رسالة إلى الطالب المسلم المغترب

عبد الحميد البلالي

ما لم ينشر من رسائل الإمام حسن البنا

الإمام الشهيد حسن البنا

عبد الحميد البلالي

في عام 1935م، كتب الإمام حسن البنا – رحمه الله- رسالة لطالب مسلم، ذهب مع زوجته للدراسة في بلاد الغرب، ونظراً لما فيها من نصائح ثمينة، ووصايا مهمة، رأينا نشرها كاملة، لاسيما أنها لم تنشر من قبل، وهذا هو نص الرسالة:

أخي في الله... رعاه الله وكلأه:

أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن تمسك بشريعته إلى يوم الدين.

السلام عليك ورحمة الله وبركاته، يوم تسافر صالح النية نبيل المقصد، ويوم تعود راشد المسعى حميد الأوبة، ويوم تخدم الإسلام المفدى بما قطفت من يانع ثمر العلوم، وناضر أزهار المعارف.

بعد فترة قليلة أيها العزيز ستكون بين قوم لم تعرفهم، وأناس لم تألفهم، يرون في مثال المسلم، فاحرص يا عزيزي أشد الحرص على أن تكون خير مثال، وأفضل صورة يفهم منها القوم أن المسلم فضيلة، وأن المسلم نبل.

وإن معك وديعة غالية هي زوجك الفاضلة، فاقدر ذلك، وكن لها رفيقاً أميناً يوفر لها الراحة، ويحقق لها السعادة، وشاطرها الهناءة في غير تساهل في الحقوق، أو تغافل عن الواجبات.

واقرأ معي هذه الكلمات التي أملاها حبي إياكما، وإخلاصي لكما كأخ كبير يتمنى لأخويه أفضل الأماني، ويرجو لهما أسعد الحياة:

وصايا ثمينة

يا أخي:

1- أحسن مراقبة الله تبارك وتعالى في كل شأنك، واعلم أنه رقيب عليك، وناظر إليك ومحيط بكل شأنك أينما كنت، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاجتهد ألا يراك إلا حيث يرضى عنك وقتاً وحالاً، ولا تغفل عن مراقبة الحق تبارك وتعالى، فيتسرب إلى نفسك الشيطان، وتغلبك وساوس النفس، واعتقد يا عزيزي أن القلب المعمور بمراقبة الله تبارك وتعالى لا يقربه شيطان أبداً، فإن خلا من معرفة الله استهوته الشياطين، وسكنته الشهوات والأهواء، فحصن قلبك بالمراقبة واستعن على ما يحيط بك باليقظة، ولا تكن من الغافلين.

2- أد فرائض الله التي افترض عليك ولا تهملها اتكالاً على القضاء، أو اشتغالاً بالأعمال، أو تعللاً بالمعاذير، فإن ذلك من خداع النفس، ونزغات الهوى قال تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" (ص: 26).

واعلم – يا عزيزي- أنه ما تقرب أحد إلى الله بمثل ما افترض عليه، كما جاء في حديث البخاري رضي الله عنه، فإياك إياك وإهمال الفرائض، والتكاسل عن الواجبات التي هي لله عليك، فأقم الصلاة، وأحسن الصوم إلا أن تعجز عجزاً تاماً عن ذلك فيكون لك مندوحة في قول الله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" (البقرة: 184).

واحذر أن تتخذ ذلك ذريعة للتقصير، فلأن تصوم بمشقة وأنت في ديار الغرب أعظم لأجرك، وأجزل لثوابك، وأرضى لربك، وأزكى لنفسك، فلا تقربن الفطر إلا مغلوباً لا تجد إلى الصوم حيلة، ولا تستطيع إليه سبيلاً، ولا أزيدك بالفرائض وصية، فإنها رأس المال، وما بالك بمن أضاع رأس ماله كيف يكون حاله مع الرابحين غداً؟

3- اقض ما استطعت من وقتك في الطاعات من النوافل، فأد سنن الصلوات، وأكثر من الاستغفار، وسبح باسم ربك العظيم، واعلم أن دعاء المرء، وهو على سفر، وفي اغتراب مستجاب، فأكثر من الدعاء تضرعاً وخيفة، وأدم ذكر الله تبارك وتعالى: فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه بأن يظل لسانه رطباً بذكر الله، ولا تدع سبيلاً تستطيع أن تسلكها إلى الخير إلا سلكتها فإن الطاعات مضاعفة الأجور، وذكر ربك بين الغافلين بين أبناء تلك الأمم نور على نور، فاغتنم هذا الوقت فهو موسم من مواسم الأرباح الأخروية لمن أراد أن يغتنم الفرص، وينتفع بالمواسم.

4- أكثر من تلاوة القرآن الكريم بتفهم وتدبر فهو شفاء الصدور، وربيع القلوب، واجعل لك منه ورداً تستفتح به يومك، وتختم به عملك، فنعم البدء، ونعم الختام.

5- سترى من مباهج الحياة، وزخرف الدنيا ما يستهوي القلب، ويسترعي العين، ويخلب اللب، ويغلب ضعاف النفوس: فلا يفتننك ذلك عن الفضيلة، ولا ينسينك الآخرة. قال تعالى: "لا تمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132)" (طه).

واعلم يا عزيزي أن هذه المتع جميعاً لا تزن عند الله جناح بعوضة ولا تدل على شرف أو فضيلة، وإنما هي مطايا الشهوات، ومهاوي الفتن فاحذر أن يستخفك الشيطان فتردى في مهواة الإثم والفتنة، واذكر دائماً قول الله تبارك وتعالى: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب(41)" (آل عمران).

