توجيهات عملية لتحرير مذكرتك

توجيهات عملية لتحرير مذكرتك

عبد الكريم شرفي. جامعة المدية.

أردنا من خلال هذه الورقة أن نقدم مجموعة من النصائح والتوجيهات العملية والبسيطة تفيد الطلبة في كتابة مذكراتهم، وتبيّن لهم كيف يبدؤون ومن أين يبدؤون، وكيف ينظمون أعمالهم وأوقاتهم... الخ.

كيف تبدأ ؟

يبدو أن الشروع في كتابة المذكّرة أمر صعب ومرهق، ذلك أن البدايات هي أصعب الأشياء، وما أخطأ من قال : البداية نصف كل شيء. ولكن بمجرد الانطلاق في الكتابة تبدأ أفكارك في التحرر ويبدأ قلمك في الانطلاق، ولعل الأمر يتحول في النهاية إلى متعة في حد ذاتها.

لنبدأ إذن بالخطوات الأولى.

ضع خطة محكمة :

تكون البداية الصحيحة من خطة صحيحة. ولكن كيف نصوغ هذه الخطة ؟ أحسن طريقة لوضع خطة محكمة هي طرح أسئلة جيدة تدور كلها بالطبع حول الإشكالية الرئيسة التي يتناولها البحث. حاول أن تفرع السؤال الكبير إلى أسئلة جزئية وأخرى جانبية وهكذا...، وهذه الأسئلة من الأهمية بمكان لأنك كلما طرحت الكثير من الأسئلة وحاولت الإجابة عنها، كلما كانت إحاطتك بالموضوع أمتن وأقوى وأشمل. استمر في طرح الأسئلة وسوف تجد أن السؤال في جد ذاته ممتع، وأن مهمتك هي بالضبط الإجابة عن هذا السؤال، وهكذا تتشكل المباحث والمطالب والفصول والأبواب... الخ.

مثال : لنفترض أن موضوعك يدور حول المدرسة الأمريكية في القراءة والتلقي. يمكننا أن نولّد الكثير من الأسئلة انطلاقا من العنوان فحسب : من هم رواد هذه المدرسة (واحدا واحدا) ؟ وماذا كتب كل واحد منهم في موضوع التلقي والقراءة ؟ وهل يتكاملون في أعمالهم، أم يكرر بعضهم البعض الآخر ؟ وكيف هو استعمالهم للمصطلح ؟ هل هي ذاتُ المصطلحات التي نجدها في المدرسة الألمانية على سبيل المثال أو المدرسة الفرنسية، أو السوسيولوجية، أم أن هناك خصوصية معيّنة في المصطلح الأمريكي ؟ وما هي دائرة تأثير هذه المدرسة في أمريكا ؟ وفي نظريات التلقي ككل (على المستوى العالمي) ؟ وبماذا تأثرت ؟ ما هي الدواعي التي جعلتها تظهر إلى الوجود ؟ وبالتالي ما هي خلفياتها ومصادرها ؟ وما هي الإشكالات المركزية في تناولاتها النظرية والتطبيقية ؟ وما مدى اتساعها الزمني (من أي فترة إلى أي فترة استمرت) ؟ هل ظهرت نماذج بديلة لها ؟ وهل ظهرت تفريعات للمدرسة ذاتها (هل حدثت فيها انشقاقات) ؟ ... الخ.

