هل تنجح خطة النظام الأسدي الإجرامية في وأد الثورة مرة ثانية؟!

هل تنجح خطة النظام الأسدي الإجرامية

في وأد الثورة مرة ثانية؟!

د. طارق باكير

[email protected]

(1/2)

من حين أن خبا صوت المآذن في مساجد حماة ، بعد الانتهاء من تدميرها في أواخر شهر شباط من عام 1982م ، وتوقفت أجراس الكنائس أيضا ، وساد المدينة صمت المقابر المعهود ، بعد نحو شهر من الحصار والقصف المتواصل بالطائرات وراجمات الصواريخ ، وتدمير البيوت فوق سكانها ، واستباحت المدينة ، وارتكاب المجازر الجماعية الفظيعة بحق السكان المدنيين ، والتي يقدر عدد ضحاياها شهدائها ، بأربعين ألف مواطن ، مابين رجل وطفل وامرأة ، إضافة إلى تشريد عشرات الآلاف من الأسر ، التي باتت مستهدفة من جانب العصابات الأسدية ..

  ومن حين إعلان المعارضة المستقرة خارج القطر (انكفاءها ) ، بعد أن ( نفرت ) وتجمعت من أجل نجدة حماة ، ثم تراجعت لأن حماة قد ذبحت ، وانقضى الأمر ، ولأنها وجدت نفسها عاجزة عن النصرة ، ثم أعلنت صراحة ، أنها تنكفئ عن المواجهة المسلحة رحمة وترفقا بالشعب ، لأن الحكم الأسدي مستعد لتدمير المدن فوق سكانها ، من أجل البقاء في السلطة ، ومستعد لارتكاب المجازر الجماعية بحق المدنيين بلا حدود ، على مسمع العالم ، وأمام ناظريه ، دون أن يحرك هذا العالم ساكنا ، أو يوجه مجرد إدانة لما حدث في حماة خاصة ، وفي تدمر وحلب وإدلب ، والمدن السورية الأخرى .. فكان هذا التصريح ، الذي أرادت المعارضة به إبعاد الحرج عنها بسبب انكفائها ، كان بمثابة تأكيد للنظام الأسدي ، على نجاعة هذه الخطة القمعية اإجرامية المدمرة ، وجدوى تكرارها كلما لزم الأمر .. ثم انشغلت هذه المعارضة بنفسها ، وصارت تبحث عن مخرج أو حل .. فأعياها المخرج أو الحل !

  ومن حين راح حافظ أسد يتقبل التهاني من أعوانه ومستشاريه ، بمختلف أشكالهم وألوانهم ، على نجاح خطته العسكرية في إخماد الثورة الشعبية ، غير آبه بما جر على البلد من تدمير ، وعلى المواطنين من قتل واعتقال وتشريد .. وما تبع ذلك من إعلان المعارضة الانسحاب من المواجهة ، أمام تلك الهمجية والوحشية ..

منذ ذلك الحين ، صار لدى الحكم الأسدي خطة عسكرية استراتيجية (مجربة ) ، لإخماد أي ثورة تعارض النظام ، وتطالب بالحرية والكرامة والعدالة ، وبات مطمئنا إلى أن حكمه محصن من الداخل بالقوة العسكرية الباطشة ، التي تأكدت فاعليتها ، مهما بلغ التدمير ، ومهما بلغ عدد الضحايا ، ومحصن من الخارج بالنفوذ الواسع لإيران وروسيا ، والضمانات والتفاهمات ، التي طمأنت الدول المعنية بوضع المنطقة ، على ضمان الهدوء والاستقرار ، الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى أمن (إسرائيل ) ، وحماية حدودها من جهة سورية من أي اختراق ، يعكر صفو أمنها واستقرارها ، بعد أن ضمنت (إسرائيل) حماية حدودها على الجبهات الأخرى بالمعاهدات والاتفاقات .. وساد شعار : الأسد .. إلى الأبد ، وفتح باب الفساد والبغي والظلم والغطرسة والتجبر على المواطنين ، للعصابات الأسدية وأتباعها على مصراعيه ، بلا رقيب ولا حسيب !

  ولقد شكلت الثورة الشعبية السورية الحالية ، ثورة (الحرية والكرامة ) ، التي انطلقت في (15 آذار 2011 م) ، في خضم الثورات العربية ، وما بات يعرف بثورات الربيع العربي ، شكلت مفاجأة غير متوقعة للنظام السادر في غيه وتجبره على المواطنين ، المطمئن إلى حكم سورية إلى الأبد .. ووجد أنه أمام ثورة عارمة من نوع آخر ، ومن غير الممكن تكرار تجربة حماة معها ، وهي على هذه الحال ، والقضاء عليها بالحسم العسكري والسلاح ، وذلك نظرا لأنها ثورة شعبية سلمية منظمة ، ترفع شعارات وحدة وطنية ، ولا تحمل سلاحا ، ولا تنتسب إلى جماعة أو طائفة ، وليس لها لون سياسي ..