وكتاب الله يتلو هذه الحقائق صباح مساء فلا تكن ممن يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة ويخدعه القشر عن اللباب، وما من لذة من هذه اللذائذ التي جاءت بها المدنية المعاصرة إلا تعقبها آلام تربو على حلاوتها، وتذهب بعذوبتها، فتجنب مظاهر دنياهم، ولا تأخذن بقيادك ولا تخدعن بها لتكون من الفائزين.

6- يا عزيزي: إن القوم يرون بعض ما حرم الله علينا حلالاً لهم فلا يتحرجون عن مقارفته، ولا يتوقفون عن ارتكابه، فلا توافقهم على أهوائهم، ولا تخالطهم في آثامهم، فإن ذلك لا ينجيك من مؤاخذة الله تعالى، ولا يصلح لك حجة يوم القيامة.

لا تصاحب فتياتهم، ولا يكن بينك وبينهم صداقة خاصة، ولا صلة عاطفية، فإن ذلك إن كان من غيرك جرماً واحداً فهو منك جرمان، وأنت تعلم تأويل ذلك.

والعهد بك العفاف، والأمانة، وإنما ذكرت ذلك تنبيهاً على مزالق الإثم حتى لا تزل قدم، وفي طهارتك الغناء، وفي شرف نفسك الكفاء.

الخمر: لا تقربها ولا تتعلل بالجو فإن الله حين حرمها كان يعلم الأجواء جميعاً فلم يستثن بلداً دون بلد، ولا أمة دون أمة، ولكنه حرمها تحريماً لا شك فيه، ولا استثناء معه. فإياك أن تحتل من بطنك مكاناً فتظل بقعة سوداء في ذلك الأديم الطاهر، وكن أشد ما تكون عزيمة أمام الكأس الأولى، فإنها إن خامرت عقلك استتبعت الثانية فالثالثة، فانزلقت إلى هاوية لا تجد لك معها خلاصاً وجنيت بذلك على نفسك، وعلى غيرك جناية إن كفرتها التوبة فمن لك بسابق الطهر، وروعة الحصانة؟!!!

مطاعم القوم المحرمة من خنزير وميتة: لا تذق منها شيئاً، ولك في الحلال مندوحة وغنى فلا تتذوق الحرام، ولا ينبت لحمك منه، فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، وما حرمه الله إلا وهو خبيث قال تعالى: "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" (الأعراف: 157) فانصرف عن الخبائث إلى الطيبات.

المقامر، والملاهي ودور العبث: وقتك أغلى من الضياع فيها فاحرص عليه أن يضيع في غير ثمرة تستفيدها أو خير تفعله، ولقد رأيت من قال: "إن الوقت من ذهب" فلم يعجبني ذلك، لأن الوقت أغلى من الذهب، الوقت هو الحياة، وهل حياتك إلا هذه الساعات التي لا تدري متى تنتهي! فاحرص يا عزيزي أشد الحرص على أوقاتك ولا تصرفها إلى في الجد وروح عن نفسك بالحلال من المروحات، وإن في السماء لروحاً، وإن في الأرض لجمالاً، وإن في الحدائق لنضرة، وإن في البحر لعظمة، وإن في نفسك لآية، وإن من الهواء لغذاء، فخذ من ذلك كله راحة نفسك، واستجمام خاطرك، ولا تكثر من اللهو والغفلة فإنها حجاب عن الخيرات، ومدعاة إلى السوء.

كن مع القوم ناقداً بصيراً ومنصفاً خبيراً، لا تستهوينك محاسنهم فتنسى مساوئهم، ولا تؤلمنك مساوئهم فتنسى محاسنهم، بل ادرسهم دراسة الفاحص المدقق، وأحط بكل ما تستطيع من شؤونهم علماً، ثم انقد ذلك كله بعين البصيرة فما كان حسناً فاهد إلى أمتك وقومك وعد به مظفراً مؤيداًً، وما كان غير ذلك فألقه إليهم، ولا تقم له وزناً، ولا تأت إلا وقد نفضت منه يدك، وفرغت خاطرك.

وستجد قوماً يعيبون دينك، وينالون من نبيك صلى الله عليه وسلم، ويجهلون قرآنك وينتقصون قومك فلا تقعد معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإن دعاك الأمر إلى النقاش فجادلهم بالتي هي أحسن، وأوضح لهم ما تعلم في ذلك من المحاسن وإياك والمراء المؤدي إلى البغضاء والفتنة.. قال تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" (القصص: 56).

واعلم – عزيزي- أن الدعوة الفعلية أجدى من الدعوة القولية، وأن دفاعك عن دينك وأمتك، ودعوتك لهما بحسن خلقك، وكمال نفسك واستقامة مسلكك أجدى وأنفع من كل شيء.

وإن أتيح لك سبيل القول والمحاضرة في مجامع القوم، وأنديتهم فاستعد لذلك، وتخير ما لا يثير الفتنة ولا يجرح كرامة، ولا تتهيب الموقف فإن معونة الله مع المخلصين. وكن إيجابياً فلا تقدح في عقائد القوم ولكن جلّ لهم محاسنهم، واكشف لهم عن عقائدنا، وحسبك هذا دعاية وتشويقاً.

أما بعد: فإن في القول فضل سعة، وكنت أحب أن أستمر إليك مناجياً لولا أني أخشى أن أطيل عليك فتنسى فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً، رافقتكما السلامة، ورعاكما الله، وأعادكما على خير ما يحب لكما المخلصون، ونستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.