قتلة سيد قطب

محمد الحسناوي رحمه الله

لم يعد خافياً أن قتلة سيد قطب – رحمه الله – ليسوا وحدهم الذين أصدروا حكم الإعدام عليه، وتنفيذه شنقاً بالقاهرة عام 1966م، فقد أصدر الحكم عليه جمال عبد الناصر في أثناء زيارته للاتحاد السوفييتي، ثم نفذه بعد عودته.

ومن المعلوم أيضاً أن سبب إعدام هذا الرجل، ليس جرماً جنائياً اقترفه، إنما هي الأفكار التي تبناها مستوحاة من الإسلام العظيم، وضمنها مؤلفاته المتعددة الضخمة ولاسيما كتابه "معالم في الطريق" ومن حكمة الله تعالى وسننه الماضية "مضي السيف" أن كان ذلك الحكم الظالم مدعاة للمزيد من التعريف بقضية سيد قطب وأفكاره التي مهرها بدمائه الزكية الطاهرة في سبيل الله، وقد قال في رسالته إلى أخته "أمينة" (أنا لست ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجرة عن الأشخاص.. آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الحار عندئذٍ فقط يؤمن بها الآخرون)، كما شهر عنه تشبيهه الأفكار بعرائس الشمع تظل كذلك جامدة ما لم يضح في سبيلها الإنسان بروحه ودمائه فتنبعث فيها الحياة، ولهذا لا تستغرب تصريحه، بل فرحه بأن تسرق أفكاره أو أن يتبناها الآخرون، لأن ذلك يحقق هدفه هو نفسه صاحب الأفكار.

يقول أيضاً في رسالته إلى أخته – وكان يقدر أنه على بعد خطوات من الموت: (إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعية لأن نرى أفكارنا وعقائدنا ملكاً للآخرين.. "التجار" وحدهم هم الذين يحرصون على "العلاقات التجارية" لبضائعهم)، هل يصدر مثل هذا الشعور النبيل إلا ممن صدروا عن مشكاة النبوة؟".

ولعل الشر ممثلاً بقوى الظلام والطغيان يدرك أكثر مما يدرك خطر هذه الأفكار البناءة الربانية، فيعمل على وأدها، سواء بقتل صاحبها، كما نشر بعض الأنبياء عليهم السلام وأنصارهم بالمناشير، أم بحجب هذه الأفكار عن البشر لئلا تضيء ظلمات النفوس، وتكشف الحجب عن الأبصار، وتفضح الرجاجلة والمزيفين والأوثان الجديدة.

ومن أنواع القتل المستمر لسيد قطب – رحمه الله – أفكاره التي استشهد بسببها، ومن ذلك أن يقدم ناشر مؤلفاته على حذف شيء منها، كما وقع لكتابه الجليل "الإسلام والسلام العالمي"، وما ندري إن كان قد وقع ذلك لمؤلفاته الأخرى لأن الأمر يحتاج إلى انتباه أولاً، وإلى إجراء عمليات فحص ومقارنة بين الطبعات القديمة ومعظمها مفقود، وبين الطبعات الجديدة وما أكثرها، فقد بلغ بعضها العشرات من المرات.

ما وقع لكتاب "الإسلام والسلام العالمي" انتبه إليه نفر من القراء المخلصين، ورغبوا إلينا بالتنبيه إليه، ألا وهو حذف القسم الأخير من الكتاب المذكور الذي يستغرق 24 صفحة بعنوان "والآن..." وهو قسم لم يعد موجوداً إلا في الطبعة الأولى والثانية من الكتاب المذكور، وحسب! حتى إن دار النشر المشهورة، التي تعاقدت مع ورثة سيد قطب لتنفرد "أو تحتكر" نشر مؤلفاته حذف هذا القسم المشار إليه، ولكي نكون موضوعيين في تقدير حجم الفعلة المقترفة بحق مؤلف الكتاب نثبت النقاط التالية:

1- إن حذف شيء من مؤلف بغير إذن صاحبه لا يجوز خلقاً ولا علماً هذا بالنسبة إلى صاحب الكتاب.

2- أما بالنسبة إلى  قارئه، فإنه يخسر الجزء الأهم في الكتاب، لأن خطة الكتاب جارية خطوة خطوة حتى تصل إلى الخلاصة أو الزبدة أو النتيجة، فيأتي من يقطع هذه الثمرة ويلقي بها في الفناء، وبلا أدنى إشارة أو اعتذار.