ضع هذه الأسئلة كلها في ملف الخطة. وضع إلى جانبها كل الأسئلة الجديدة التي قد تخطر على بالك، أو التي تنبّهك إليها قراءاتك اللاحقة. وأضف إليها ملاحظاتك وتعليقاتك. وهكذا تتضح الخطة وتتطور وتنمو باستمرار لتتمكن وتتقوى وتستقر، لأنه قد أصبح لديك أسئلة البحث كلها، وربما تكون قد حصلت أيضا على بعض الأجوبة عن لهذه الأسئلة. وعند هذا المستوى تكون قد أزحت الكثير من الضباب الذي كان يلف موضوعك، والغموض الذي كان يعيق تفكيرك. إنك لم تعد في مواجهة مذكرة شبحية لا شكل لها ولا لون ولا قوام، بل أصبح هدفك أن تكتب بعض الفقرات تجيب فيها عن سؤال واحد واضح تماما يشكّل مبحثا أو مطلبا صغيرا من أحد فصول مذكرتك. فمن الأسهل أن تبدأ بجزء صغير بدل أن تكون أمام المذكرة كلها، تماما مثل الخيط الذي يدخل من عين الإبرة بكل سلاسة في حين تقف عين الإبرة الصغيرة مندهشة أمام عظمة الكرة (كرة الخيط).

حاول الآن أن ترتب هذه الأسئلة (ترتيبا تاريخيا أو منطقيا أو منهجيا)، وحاول أن تجمعها في مجموعات متجانسة، وبعد ذلك استخرج أقوى الكلمات (الكلمات المفتاحية) وسوف تحصل على فصولك معنونة ومرتبة في خطة محكمة.

باشر الكتابة :

سوف تترك أفكارك تتراكم، وقراءاتك أيضا، وسوف تقول هذه قضية مهمة وسوف أستغلها في المذكرة، ولكنني سأتركها جانبا وأعود إليها في الوقت المناسب، أي في وقت لاحق، وسأكمل قراءاتي وجمع ما هو ضروري للبحث، وهذا كله لأنك تفكّر في كتابة المذكرة دفعة واحدة، ولكن لن تستطيع ذلك بالتأكيد. إذن لكي تشرع في الكتابة، ابدأ مباشرة في تحرير مبحث أو مطلب صغير، وهكذا بدل أن تفكّر في إنهاء كتابة المذكرة (كلها) قبل "التاريخ الفلاني" وهو ما لن تقدر عليه، فكّر في شيء عملي وموضوعي : اشرع في تحرير مطلب صغير، ومحدد، قد لا يتطلب منك سوى يومين أو ثلاثة من المثابرة والجدية، وهكذا يكون تركيزك منصبا على مهمة محددة وواضحة المعالم. تنتهي كتابة هذا المطلب يوم الثلاثاء، ويقدّم جاهزا إلى الأستاذ المشرف في اليوم الموالي مباشرة بعد مراجعة بسيطة تسمح بتطوير لغته أو تجنّب الأخطاء الموجودة فيه. وهكذا سوف تتحصل في ظرف وجيز (ربما شهر وليس أسبوعا، ولكن شهرا أو نصف شهر هو أيضا ظرف وجيز ومحدد وواضح) على مجموعة من المطالب المكتوبة، وليس على أفكار وقراءات متراكمة ومتروكة إلى وقت لاحق.

إذن المهم هو أن تحاول "كتابة شيء ما"، حتى ولو كان ما تكتبه لا يلقى إعجابك أو تراه منقوصا. ولكن هذا الذي تكتبه هو نواة ما سيأتي، عدّل وغيّر وأضف واحذف... حتى يستقيم المطلب أو المبحث. الكتابة ليست بالسهولة التي قد نتوقعها، ولكن مع الدربة تتحرر ريشتك، وتنطلق أفكارك، وتتعرف إلى نقائصك. المهم في كل ذلك أن لديك مادة قد كتبتها وأنت الآن تركز على إخراجها في حلتها الأخيرة : مكتملة. أما في الحالة الأولى فقد كنت تؤجل الكتابة باستمرار، وليس لديك سوى تراكمات، وتريد أن تكتب المذكرة في الأخير ودفعة واحدة، ولكن تذكّر حال كرة الخيط وعين الإبرة !

الخلاصة : اشرع في الكتابة، مهما كانت صعوبة الأمر، لأنك ستتحرر بالتدرّج. وستجد مطالبك ومباحثك وفصولك تنمو على طريقة كرة الثلج التي تبدأ صغيرة جدا، ثم تكبر وتكبر وتكبر...

