الفقاعات تحاصر القصر الجمهوري

سهيل كيوان

عندما يعلن رئيس بلد غارق بدماء أكثر من ستين ألف قتيل من أبنائه، وملايين أخرى، ما بين جريح وفاقد لبيته وأملاكه، ونازح وجائع ومشرّد، بأن ما يجري ليس سوى فقاعات صابون سوف تتلاشى قريبا، فهذا يجعلنا نتوقف ونتأمل كيف وصل سيادته إلى مثل هذا التشبيه الكيميائي الفيزيائي واللغوي العجيب. سبق وقال محللون، إن سيادته يتعامل مع الواقع بشكل مقلوب، فهو ما زال مصرًا ومؤمنا بشكل صوفي بقدرة اللغة على الحلول مكان الحقائق الملموسة وتغيير مسارها

ليس سهلا أن يهتدي رئيس دولة في مثل هذه الظروف المعقدة والمصيرية إلى تشبيه بمثل هذه الخفة، وهو تشبيه يبدو سخيفا كعادة الأفكارالعبقرية لحظة ولادتها، مما يؤكد أن فكرا خلاقا يقف وراء تشبيه كهذا.

الجميع يعرف أن الرئيس يمر بظروف نفسية معقدة، ولا شك أنه قلق ومشغول حتى قمة رأسه بتسيير أمور الناس، وتوفير احتياجاتهم الضرورية من الوقود والخبز وأكياس جمع الجثث والأكفان، خصوصا أن الناس صاروا يقفون أمام الأفران، وعيونهم شاخصة إلى السماء خشية تدخل طائرات معادية، تلقي عليهم براميل من نار ونحاس، فتحرق طوابير الخبز وعاجنيه وخابزيه وناقليه وبائعيه ومن كانت لديهم نية بتناوله في حال توفرت لهم الشهية.

ليس لدى الرئيس وقت لتفكير إبداعي بمثل هذا العمق الذي يحتاج إلى هدوء نفسي ونوم عميق بدون مهدئات كيماوية، ولهذا وأغلب الظن أن سيادته استعان بمختص في مجال الدعاية والإعلانات، وعلى الأرجح أنه روسي من الحقبة السوفييتية، أو روماني من الحقبة التشاوشيسكية، لأن وصف كل ما يحدث في سورية والعالم العربي منذ أكثر من عامين بأنه فقاعات، لا يهتدي إليه سوى مبدع كبير في مجال الدعاية والإعلان من تلك الحقبة. واضح أن رجل الإعلانات هذا استفاد من تجارب سابقة، ولا شك كان أمامه عدة خيارات للتشبيه من عالم الأحياء، ولكن التجارب علمته أن تشبيه الشعب الثائر بالكائنات المنحطة يؤدي حتما إلى نتائج كارثية، فالجرذان والجراثيم والقمل والجنادب وأبو بريص وغيرها كسرت حاجز الدونية ولم تعد ترضى بالإهانة. ولهذا رأى رجل الإعلانات العبقري، أن يطلق على هذه المخلوقات تشبيها محايدا، بعيدا عن عالم الأحياء، وفي الوقت ذاته يحقق الهدف، فالفقاعات تنفجر من نسمة هواء، أو من ملامسة قشة، وقد تنفجر تلقائيا بدون أي تدخل عربي أو روسي أو إيراني.

