معرِض العهد والوفاء

صالح محمّد جرّار/جنين فلسطين

[email protected]

كنت أسير في الشّارع المؤدّي إلى قصر السّلام  في مدينة جنين، وإذا بلافتة كبيرة من قماش ،تغطّي مساحة كبيرة من الجدار الخارجي لقصر السّلام ،وقد رُسم عليها صورة المجاهد العظيم ، الشّيخ أحمد ياسين ، زعيم الحركة  الإسلاميّة في فلسطين ، وقد كُتب على اللافتة كلمات تحوي دعوة  إلى زيارة معرض العهد والوفاء.

فعزمت فوراً على زيارة ذلك المعرض ، واقتطعت ساعات من هذا العمر الزّاخر بالعمل والأحداث ، معتبراً تلك السّاعات وقتاً ضرورياً للتّعبئة المعنويّة والرّوحيّة والوطنيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة. ولم أتردّد في  التّوجّه إلى مكان المعرض ، فصعدت درج قصر السّلام، يدفعني الشّوق لرؤية شريط النّضال الفلسطيني  ضدّ الغاصب المجرم الصّهيوني، الّذي دنّس المقدّسات، واقتلع من الوطن الحبيب أهله ،قتلاً وسجناً ، وتشريداً ، وجراحات دامية أبيّة، تروي تراب الوطن الغالي، وتعطّر أجواءه ، وترفع للأجيال منارات من الدّم الزّكي الطّهور !

وما إن صعدت بضع درجات ،حتّى واجهتني لافتات ،كُتبت عليها كلمات حيّة، نابضة بالإيمان والرّجولة والتّصميم ، إنّها كلمات شهيد الإسلام " سيّد قطب " إذ يقول : "إنّ أفكارنا تظلّ جثثاً هامدة ، حتّى إذا متنا في سبيلها ، أو غذّيناها بالدّماء ، انتفضت حيّة ، وعاشت بين الأحياء !

ويقول أيضاً : " إنّه إسلامٌ أو لا إسلام ! " إسلامٌ ، فهو كفاحٌ لا يهدأ ، وجهادٌ لا ينقطع ، واستشهادٌ في سبيل الحق والعدل والمساواة . أو لا إسلام ، فهو إذن همهمة بالأدعية ، وطقطقة بالمسابح ، وتمتمة بالتّعاويذ واتّكال على أن تمطر السّماء على الأرض صلاحاً وخيراً ،وحريّة وعدلاً"

وأفضى بيَ الدّرج إلى قاعة كبيرة تزخر بمشاهد الكفاح الفلسطيني ، والجهاد الإسلامي ، وصُوَر الحقد الصّهيوني ، وبطشه المجنون بالشّعب الفلسطيني الأعزل ، أطفالاً وشيوخاً ، رجالاً ونساءً ، بل إنّ بطشهم أصاب الشّجر والحجر،والإنسان والحيوان ، والأرض وما عليها من بيوت ،ومساجد ، ومدارس ، ومقابر ! بل إنّه دمّر الحياة ووسائلها إلاّ في قلوب المجاهدين الأحرار الّذين بايعوا الله ـ تعالى ـ على الشّهادة في سبيله حتّى يتحقّق النّصر ـإن شاء الله ـ على الأعداء ، ولسان حالهم يقول :" هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين ؟! "

فإمّا حياةٌ تسرّ الصّديـــــــــــقَ      وإمّا مماتٌ يغيظ العـــــــدا

ونفْسُ الشّريفِ لها غايتـــــــان     ورودُ المنايا ونيلُ المنــــى

وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن     مخوفَ الجناب حرامَ الحمى

بقلبي سأرمي وجوه العُــــــداة      وقلبي حديدٌ وناري لظـــــى

وكما يقول آخر :

فإمّا إلى النّصر  فوق الأنـــام       وإمّا إلى الله  في الخالديـــن

ويطول بنا الوصف لو وقفت على كلّ ركن وكلّ مشهد من مشاهد هذا المعرض الرّائع الناّبض بدم  آلامِ ونضال الشّعب الفلسطينيّ المسلم،

فلا أقلّ من كلمات عاجزة عن إيفاء بعض المشاهد الحرّى حقّها !!

فهناك في الرّكن الغربيّ أهوالٌ في سجون العدوّ الصّهيوني اللئيم ، حيث يُقيَّدُ الأبطال الأحرار من شعبنا المناضل ، حيث تربض الأسود في الزّنزانات ، يتغذى بأجسادهم الحقد الصّهيوني المجرم ، وحاشا العزائم الشّامخة ، والأرواح المحلّقة في الجنان ،أن يُخضعها البطش  والعدوان !

الأسْدُ تزأر في الحديد ولن ترى      في السّجن ضرغاماً بكى اسْتخذاءَ

فهذا اللون من البطش والتّعذيب يُدْعى ( الشّبح ) فيربض البطل مُقَيّد اليدين والرّجلين ، ويُغطّى رأسه بكيس خشن ،لا يسمح بتسلل الهواء الجديد إلى رئتيه ، ويظلّ أياماً طويلة على هذه الهيئة الأليمة ، لعلّه يضعف، وحاشاه أن يضعف، فيحقّق للعدوّ اللئيم بعض أمانيه !