وعندما يقرأ لك أستاذك المشرف، لا تقلق من توجيهاته، أعد الكتابة، نقح كما قلنا، وزد وأنقص... حتى يستوي المبحث أو المطلب. لقد صار لديك شيء تشتغل عليه، وتعيد النظر فيه، بينما في البداية كنت تهرب من الكتابة وتراكم القراءات وتجتر الأفكار ولكن دون أية نتيجة ملموسة.

إن الاشتغال على الكتابة، والاستماع إلى ملاحظات الأستاذ المشرف، سيطور أسلوبك ولغتك وسوف تتعلم خلاله أشياء كثيرة: كيفية التلخيص، وشروط الإحالة، والاستشهاد، وحتى علامات الترقيم التي لم تكن تنتبه إليها فيما سبق. سيكون الأمر بمثابة دروس في المنهجية مفيدة لك، وبمثابة اختبارات دورية تتعلم منها الكثير.. ولكن دون أن تأخذ عليها علامات.

ما هي المذكرة أصلا ؟

 يجب أن لا تنسى أن المذكرة هي تقرير حول بحث يدور حول مجموعة من الأسئلة ذات صلة بعضها بالبعض الآخر، وبالتالي فعليك أن تبدأ مما انتهى إليه الآخرون. لا تنس إذن أن تربط بحثك بالبحوث التي سبقته والتي يمكن اعتبارها تمهيدا له، أو اعتباره تتمة لها. ومن هنا فإن قيمة بحثك تكمن في إكمال ما توقف عنده الآخرون، وفي الالتفات إلى ما نسوه، وفي الإجابة عن الأسئلة التي تركوها معلّقة، وأيضا في إثارة الأسئلة التي لم يثيروها أصلا. كما يمكن أن يكون عملك هو جمع المشتت هنا وهناك، والمتفرق الذي لا تظهر روابطه، ثم ترتيبه وتنظيمه، بحيث يتم الكشف عن تلك العلاقات البعيدة أو الخفية. عليك إذن أن تنطلق في بحثك من توصيف للحالة الراهنة التي انتهت إليها البحوث السابقة.

أما نتائج هذا البحث فهي مكتوبة من أجل الآخرين الذي تريد أن تفيدهم ببحثك، ولذلك تحرّى أن تكتب بوضوح كبير، وأن تجعل الآخرين يفهمون ما تريد قوله لهم. لا تنس أن بحثك ليس نقلا لما هو موجود ومعروف ومكتوب في بطون الكتب، لأنك بذلك تكون مجرد مجتر ولا تضيف أي شيء، وربما ما تقوله أنت تقوله كتب ومقالات أخرى بطريقة أوضح وأحسن. لا تنس إذن ما هي المذكرة: إنك تثير أسئلة وتقترح إجابات لهذه الأسئلة، ومن هنا تأتي لمستك الخاصة، ومن هنا تكتسب مذكرتك الشهرة وتصبح مرجعا يرجع إليه الباحثون والدارسون باستمرار.

القرار بين يديك إذن، فإما أن تكتب مذكرة قوية، وتثير الإشكالات بوضوح كبير، وإما أن تكتب مذكرة تكرر وتنقل وتجتر ما كتبه الآخرون، والأكثر من ذلك أن تكون غير واضحة في عرضها ومفككة ومتلكئة. وهذا ما يسمح لنا بإثارة النصيحة الموالية.

أظهر شخصيتك :

للأمانة العلمية حاول أن تردّ المعطيات والملاحظات وحتى الإشكالات التي ليست لك - إلى أصحابها. ولكن في المقابل حاول أن تُظهر ما هو لك، وأن تبرز إسهاماتك وملاحظاتك وتعليقاتك. اجتهد أن تتخذ موقفا خاصا بك بعد كل عرض. إن الإحالة على مصدر أو مرجع أو مفكّر أو باحث معروف - تمنح طرحك القوة العلمية، وتوفر له الأساس الذي يقوم عليه، أما حضورك في البحث فيمنحه الأصالة، لأنه يكشف عن إسهامك الخاص ويُبرز لمستك المتميّزة، وهذا بالضبط ما يمنح بحثك الخصوصية، ويخرج به من التكرار والاجترار إلى الإبداع والإفادة والإمتاع.

