ثورات الربيع العربي بين الرأي والرأي الآخر

د. محمد أحمد الزعبي

ثورات الربيع العربي بين الرأي والرأي الآخر

د. محمد أحمد الزعبي

كنت أستمع مساء أمس ( السبت 26 يناير 2013 ) ، على إحدى الفضائيات العربية إلى حلقة نقاشية حول

الوضع الملتبس الذي آلت إليه ثورة 25 يناير المصرية ، في ذكرى ميلادها الثاني ( 25 يناير 2013 ) ،

والتي ( الحلقة ) ضمت ــ بطبيعة الحال ــ ثلاثة ممثلين لكل من " الرأي " و" الرأي الآخر " و " الرأي الثالث " الذي اعتبرته مديرة الحلقة ، إنما يقع في " منزلة بين المنزلتين " ، بالنسبة للرأيين الآخرين .

وبعد الانتهاء من مشاهدة الحلقة المذكورة ، انتقلت إلى حاسوبي لكي أطلع منه على المزاج العام ، والموضوع

المحوري الذي تدور حوله الأدبيات الصحفية لهذا اليوم ، وكانت مفاجأتي ، أن معظم هذه الأدبيات كانت أقرب إلى التشاؤم منها إلى التفاؤل حول الأوضاع في سورية ، وبالذات حول النهاية المتوقعة لهذا الصراع الدموي ، بين الشعب السوري ( ثورة آذار 2011 ) ، ونظام بشار الأسد الطائفي ، الذي لاتوجد أية حدود أخلاقية أو إنسانية أو وطنية ، لوحشيته وهمجيته ، تلك الوحشية والهمجية التي لم يشهد مثلها تاريخ الحروب والثورات في أي زمان أومكان !! .

بالنسبة لي ، كمشاهد وكمستمع وكقارئ ، لم يكن أمر هذه الحلقة ، وأمر تلك الأدبيات الصحفية ، يتعلق بثورة ميدان التحرير وحدها ، ولا بثورة الحرية والكرامة في سورية وحدها وإنما بكافة ثورات الربيع العربي ، ولاسيما ثورات مصر وسورية والعراق ، المستهدفة بصورة أساسية ، من كل قوى الفساد والاستبداد في العالم ، ولاسيما الدول الاستعمارية ، وأتباعها في العالم الثالث عامة، والعالمين العربي والإسلامي خاصة.

ومع انتهاء مشاهدتي للحلقة الحوارية المتعلقة بأحداث ميدان التحرير الجديدة بمصر، وللأدبيات الصحفية المتعلقة بثورات الربيع العربي عامة ، وثورات مصر وسورية والعراق خاصة ، انتهيت من رسم صورة " متشائلة " ( تجمع بين التفاؤل والتشاؤم ) ، لما جرى ويجري ويمكن أن يجري مستقبلاً على الساحة العربية ، وذلك بعد انقضاء عامين من عمر فصل الربيع العربي . أبرز ملامح هذه الصورة هي :

1. عندما تقرأ مقالة ما ، حول مابات معروفاً بـ " الربيع العربي " ، وتعرف أن أفكارها وكلماتها تنتسب إلى هذه الأيديولوجية أو تلك ، تأييداً أو تفنيداً ، فإنك أمام مقالة ليست على درجة كافية من الموضوعية والحيادية .

إنني كمحلل سوسيولوجي ، أعرف أن الوعي الفردي إنما يتشكل في إطار وفي ظل الوعي الاجتماعي وأنه

بالتالي هو وعي فردي بالشكل ، اجتماعي بالمضمون . ولكن الفارق الجوهري بين كاتب وآخر ، يتحدد بمقدار وعي الوعي الفردي على هذه العلاقة الجدلية بينه وبين الوعي الاجتماعي ، ومحاولته الجادة في أن

يتحرر ( بقدر الإمكان ) من هذه الأوثان الاجتماعية ( على حد تعبير فرانسيس بيكون ) التي ورثها من البيئة الاجتماعية التي رضع مع حليب أمه قيمها وتقاليدها، بغض النظرعن سلبية أو إيجابية هذه القيم والتقاليد .