أخي أنت حرّ وراء السّدود    أخي أنت حرّ بتلك القيـود !!

إذا كنت  بالله مستعصمــــا ً    فماذا يضيرك كيد العبيــد؟!

أخي ستبيد جيوش الظّــلام    ويُشرق في الكون فجرٌجديد!

فأطلق لروحك أشواقهـــــا     ترَ الفجرَ يرمقنا  من بعيـــد!

وأنّى تجوّلت في المعرض، رأيت دم الشّهادة يُنير الأنحاء ،ويُعطّر الأرجاء ! فها هي صُوَرهم تطّل علينا من علياء السّماء،وأرواحهم ترفرف فوق رؤوسنا، تتلو قول الله ـ عز وجلّ ـ : " ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ،بل أحياءٌعند ربّهم ،يُرزَقون ،فرحين بما آتاهم الله من فضله ،ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألاّ خوفٌ عليهم ،ولا هم يحزنون ، يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ ،وأنّ الله لا يُضيع أجر المؤمنين . "

وليس من حاجة لذكر أسماء شهدائنا الّذين زيّنت صُورُهم أنحاء المعرض، فهم ـ ولله الحمد ـ كُثْرٌ ، سُجّلت أسماؤهم في سجلّ الشّرف والمجد عند ربّ العالمين !!

همُ الشّهداء لا خوفٌ عليهم      ولا هم يحزنون ولا اكتئابُ!

لقد لبّوا النّداءَ بكلّ شــــوق      وهبّوا للجهاد وقد أنابـــــوا !

فما ضنّوا بعمرٍ لاح برقــاً       وهاما بالخلود  وذا الصّوابُ!

لقد خلعوا ثياب العيش عنهم     فرُدّوا سُنْدساً  وحلا اقترابُ!

كذا مَن يطلبِ الأخرى بجِدّ      فعند الله قد طاب المــــــآب !

وإذا أردتَ أن تُفجّر بركان حقدك على العدوّ الصهيونيّ المجرم الأثيم ، فتعال معي إلى غرفة الشّموع ، واحرص على قلبك أن ينتفض خارج الضّلوع ، وامنع عينيك من الدّموع ، واضبط أعصابك لئلا يحطّمها مشهد أشلاء الشّهيد ، وقد مزّقها رصاص العدوّ اللعين ، أو مشهد أحشاء الشّهيد ، وقد انطلقت خارج الجوف ، بفعل شظيّة قنبلة أو صاروخ ، بعد أن مرّت على الرّأس الشّامخ ،فهشّمتهُ ، حتّى تناثر الدّماغ العظيم ، ولسان الحال يقول :

ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلماً       على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي!!

وأمام مشاهد الشهداء الأبطال ، يصمت اللسان ، فهو عاجز عن الإفصاح والبيان :

مشهد يشهد بالحقّ على       عِظَم الإيمان والرّوح الأبيه!!

حقّاً ، فإنّ هذه الأشلاء الممزّفة ، والأطراف المتناثرة ، والأجساد المضرّجة بالدّماء ، والرّؤوس المحطّمة ، إنّها  لتشهد أنّ أولئك الشّهداء الأبطال هزئوا بالدّنيا الفانية ، وعشقوا الخلود في دار الخلود فناداهم ربّهم : "ألاّ تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون،نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة،ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ،ولكم فيها ما تدّعون ، نزلا من غفور رحيم . "

وتؤدّي بنا النّظرات والخطوات في أركان معرض العهد والوفاء للقدس والأسرى ،تؤدّي بنا إلى الوقوف  أمام مجّسمات بديعة رائعة لمسجدَي الصّخرة والأقصى ،صنعتها أيدي الأسرى  والمعتقلين الفلسطينيين الأبطال في سجون الاحتلال، وهي ترمز إلى تمسّكهم الشّديد بمقدّساتهم الشّريفة ، وبالأقصى المبارك ، قبلة المسلمين الأولى ، وثالث المسجدين ، ومسرى ومعراج رسولنا الكريم  ، وبفلسطين كلّها ، بثراها الطّاهر المجبول بدماء الصّحابة والتّابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين

الله أكبرُ في الجولان شامخة     وفي البحيرة حتّى يرتوي النّقَبُ !

الله أكبر في حيفا وفي صفدٍ      وتل أبيبَ وقد ذلّت لنا الصُّعُــبُ!

الله أكبر في أرضي  تردّدها     تلك الوهادُ وذاك السّهل والهَضَبُ

الله أكبر في الأقصى يردّدها     جُنْدُ الإله وقد عزّوا  وقد غَلَبــوا !!

فالبغيُ لا بدّ يوماً أن يجندله      سيف الجهاد إذا هزّت به النّجُبُ !!