حاول إذن إبراز أفكارك والدفاع عنها والتأسيس لها قبل ذلك. ولأجل ذلك اكتب بوضوح، واستخدم عبارات جلية تبيّن موقفك وحضورك... ثمة فارق كبير بين فهم سوسير وتعريفه للعلامة وفهم بيرس وتعريفه لها، ونعتقد أن الدرس السيميولوجي قد فقد الكثير من غناه وثرائه عندما تأسس على مقولات سوسير اللسانية بدل أن ينبني على أطروحات بيرس الفلسفية-المنطقية والتداولية...

أسلوب الكتابة :

يجب أن تكون لغة المذكرة واضحة (وهذا لا يمنع كونها قوية وخلاقة). ووضوح اللغة هنا هو من وضوح الأفكار ذاتها. إن ما نفهمه بوضوح نعبّر عنه بوضوح. استخدم كلمات مفهومة، وجملا بسيطة، مترابطة ومنسجمة ومؤدية للمعنى. ليكُن انتقالك في الجمل مشروطا بانتقالك في الأفكار، أي اجعل اللغة التي تكتب بها أحسن تعبير عن الفكرة التي تريد توصيلها. وتأكد أنه عندما لا تكون لديك فكرة (أو لديك فكرة أنت لا تفهمها أصلا)، فلن تُنتج سوى أسلوب غامض وعام وفضفاض، ولغة مفككة ومُلغزة. ولكن قد يحدث أن تكون الفكرة التي تريد التعبير عنها معقدّة في ذاتها، وفي هذه الحالة حاول أن تعبّر عن هذه الفكرة على مراحل وبالتالي فبدل استخدام جملة واحدة ملغزة وغير مفهومة استخدم عدة جمل يخدم بعضها بعضا ويوضح بعضها بعضا. لا تضحي بالفكرة أو بالوضوح من أجل الاختصار. عدوّك اللدود في كتابة المذكرة هو الغموض والإلغاز والتفكك والتناقض والركاكة واللف والدوران حول الفكرة. فكّر أيضا في الإقناع والحجاج : اعرض فكرتك وأنت تفكّر في شرحها وعرضها وتوضيحها والدفاع عنها، وهذا ما يتطلب منك استخدام ضمير المتكلم (رأينا، ووجدنا، ونعتقد، ونفضّل، ويبدو لنا... الخ)، والنتيجة هي كما قلنا أعلاه، ليس وضوح الفكرة فحسب، وإنما وضوح الموقف، وبالتالي حضورك القوي في مذكرتك.

شروط التحرير الجيّد :

تجنّب الغموض والدوران حول الفكرة، اجعل عباراتك واضحة قدر الإمكان، وموصلة لفكرتك، ومن أجل ذلك تجنّب البلاغة السيئة (أي الكلام الكثير الفارغ من المعنى).

حاول أن تستخدم العبارات الدقيقة مكان العبارات العامة والفضفاضة، وليكن اختيارك للكلمات التي تستخدمها واعيا : فأنت تتحدث عن النقد العربي على سبيل التحديد، وليس الغربي. المعاصر وليس الحديث. أو تقصد التفكيكية الفرنسية وليس الأمريكية. أو تنتقد بارث التفكيكي وليس البنوي... الخ.

غالبا ما يشرع الطالب في التبييض مباشرة عندما يفكّر في الكتابة، ولكن ما يقدّمه للأستاذ المشرف في النهاية هو مجرّد مسوّدة مليئة بالأخطاء والتناقضات. إذن لتكن أول محاولتك في شكل مسوّدة، ثم اشتغل بعد ذلك على هذه المسوّدة بالزيادة والحذف، غيّر تراكيبك ومفرداتك، وأعد النظر أيضا في ترتيب أفكارك وترابطها، وهكذا تنتج مبحثا جيدا. قاعدة : الكتابة هي أن تسوّد أولا ثم تبيّض بعد ذلك.