3- إذا عرفنا أن القسم المحذوف يخدم حذفه أعداء البشرية جمعاء، وهم أعداء سيد قطب، اتضح حجم الفعلة ففي صدر هذا القسم يقول المؤلف: "والآن.. بعد استعراض فكرة السلام في الإسلام، والإلمام بفكرة الإسلام الكلية عن الحياة.. الآن ما طريقنا نحن الأمة المسلمة؟ وما موقفنا من الصراع العالمي الذي يدور حولنا، ما واجبنا تجاه الحياة، وتجاه الإنسانية، وتجاه أنفسنا"؟ إذن في هذا القسم المحذوف وصل المؤلف إلى تقديم برنامج عمل للفرد المسلم وللجماعة المسلمة وللإنسانية كلها تحقيقاً للسلام العالمي في المحيط الدولي وهو "الخير الشامل، تحقيقاً لكلمة الله، وإلا فالجهاد الدائم لتحقيق هذه الكلمة، والكفاح الدائم لدفع البغي والعدوان، والصراع الدائم مع الفساد والشر والطغيان".

إن القسم المحذوف من الكتاب يعد قراءة إسلامية للواقع العربي والإسلامي والدولي بشكل حي وآني، على الرغم من أنه كتب في الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن، وهو يتوقع سقوط الاتحاد السوفييتي، كما يحذر من خطر انفراد أمريكا بالساحة الدولية بعد ذلك، يقول رحمه الله تعالى: "إنه ليس من مصلحتنا نحن ولا من مصلحة الإنسانية أن تغلب الآن إحدى الكتلتين على الأخرى، وتمحوها من الوجود محواً، فنحن في دور استكمال وجودنا الطبيعي في الحياة، واستنقاذ مصالحنا المغصوبة بأيدي المستعمرين، ليس من مصلحتنا أن تهزم الجبهة الشرقية هزيمة نهائية، ولا من مصلحة الإنسانية كذلك، وإن وجود هذه الكتلة بهذه القوة في هذه الفترة لهو إحدى الضمانات لنا لنستخلص هذه الحقوق يوماً بعد يوم، كما أنه الضمانة المؤقتة للبشرية ألا سيطر عليها قوى الاستعمار الجائر الغاشم الظالم" ص166.

بل يذهب الاستبصار الرباني إلى حد تصوير الغطرسة الأمريكية التي نواجهها وتواجهها معنا البشرية جمعاء فيقول: "على أنني أعيذ البشرية أن يستبد بها الصلف الأمريكي السخيف، الذي لا يقاس إليه الصلف البريطاني ذاته في أرض المستعمرات، إن عداوة الأمريكي للملونين عداوة بغيضة كريهة، وإن احتقاره للملونين لتهون إلى جانبه تعاليم النازية، وإن صلف الرجل الأبيض في أمريكا ليفوق كل ما كانت تتصوره الهتلرية، وويل للبشرية يوم يوقعها سوء الطالع في ربقة هذا الصلف الأمريكاني، بلا قوة في الأرض تخشى، ويعمل لها حساب"(ص 167).

 وهنا نلقي السؤال الذي تلقيه لجان التحقيق من المستفيد من حذف هذا القسم المهم من كتاب الإسلام والسلام العالمي، غير أمريكا المستبدة بالنظام العالمي كما حذر سيد قطب؟

إنه يحذر من أن تدور رحى الحرب الكونية المدمرة في أرض غير أرض الكتلتين "ستدور في تركيا وإيران والعراق وسورية ومصر والشمال الإفريقي، وفي باكستان وفي أفغانستان، وفي منابع البترول الإيرانية والعربية، إنها ستدمر مواردنا نحن، وتحطم حياتنا نحن، وتدع أرضنا بقعاً خراباً يباباً، وسواء علينا انتصرت هذه أم انتصرت تلك، فسنخرج نحن من المعركة فتاتاً وحطاماً.. فسنكون نحن تلك الفئران الصغيرة لتجارب القنابل الذرية، والقنابل الهيدروجينية" (ص170).

وتزداد خطورة هذا القسم المحذوف حين يقترح المؤلف – رحمه الله – طريق الخلاص، فيقول: "إن طريق الخلاص هو أن تبرز إلى الوجود من أرض المعركة المنتظرة كتلة ثالثة تقول لهؤلاء ولهؤلاء: لا!! إننا لن نسمح لكم بأن تديروا المعركة على أشلائنا وحطامنا، إننا لن ندع مواردنا تخدم مطامعكم، ولن ندع أجسادنا تطهر حقول ألغامكم، ولن نسلمكم رقابنا كالخراف والجداء" (ص173).
إننا ندعو من حذف هذا القسم المهم من الكتاب إلى إعادة نشره وفي ضمن الكتاب حيث كان.