2. منذ أن تحولت الإمبراطورية العثمانية ـ الإسلامية ، إلى " الرجل المريض " ، ومنذ أن أصبحت اليد العليا في الوطن العربي ( سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتكنولوجياً ) للغرب الرأسمالي المتطور، بدأت حزمة من القيم التقليدية في مجتمعاتنا ، وعلى رأسها القيم الاستهلاكية والمعيشية القديمة ، تنزاح لصالح القيم الإستهلاكية والمعيشية الأوروبية الغربية الوافدة ، وتجسد هذا الانزياح المادي ، بانزياح فكري على المستويين الفردي والاجتماعي ، أخذ في القرن الماضي ، شكل صراع بين أزواج : الأصالة والمعاصرة / التقليد والتجديد / الماضي والحاضر / التفكير الديني والتفكير العلماني / الديموقراطية والشورى / ... الخ . أي أننا عملياً أمام تيارين ، بل خندقين فكريين ، وبالتالي سياسيين وأيديولوجيين متوازيين ، أحدهما جسمه في العصر الحديث ، وقلبه في العصر الوسيط ، وآخر جسمه في الداخل ( الوطن العربي ) ، وقلبه في الخارج ( أوروبا وأمريكا ) . مع توكيدنا على : من جهة التداخل والتشابك بين تخوم هذين الخندقين ( قنوات عرضانية بين الخندقين المتوازيين ) ، ومن جهة أخرى وجود قواسم مشتركة تاريخية وجغرافية واجتماعية ، تعمل على تعميق وتوسيع هذه القنوات العرضانية بين هذين الخندقين ، وتقارب بينهما ، وذلك على طريق ، تحديث متوازن ، يفتح نوافذه لرياح العلم والتكنولوجيا الغربية الحديثة ، بل وأيضاً للأفكار والنظريات الإجتماعية والسياسية ( الإشتراكية ، الديموقراطية مثلاً ) ويسمح لها ( الرياح ) أن تدخل إلى البيت العربي والإسلامي لتحرك أغصان وأوراق شجرته الراكدة ، ولكن شريطة ألاّ تقتلعها من جذورها (على حد تعبير المهاتما غاندي) . ولعل ماقاله ميشيل عفلق حول علاقته وصلاح الدين البيطار بالشيوعية عندما كانا يدرسان في فرنسا ( 1928 ــ 1933 ) ، إنما يدخل في هذا الإطار ، حيث يقول : " ... كنا بالرغم من نفورنا من الشيوعية ... نرى فيها فائدة من جهتين : أولاً ، ... ، وثانياً ، لأنها ملقح ومحرك للفكر العربي الجامد الآسن ، تهزه بتطرفها هزّاً عنيفاً ... " ( أنظر : القومية العربية وموقفها من الشيوعية ، ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ، دمشق 1944 ، ص 3 ــ 15 ) .

 

3. من متابعتي للعديد من الكتابات ، المتعلقة بما جرى ويجري في سورية منذ منتصف شهر آذار 2011 ،

وحتى اليوم ، يتبيّن لي ، أن الوعي الإجتماعي والفردي في سورية ، قد تشكل وتبلور ( جزئياً على الأقل ) من جهة ، في ظل الهيمنة الحضارية الغربية (بجناحيها الاشتراكي والرأسمالي) على الوطن العربي ومن ضمنه سورية ، ومن جهة أخرى في ظل الاحتلال ( الاستعمار) الفرنسي الذي استمرربع قرن (من 1920 وحتى 1946) ، وبالتالي فإن المرء لايحتاج لكثير من الجهد ليعرف إلى أي من الخندقين المذكورين أعلاه ، ينتمي هذا الكاتب أو ذاك ، رغم انه قد يعتبر نفسه (أي الكاتب المعني) موضوعياً ومحايداً ، وهو مايعني ـ واقعياً ـ أن الكاتب إيّاه ، إنما يدور بهذه الدرجة أو تلك ــ من حيث يدري أو لايدري ــ في فلك خلفياته الفكرية والأيديولوجية . . إن التحليل الموضوعي للظواهر الاجتماعية ، هو التحليل الواعي لهذه الإشكالية ، ولدور الوعي الفردي لكل من الكاتب والقارئ معاً في محاولة كل منهما " الواعية " والجادة ، في التقليل من نسبة وحجم ما هو عالق في " وعيهما " ( شعورياً أو لاشعورياً ) من تلك الأوثان التي أشار إليها فرانسيس بيكون .

4. وتوضيحاً لما اوردناه في الفقرات السابقة ، أتوقف عند مطلع المرحلة الاستقلالية في سورية ، والتي اعتبر ويعتبر كثير من الناس ، أن فترة السنوات الخمس مابين رحيل اديب الشيشكلي ( 1953 ) ، ودخول سورية مرحلة الوحدة مع مصر ( 1958 ) ، تمثل الربيع الديموقراطي السوري .

إننا إذ لانشك في الطابع الديموقراطي ( نسبياً ) للحكم في تلك الحقبة ،إلاّ أننا لابد أن نشيرهنا ، إلى أن كلاً من تياري اليمين واليسار في تلك المرحلة ( حزبا الشعب والوطني ، وحزب البعث ، والحزب الاشتراكي العربي ، والحزب السوري القومي الإجتماعي ، والحزب الشيوعي ) إنما كانا يتصارعان ، في إطار انتمائهما معاً إلى خندق العلمانية والحداثة ، وهو ماكان يمثل المزاج العام للنخب السياسية في تلك الحقبة ، سواء اكانت من اليمين أو اليسار ، بل وإلى حد ما المزاج العام للشعب السوري نفسه بصورة عامة .