النقائص الموجودة إذن في نوعية الكتابة ترجع إلى كون الكثير من الطلبة لا يحبّذون إعادة الكتابة، وهم يعتقدون أن التبييض الأول يكفي، وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون أهمية إعادة-الكتابة. أعد كتابة ما كتبته من قبل وسوف ترى أن النسخة الثانية أفضل بكثير من الأولى، فما بالك بالثالثة والرابعة. عوّد نفسك على مراجعة ما تكتب.

غالبا ما يسيطر عليك الخوف من الكتابة، فترجئها باستمرار : حتى أقرأ تشعّبات المسألة، وتلويناتها، والتقارير المكتوبة بشأنها في مقالات أو مراجع كثيرة... تغلّب على خوفك وواجه ورقة بيضاء وحاول أن تكتب فيها على الأقل فكرة واحدة واضحة. وعندما تنجح في كتابة هذه الفكرة سوف تنتقل إلى الفكرة الثانية وهكذا تتحصل على مجموعة من الأفكار الواضحة (المدوّنة) التي يمكنك الربط بينها. وعند التحرير ابدأ بالأسهل، ابدأ بما تعرفه، بما تمتلكه، ثم ضع علامات استفهام على ما لا تعرفه، على ما تريد تحريره لاحقا، قيّد أفكارك وتساؤلاتك على الورق فذلك يجعلها تتخذ شكلا ملموسا، ويخرجها إلى الوجود.

لا تنس أنك تريد في هذا التقرير التعبير عن أفكارك (أي توصيلها إلى الآخرين)، لذلك استخدم أسلوبا بسيطا ومباشرا يرتبط ارتباطا وثيقا بهذا الهدف. إذا نسيت هذا الهدف سوف تغرق في جمع وتصفيف العبارات والأقوال والفقرات ووضعها متراصفة جنبا إلى جنب، ولكن دون أن تقول أي شيء.

غالبا أيضا ما يؤخّر الطلبة كتابة فصولهم إلى نهاية البحث، ولكن هذه عادة سيئة كما رأينا. إذن تعوّد على الكتابة من بداية عهدك بالبحث. لأنك بذلك تتدرب وتتعود على التحرير. اترك ما كتبته جانبا، ثم عد إليه وطوره ونقحه وزد إليه، واحذف ما تراه لم يعد مناسبا... بهذه الطريقة تكون لديك دوما مسوّدةٌ ثانية أو ثالثة أو رابعة... خاصة بمطلب أو مبحث أو فصل، وليس مجرد أفكار متزاحمة وغامضة في ذهنك.

حاول أن تُبرز النتائج والخلاصات المتوصل إليها :

قلنا أعلاه بأن بحثك ينطلق من سؤال جوهري أو مجموعة من الأسئلة الفرعية التي تنتظر إجابات. حاول إذن أن تُبرز النتائج التي توصلت إليها، والحقيقة أن المكان المناسب لذكر هذه النتائج والخلاصات هو نهاية المباحث والفصول، وليس الخاتمة. اذكر النتائج الجزئية في كل مرة، ووزعها على متن البحث، ولا تنتظر الخاتمة لتسردها دفعة واحدة. حاول أن تشد انتباه القارئ الذي يقرأ لك لأنه منشغل تماما بالإشكالات التي تثيرها، ويبحث لها عن حلول وإجابات، وكلما منحته إجابة أو خلاصة ولو جزئية، كلما جعلته يتعلق بالبحث ويواصل محاولة الإمساك بكل تفاصيل الصورة الكبرى، لأن أجزاءها الأولى التي عرضت عليه قد أصبحت قريبة منه، وهو يتلهف لمعرفة البقية.

