات ...

وما أجدرنا أن نقرأه بتمعن ، ونتدارسه بعبرة ، وننهل من دروسه وكنوزه وعبره ...!!!؟