هناك مصادر تؤكد أن الرئيس فكر بتشبيه الخارجين عن عصا طاعته بالنمل، ولكن مستشاريه العباقرة وفي اللحظة الأخيرة أقنعوه بأن النمل لا تنتهي مهما قتلت منها، وليس هذا فقط، قتل النمل يحتاج إلى مبيدات كيماوية، وسيكون الأمر محرجا لجهات كثيرة في العالم لا تحبّذ استخدام الكيماوي منعا للروائح والفضائح وتلويث أجواء الدول البريئة المجاورة، ثم إن هناك أفلاما تظهر قوة النمل وعناده وتصميمه الغريب على تحقيق أهدافه، فلا تثنيه مبيدات ولا نيران ولا طوفان، ثم أن للنمل سورة في القرآن الكريم، وسليمان الحكيم تعلم من النملة وسمع كلامها، وقادة جيوش غزت العالم وتعلمت الإصرار من النملة، والرئيس نفسه ما زال يذكر قصة (تيمورلنك والنملة) التي حاولت أربعين مرة حتى نجحت بنقل حبة قمح، وقصيدة (الجدجد والنملة) من الابتدائية، وهو يذكر النمل وهي تمضي في قوافل منتظمة حتى تصل إلى هدفها مهما كان محصنا، تسحب ضعف وزنها بتعاون وتفاهم وتخطيط يشبه عمل جيش نظامي، كذلك ترسل بعضًا منها للقيام بمهام استطلاع، إنها تلك النملات الوحيدات البعيدات عن المجموعة، يظنها المغفل تائهة، والحقيقة أنها تستطلع الطريق والهدف، ثم تعود لتخبر الجموع فتخرج للزحف، ولا شك أن هناك قصصا كثيرة عن النمل التي قاومت المبيدات والكيماويات، بل ونجحت بتحويل بعض أصناف المبيدات إلى غذاء. وسبق للرئيس نفسه أن قال لزملاء له يوم كان طالبا جامعيا، إن النمل تستحق الاحترام، ومن النذالة رشها بالمبيدات، فهي تسحب أوزانا من الغذاء تفوق وزنها! لهذا واستبعادا لمجرد التلميح بقوة أو عناد وبطولة المتمردين، تقرر استبعاد تشبيه االنملب عنهم!

تشبيه الفقاعات، يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يوحي بالتفاهة المطلقة أولا، وثانيا، يوحي بأن الرئيس تزحزح وصار مستعدا للتفاوض وتقديم تنازلات، فالجميع يذكر أنه اختار الجراثيم في خطابه الأول، وهذا استفز وأهان وأثار، الانتقال إلى الفقاعات، يعني أنه تنازل عن التشبيهات البذيئة، وعلى المعارضة تلقف الفرصة، وفي الوقت ذاته يقول بأنه تمْسَح ولم يعد قابلا للتأثر، وأنه لا يقيم وزنا لما يحدث مهما علا منسوب الدماء والدمار، حتى صار يرى ملايين البشر مجرد فقاعات، وهو بهذا يدخل عالم الفلسفة من أوسع أبوابه.

الفقاعات صغيرة وأصغر، أو كبيرة وأكبر وبأحجام شتى، الفقاعات منها ذكر ومنها أنثى، الفقاعات كهلة وشابة وطفلة. إلا أنه وبعد معجزة الفقاعات التي رماها بوجه الشعب والعالم، فوجئ سيادته بأنها صارت تظهر في طعامه، أثناء وبعد إعداده، لا طعام بلا فقاعات، لا حمّام بلا فقاعات، لا فرك أسنان بلا فقاعات، فقاعات على الأرض، على الجدران، تظهر بهدوء تام، في زجاجات المياه والأكواب، في زيت المساج، على وجه فنجان القهوة والحليب، في كأس النبيذ، في العجين الخامر، في رغيف الخبز، في وسادة الرئيس وفراشه، في حذاء الرئيس وجيوبه، على وجهه وفي مخاطه ولعابه، على جلده وظهره وقفاه، الفقاعات ليس كما ظن الرئيس ومستشاروه، الفقاعات تحاصر القصر الدكتاتوري ذ وعيب أن نقول الجمهوري-..الفقاعات تغمر كل شيء وتظهر في كل شيء...لا قوة تصمد أمام الفقاعات...ولا نصر إلا للفقاعات..حتى الرئيس وفي آخر لحظاته يحاول أن ينافق ويقول...صدقوني أنا نفسي لست سوى فقاعة...