لا تكتفي بعرض هذه النتائج، بل اجعلها تبدو وكأنها نهاية منطقية لجدال أو حجاج منطقي وعلمي قائم على الإقناع والشرح والتوضيح. بالإضافة إلى ذلك حاول أن تبرز دلالة هذه النتائج ومداها، أي ما تضيفه إلى المعرفة الإنسانية، وما تغيّره من قناعات ومسلّمات لدى القارئ، وما تفتح من آفاق جديدة أمام الدرس... وهكذا تظهر قيمة الخلاصات التي تعرضها علينا.

ولكن بالإمكان أن يكون غرض البحث إحداث خلخلة في منظومة فكرية معيّنة، أو رجرجة نظرية معيّنة متمكنة ومسيطرة. أي أنه بالإمكان أن تكون الأسئلة أهم من الأجوبة، وفي هذه الحالة تكون قيمة المذكرة في الأسئلة ذاتها التي تطرحها. ومن ثمة تكون النتائج نفسها هي إبراز أهمية الأسئلة المطروحة، ومدى تأثيرها في النظرية أو الدرس المستقر.

كيف تضبط العنوان ؟

تأكد أن يكون عنوانك دالا على الإشكالية المحورية في البحث، وهذا يعني أن العنوان مرتبط في الأساس بمشكلة البحث ذاتها، فكلما كانت واضحة كان العنوان بدوره واضحا، والعكس صحيح. عليك إذن أن تحدّد مشكلة البحث تحديدا دقيقا، كرر باستمرار طرح السؤال : حول ماذا يدور بحثي بالضبط ؟ ما هي المشكلة الرئيسة التي يعالجها ؟ ما هي الأهداف التي يريد الوصول إليها ؟ إن الإحاطة الجيدة بإشكالية البحث هي مفتاح العنوان الجيد.

أما شروط العنوان الجيد فهي الدقة (تجنّب التعميم والشمول)، والوضوح (تجنّب الغموض)، والاختصار قدر الإمكان (حاول أن تحذف ما استطعت من الكلمات غير الضرورية). ولكن يجب أن تعرف أن الاختصار مشروط بعدم إغفال دقة التعبير عن موضوع البحث، وهكذا فإن التضحية بالاختصار أولى من التضحية بالوضوح والدقة. وإذا أضفنا أنه ينبغي على العنوان أن يوضّح المنهج المتبع في الدراسة، فهذا يعني أن طول العنوان ضروري في بعض الأحيان لتحقيق مطلب الدقة والوضوح. اجعل عنوانك إذن دالا على نوع الدراسة التي تعرضها علينا : دراسة حالة – دراسة تطبيقية – مقاربة نظرية - دراسة مقارنة أو وصفية تحليلية أو تاريخية... الخ.

واعلم أن التحديد السليم للعنوان يمر بخمس مراحل : 1. مرحلة العمومية الكاملة. 2. مرحلة العمومية. 3. مرحلة العمومية المحدودة. 4. مرحلة العنوان المحدد. 5. مرحلة العنوان الأكثر تحديدا.

أما المحدّدات التي تعيننا على تدقيق العنوان، فهي الزمان، والمكان، والنوع أو الجنس، والكيف، والشخصية في ذاتها (الذي تُدرس أعمالها)، وحتى المدرسة أو الاتجاه... ولكن التحديد الدقيق للعنوان يتطلب تضافر هذه المحددات كلّها، وليس محددا وحيدا لأن هذا المحدد لا يكفيك لوحده لتدقيق عنوانك. وهكذا كلما أضفت محددا جديدا إلى محدد سابق كلما انتقلت من مرحلة عامة جدا إلى مرحلة أقل عموما، حتى تصل في النهاية إلى عنوان وضاح ودقيق وعلمي.