إن الأنظمة الدكتاتورية وحدها ، أنظمة الفساد والاستبداد ، ولاسيما منذ عسكرة الحياة السياسية والاجتماعية في سورية ، هي المسؤولة ــ تاريخياً ــ ، عن طمس القنوات العرضانية التي كانت تجمع / تربط بين الخندقين الديني والعلماني ، اللذين أوشكا على الإلتقاء معاً في خندق " المواطنة المتساوية " ، حيث اصبح السيد فارس الخوري رئيسا لوزراء سورية ، دونما اعتراض من أحد ، وأصبحت ابنتاه (بما أعرفه شخصياً ) توزعان بنفسهما مناشير الدعاية الإنتخابية للشيخ مصطفى السباعي ( مؤسس حركة الإخوان المسلمين في سورية ) في دمشق ، والذي كان ينافس السيد رياض المالكي في اتخابات برلمانية تكميلية عام 1956 في دمشق .

5. إن الإشكالية التاريخية التي يعيشها وطننا العربي ، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن ، والتي تعتبر ثورات " الربيع العربي " ( ومنها ثورة آذار 2011 السورية ) بسلبياتها وإيجابياتها ، أحد مفرزاتها الإجتماعية والسياسية إنما تتمثل ، من وجهة نظرنا ، ــ بصورة أساسية ــ بـ :

ــ خضوع معظم الأقطار العربية للهيمنة المباشرة أو غير المباشرة للحضارة الغربية ، بجناحيها :

 الرأسمالي والاشتراكي ، اللذين كانا حريصين على التعامل والتعاون مع قمم وسفوح الهرم الإجتماعي في

 هذه الأقطار( الأنظمة الفاسدة والمستبدة ) ، وتجاهل الأكثرية الشعبية الساحقة المتواجدة في قاعدة هذا

 الهرم . ودون ان نغفل ــ بطبيعة الحال ــ الفارق الكمّي المعروف ، بين مواقف هذين الجناحين من قضايا

 البلدان النامية ، ومن بينها سورية والوطن العربي ، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي .

ــ قصر عمر التجربة الديموقراطية في الوطن العربي ، وفيما بقي من سورية ( على حد تعبير ياسين الحاج

 صالح ) وبالتالي عدم تدفق الدم ( الوعي الديموقراطي / ثقافة الديموقراطية ) الكافي من " قلب" هذه

 التجربة إلى الأوعية الدموية المنتشرة في كافة أنحاء الجسم الاجتماعي .

ــ الانفصام السياسي والأيديولوجي بين حاضر الأمة العربية وماضيها ، بل والتدمير المدروس والمنظم

 والمقصود لقنوات التواصل التاريخي بين هذين المكونين العضويين لأية أمة ( الماضي والحاضر ) ، وذلك

 بالتعاون السري والعلني بين أنظمة الفساد والاستبداد العربية ، والنظام الرأسمالي العالمي ، صاحب

 المصلحة الحقيقية ، في إبقاء شعوبنا وأوطاننا مجرد سوق استهلاكية لمنتجاته ، أو بتعبير آخر ، مجرد

 " معد " ( جمع معدة ) بدون أدمغة وبدون سواعد .

 إن التواصل بين العناصر الإيجابية من ماضي الأمة ، مع العناصر الإيجابية في حاضرها ، إنما يمثل

 الرافعة الموضوعية ، التي تدفع بالأمة نحو الأمام ، وصولا إلى مصاف الدول المتطورة الأخرى .

 إن الانفصام التاريخي بين ماضي الأمة وحاضرها ، غالباً ما يقسم الوعي الفردي والإجتماعي في الأمة

 إلى نصفين ، يشدان حبل التقدم والتطور في اتجاهين متعاكسين، وتكون الحصيلة ( كما نشاهدها الأن )

 هي الصفر ، أوربما فوقه بقليل !! .

6.إن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء " ثورات الربيع العربي " في تونس ومصر وليبيا وصنعاء ودمشق وبغداد هي ( كما هو واضح للعيان ) مطالبة جماهير / شعوب هذه الأقطار بحقها الإنساني في الحرية والكرامة ، عن طريق حقها في تقرير مصيرها بنفسها ولنفسها ، أي عن طريق " صندوق الاقتراع " النزيه والشفاف ، وليس الطائرة و الدبابة والمدفع .

 ومن عجائب الدنيا ، ان يواجه هذا المطلب ( الرأي ) الشعبي المحق والمشروع ، سواء من قبل

 " السلطان " نفسه ، أو من قبل أزلامه وأتباعه ( في الداخل ) أو أسياده ومعلميه ( في الخارج ) ، بـ

بـ " رأي آخر " معاكس و مشاكس ، بحيث يتم وضع ثورات الربيع العربي على أنظمة الفساد والاستبداد كلها ، و بما فيها ثورة آذار 2011 السورية ، التي بات عدد شهدائها يدور في فلك المائة ألف ، وعدد جرحاها ومفقوديها ومشرديها في إطار الملايين ، ناهيك عن تدمير البنية التحتية والفوقية في سورية تدميرا كاملاً وشاملاً ، نقول بحيث يتم وضع كل هذا الربيع ، وكل هذه الضحايا ، في إطار الخلاف النظري المقبول ، بين " الرأي والرأي الآخر" ، والذي يمكن حله على طاولة " الحوار " . فياسبحان الله ، وياعجبي !!.

ـــ انتهى ـــ