  وصارت الثورة تنتشر وتتسع مظاهراتها بطريقة متسارعة ، واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تعم مختلف محافظات القطر ، ووجد النظام نفسه في حصار حقيقي ، وليس أمامه من خيار سوى الرحيل ، أو الاستجابة لمطالب الشعب ، والقيام بإصلاح شامل حقيقي ، وهو ما سيؤدي - أيضا - إلى الرحيل الحتمي ، بعد أن بلغ الظلم والاضطهاد والاستبداد والفساد مبلغه .

  كما أيقن النظام أن هذه الثورة لن تهدأ ، ولن تنكفئ ، ولن تتراجع ، دون أن تحقق مطالبها في الحرية والكرامة والعدالة ، وأنها تتجه إلى اكتساح معاقله ، وتهدد باجتياح حصونه ، وأن لاشيء يمكن أن يوقف زحفها .

  وهنا تفتقت عقلية الإجرام الموروثة المتأصلة لدى النظام الأسدي،عن خطة تقضي بتحويل المواجهة إلى مواجهة مسلحة ، لكي يبرر استعمال السلاح على أوسع نطاق ، غير آبه بما يمكن أن يخلف هذا النهج على الوطن من تدمير شامل . وبدأت الخطة بمواجهة المتظاهرين بالرصاص ، وإعطاء التعليمات بقتل مجموعة منهم في كل مظاهرة ، بذريعة وجود مسلحين مندسين ، وتحميل المسلحين مسؤولية القتل ، من أجل إرهاب المتظاهرين ، والحدّ من انتشار المظاهرات ، أودفعهم إلى حمل السلاح لحماية أنفسهم ، وليمنعوا عنهم القتل والاعتقال والاختطاف والتنكيل الشديد ، الذي يصل حد الموت ، من جانب أجهزة القمع ، بحق المنتفضين المتظاهرين العزل .

وزاد هذا التوجه نحو عسكرة الثورة ، حالات الانشقاق عن الجيش الخاضع لسيطرة النظام ، وأجهزته القمعية المكلفة بمواجهة المتظاهرين بالرصاص ، من جانب العسكريين الشرفاء الأحرار ، الذين رفضوا توجيه رصاص أسلحتهم إلى صدور المتظاهرين السلميين ، وقتل إخوانهم ، وصار العسكريون المنشقون مضطرين للدفاع عن أنفسهم من ملاحقة قوات النظام . ومع ازدياد هذه الحالات ، تشكلت نواة جيش مسلح ، وصار هذا الجيش يتوسع ويزداد ، وانضم إلى صفوفه بعض المدنيين ، حذر الوقوع في الاعتقال ، والتعرض للتنكيل بهم .. وصار في كل منطقة كتيبة عسكرية ، أو عدد من الكتائب المسلحة بما تيسر لها من السلاح ، وصارت هذه الكتائب تسيطر على بعض المناطق وتؤمنها ، وتمنع قوات النظام من دخولها ، والاعتداء على سكانها .

  وبهذا ظن النظام الأسدي أنه في دفع الثورة نحو التسليح والعسكرة ، قد وجد المبرر لكي يتصدى لها عسكريا ، بذريعة أنه يتصدى لمسلحين ، وأن يستعمل كل ما أوتي من قوة عسكرية ، وبطش وعنف وإجرام لإنهائها ، وصل إلى حد اقتحام قوات الجيش الأسدي للمدن والقرى والأحياء ، والتنكيل بسكانها أشد التنكيل ، وتدمير الممتلكات ، وحرق البيوت بعد نهبها ، كما وصل حد استعمال الطائرات الحربية القاذفة ، المعدة أصلا لمهاجمة الأهداف العسكرية المحصنة ، والصواريخ البالستية البعيدة ، أو المتوسطة المدى ، في قصف المدن والأحياء والمنشآت المدنية من مدارس ومساجد وكنائس ومستشفيات ، إضافة إلى استعمال المدافع وراجمات الصواريخ .. غير أنه وجد أن الثورة تتعاظم ، رغم كل هذا البطش والفتك ، وأن السحر – كما يقولون – قد انقلب على الساحر ، وأن دفع الثورة السلمية ، إلى حمل السلاح ، ومواجهة العصابات الأسدية ، وتنامي القدرة العسكرية للثورة ، وتحرير مناطق واسعة ، وتطهيرها من العصابات الأسدية ، أوجد معادلة جديدة على الأرض ، خلاصتها أن هذه الثورة لن تتوقف ، ولن يستطيع أحد إيقافها ، قبل أن تحقق أهدافها في إسقاط النظام الأسدي بكل أركانه وأدواته المجرمة .

