حوار نفطي بين «راعي إبل» و «راعي بقر»

د. أنس بن فيصل الحجي

د. أنس بن فيصل الحجي

أكاديمي وخبير في شؤون النفط

[email protected]

في عالم النفط مواضيع تتكرر باستمرار، وبعضها قديم متجدد، ما يعني إعادة نشر مقالات في هذا المجال. ومن أهم هذه المواضيع كلفة إنتاج النفط، توضحها القصة الواقعية أدناه.

والهدف من إعادة نشرها أن تكاليف الإنتاج في دول الخليج أعلى كثيراً مما يتوقعه كثيرون، وأعلى منها في دول منافسة، بخاصة في ضوء بيانات صدرت أخيراً توضح أن مشاريع القار الكندي لن تتأثر بهبوط أسعار النفط إلى 60 دولاراً للبرميل، وأن غالبية مشاريع النفط الأميركي الجديدة لن تتأثر إلا إذا هبطت الأسعار دون 50 دولاراً للبرميل. لكن، هل تتحمل دول الخليج هذا الهبوط؟

شن من سأدعوهم «رعاة البقر» حملة شعواء على من سموهم «رعاة الإبل» لخفضهم الإنتاج ورفعهم أسعار النفط. وكنت تحدثت مع أحدهم، وهو أميركي متخصص في شؤون الطاقة، بعد أن شن هجوماً عنيفاً على العرب وسخر منهم بقوله: «لا يمكن لرعاة الإبل أن يتقنوا إدارة أسواق النفط»، في إشارة إلى خفض «أوبك» إنتاج النفط ومحاولتها الإبقاء على أسعاره ضمن نطاق معين.

فحاول الاعتذار بعد أن أخبرته بأنني انتمي إلى هؤلاء، ويبدو أنه أحس بالحرج عندما أخبرته بأن أول جَمل رأيته في حياتي عن قرب كان في بلاده وليس في بلادي! وعندما سألته عن سبب تحامله على العرب ذكر ما قاله كثير من المسؤولين الأميركيين من أن ليس من «العدل» أن تحقق دول الخليج أرباحاً طائلة على حساب المستهلك الأميركي لأن «الكلفة الحدية» لإنتاج برميل من النفط لا تتجاوز الدولار الواحد في بعض دول الخليج مثل السعودية والكويت، في وقت تجاوزت أسعار النفط 100 دولار للبرميل

وأيقنت من طريقة كلامه أن ادعاءه، إن لم يكن نتيجة حقد دفين، فإنه ناتج من جهل شديد! سهل غريمي علي الأمر لأنه ضليع في مبادئ الاقتصاد، ما مكنني من طرح بعض الأمور من دون شرح مفصل.

فمن المعروف في علم الاقتصاد أن أسعار الموارد المعدنية، ومنها النفط، تُحدّد بحسب ما يسمى «كلفة الاستعمال» لا «الكلفة الحدية». وعلى رغم اختلاف علماء الاقتصاد في تحديد ماهية الأولى وكيفية احتسابها، إلا أن استخدام أي طريقة معروفة سيؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن هذه الكلفة تفوق «الكلفة الحدية» كثيراً

فالكلفة التي يتكلم عنها على أنها «الكلفة الحدية»، هي كلفة استخراج النفط فقط ولا تشمل ثمن النفط نفسه،وثمنه كمصدر ناضب، والتكاليف الأخرى المتعلقة بإنتاجه وتسويقه مثل الطرق والمواصلات والموانئ والخدمات الصحية للعمال وغير ذلك. إن إضافة هذه التكاليف يوضح أن أرباح دول «أوبك» خلال السنوات العشرين الماضية، إن وجدت، فهي أقل كثيراً مما يذكره الغربيون.

ونظراً إلى تندر الأميركيين على العرب بتسميتهم «رعاة الإبل»، فإنني عادة ما استخدم المثال التالي لكي يفهم «رعاة البقر» أن تكاليف الإنتاج التي يتكلمون عنها هي لنقل النفط من باطن الأرض إلى سطحها، ولا تشمل سعر النفط كمصدر طبيعي ناضب، فسألت صاحبي: إذا كانت كلفة نقل البقرة من هيوستن إلى نيويورك 100 دولار، فما هو سعرها في نيويورك، هل هو 100 دولار؟ فأجاب: لا، لأن السعر هو ثمن البقرة في هيوستن إضافة إلى 100 دولار، كلفة نقلها إلى نيويورك

وكان ردي على الفور: لماذا لا تطبق الفكرة ذاتها على النفط؟... فقال بارتباك: لكن النفط غير البقر. فابتسمت لهذه السذاجة وقلت في نفسي «يبدو أن الرجل يعرف بقراته جيداً»!

وتابعت قائلاً إن البقر مصدر متجدد (عن طريق التكاثر) بينما يعتبر النفط مصدراً ناضباً. واستخراج برميل منه يعني نضوب البئر بمقدار برميل واحد لأن النفط - بحسب آراء راجحة - مصدر غير متجدد، ما يحدد سعر البرميل بكمية الاستثمار اللازمة للتعويض عنه، وهذه هي «كلفة الاستعمال». يعني إن سعر النفط يتضمن كلفة استخراجه إضافة إلى ثمنه كسلعة، والذي يتحدد بناء على «كلفة الاستثمار» اللازمة لإيجاد برميل بديل من النفط، هل أنت موافق؟ فهز رأسه قائلاً: كما تعلم فإنني لست متخصصاً مثلك.

وتابعت:عندما تربي الأبقار تحتاج إلى حظيرة وأسوار لحمايتها؟ وربما تحتاج إلى طبيب بيطري. وإذا قررت بيعها فإنك تحتاج إلى شاحنات لنقلها إلى السوق، والشاحنات تحتاج إلى طريق داخل المزرعة أليس كذلك؟ ترى هل ستحتسب هذه التكاليف؟ فهز رأسه موافقاً فقلت: لماذا لا تطبق المبدأ ذاته على النفط؟ هل تعلم أن تكاليف الإنتاج وفقاً للدفاتر المحاسبية لشركات النفط الأميركية عندما كانت تسيطر على حقول الشرق الأوسط شملت تكاليف شق الطرق وبناء المستوصفات وتكاليف إدارتها وصيانتها، وبناء المطارات والموانئ وشراء الطائرات، والأمن والحماية، من الأسلاك الشائكة إلى الحرس.

قامت هذه الشركات بإضافة كل التكاليف إلى كلفة استخراج النفط وإنتاجه. وعندما سيطرت الدول على مواردها النفطية وزعت هذه المرافق على الوزارات المتخصصة، ما أدى إلى تناسي الكثيرين هذه التكاليف. لماذا لا يحق لنا أن نفعل ما تفعله الشركات الأميركية؟

وتابعت: أنتم تتوقعون أن تحتفظ دول الخليج بطاقة إنتاجية إضافية لاستخدامها وقت الأزمات، لمساعدتكم. فمن سيدفع تكاليف هذه الطاقة الإنتاجية العاطلة من الاستخدام؟ إن وجودها يكلف دول الخليج ملايين الدولارات من دون أي عائد

لذلك يجب توزيع هذه التكاليف (إضافة إلى عائد هذه الأموال لو استثمرت في مجال آخر)، على أسعار النفط كي تستمر هذه الطاقة الإنتاجية.

فنظر الرجل إلى ساعته معتذراً ومتذرعاً بموعد وغادر. فأحسست عندها بنشوة المنتصر.