(2/2)

 يلاحظ أنه عندما وجد النظام أنه يتقهقر ويتراجع أمام عنفوان الثورة ، وتصميم الثوار غير الآبهين بالموت والاعتقال ، صار يركز من أجل وقف امتداد الثورة ، والقضاء عليها  على عناصر الضغط الرئيسة الآتية :

1- ارتكاب المجازر الجماعية ، والقيام بأعمال السلب والنهب والحرق والتدمير والاغتصاب ، بحق المدنيين القاطنين في مناطق امتداد الثورة ، والاستعانة بجيش رديف من المأجورين والحاقدين والمجرمين ( الشبيحة ) ، وإضفاء مسحة طائفية على هذه الجرائم ، من أجل تفجير حرب طائفية ، يصبح فيها النظام حاميا لطائفة ، وتؤدي إلى تدخل المجتمع الدولي ، المهتم بأمر الطوائف ، واتخاذ موقف مضاد للثورة .. وقد نجح النظام المجرم في القتل والتدمير والتهجير والتشريد والتجويع .. ولكنه أخفق في جر الثورة إلى مستنقع الطائفية ، فقد بقي الثوار محافظين على مبادئ الثورة ، متمسكين بأهدافها الوطنية التي رفعوها في مظاهراتهم ، والمتمثلة في إسقاط النظام الباغي الظالم الفاسد المستبد .. والانتقال إلى حياة الحرية والكرامة والعدالة لجميع أبناء الوطن  ..

2- اعتقال أكبر عدد ممكن من المواطنين المدنيين رهائنا ، دون تفريق بين رجل وطفل وامرأة .. وممارسة أقسى أنواع التعذيب والعنف عليهم ، من أجل مزيد من الضغط على الثورة والثوار ، على أمل أن يظهر من يدعو إلى محاورة النظام ، ويقبل بإيجاد (حل وسط ) ، من أجل الإفراج عن المعتقلين ، وإنهاء معاناتهم ، وهو ما بدأت تظهر ملامحه في التصريحات التي ظهرت مؤخرا ، من جانب أطراف في المعرضة .

3- تدمير المدن والقرى والأحياء التي تشكل امتدادا للثورة والثوار ، وحمل سكانها على النزوح ، وتعريضهم للمعاناة المعيشية والأمنية والإنسانية الشديدة داخل القطر ، من أجل الضغط على الثورة والثوار والمعارضة بشكل عام ، وحمل مئات الآلاف الآخرين على النزوح خارج القطر ، من أجل إيجاد مشكلة للدول المجاورة  ، في تأمين مأوى ورعاية لهؤلاء النازحين المهجرين ، فتقوم هذه الدول بالضغط على المعارضة ، وحملها على الرضوخ  لمطلب النظام في بقاء السيطرة ، والاستمرار في الحكم ، من أجل التخلص من عبء اللاجئين والمشردين ومأساتهم ..

  فهل ستنجح خطة النظام الإجرامية ، خطة الإبادة والتدمير والتشريد والاعتقال ، في حمل الثورة والمعارضة على الانكفاء ، مقابل الإفراج عن المعتقلين ، وعودة النازحين والمهجرين ، ومقابل تغيير شكلي ، لا يمس جوهر سيطرة نظام الإجرام والبغي والعدوان على السلطة والحكم ؟ والإجابة على هذا السؤال حاضرة ، ولا تحتاج إلى تأجيل وتأويل ، وهي بإيجاز واختصار :

  أمّا لو أن الأمر والقرار الفعلي  بيد معارضة تعيش خارج البلاد ، آمنة مطمئنة ، مستأنسة بمجالس وهيئات وائتلافات .. فلربما كان للنظام الأسدي أن يحلم ويأمل ، ويفكر بالاستعداد لتقبل التهاني بنجاح خطته الإجرامية – للمرة الثانية - في سحق ثورة الشعب ، والقضاء على آماله وطموحاته في الحرية والكرامة والعدالة ..

  وأمّا مادامت المعركة قائمة على أرض سورية المجاهدة المصابرة ، متوكلة على الله تعالى ، مستعينىة بعزيمة أبنائها ، وهمتهم وصبرهم واستبسالهم ، وإصرارهم على تحقيق النصر الكامل ، واقتلاع هذه الشجرة الخبيثة من جذورها ، والرمي بها إلى مزابل التاريخ الكريهة ، ومادامت الثورة تحقق في كل يوم ظفرا ونجاحا وتقدما .. فليس لعصابات أسد أن تحلم بنصر جديد على الشعب الصامد المقاوم المجاهد ، وإنما عليها أن تنتظر المصير الذي يليق بإجرامها ، وما جنت على شعب سورية من تقتيل وتدمير وتشريد ومهانة .. جزاء وفاقا .. ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).