مثال : "الخصائص الفنية للرواية". (مرحلة العمومية الكاملة)

التحديد بالمكان : الخصائص الفنية للرواية الجزائرية. (مرحلة العمومية)

التحديد بالزمان : الخصائص الفنية للرواية الجزائرية المعاصرة. (مرحلة العمومية المحدودة)

التحديد بالمدرسة أو الاتجاه : الخصائص الفنية للرواية الواقعية الجزائرية المعاصرة (مرحلة العمومية المحدودة)

التحديد بالنوع أو الجنس : الخصائص الفنية للرواية النسوية الجزائرية المعاصرة. (مرحلة العمومية المحدودة)

التحديد بالشخصية (المدروسة أعمالها) : الخصائص الفنية لروايات أحلام مستغانمي. (مرحلة العنوان المحدد)

التحديد بالكيف (كيفية الدراسة، أو كيفية المقاربة) : جمالية المكان في روايات أحلام مستغانمي. (مرحلة العنوان الأكثر تحديدا)

أمثلة عن عناوين تفتقد إلى التحديد :

1. أدب الطفل في الجزائر (نشأته ومضامينه وخصائصه) : لا يوجد المحدد الزماني، والعنوان الفرعي عام جدا ويحتاج بدوره إلى تحديد.

2. شعر السجون في فلسطين (محمود درويش أنموذجا) : لا يوجد المحدد الزماني، ولا المحدد الكيفي (أي أننا لا نعرف كيف سيُدرس هذا الشعر).

3. مظاهر التجديد عند جبران خليل جبران : المحدد الجنسي أو النوعي غائب (فلو ركّزنا الدراسة في شعر جبران وحده أو في نثره وحده لكان أفضل).

4. الأمثال والحكم الشعبية : منطقة القبائل أنموذجا [دراسة وتحليل]. لا يوجد محدد زماني. ولا يوجد محدد كيفي (نحن لا نعرف نوع الدراسة ولا نوع التحليل : تحليل موضوعاتي، أسلوبي، أنثروبولوجي، بنوي... الخ).

5. الدلالات النحوية والصرفية : دراسة تطبيقية في القرآن الكريم.

6. المصطلح الدلالي في النظرية السياقية (غياب كل المحددات : ما نعرفه فحسب هو المصطلح الدلالي، والنظرية السياقية).

7. بين التناص والسرقات الأدبية : الموشحات أنموذجا. (غياب كل المحددات تقريبا).

8. صورة المرأة في الرواية العربية : رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة أنموذجا. (غياب محددي الزمان والمكان : ولضبط العنوان يمكننا أن نقول بكيفية بسيطة جدا : "صورة المرأة في رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة").

أمثلة عن العناوين الدقيقة :

1. مفهوم الفونيم عند لسانيي حلقة براغ. (مفهوم الفونيم بالضبط، وليس المفاهيم اللسانية بصفة عامة).

2. بنية العلامة اللسانية بين دي سوسير وبيرس : دراسة مقارنة.

3. الأصول التراثية لنظرية الحقول الدلالية عند العرب المحدثين.

أهمية الملاحق :

إذا كانت ثمة معلومات مفيدة متعلّقة بالبحث، ولكنها قد تخل بترابط أجزاء البحث، أو تعرقل مساره، أو تظهر بكل بساطة بأنها ليس جزءا أساسيا من البحث – فافصلها عن جسم البحث، وضعها في ملاحق مستقلة في آخر البحث، فتكون عملية أكثر، ويمكن للقارئ الاطلاع عليها متى أراد، بينما يمكنه التركيز على البحث في ذاته دون أن تشوش عليه أو تعطّل انشغاله بالبحث. وهذه حال الخرائط والجداول على سبيل المثال، وفي ميدان الأدب يمكننا على سبيل المثال أن نضع القصيدة المحلّلة أو المدروسة كلها (في شكل ملحق) في آخر البحث. وكذلك الشأن بالنسبة إلى التعريف بالشخصية المدروسة، أو أهم الرواد الذين تُدرس أفكارهم وأعمالهم في البحث، مع لفت الانتباه إلى أن المعروف لا يعرّف بأي حال من الأحوال. فاحذر على سبيل المثال من التعريف بأبي نواس أو المتنبي أو جبران أو نازك الملائكة... في بحث معيّن، خصوصا إذا كان البحث كله حول المتنبي مثلا، أو جبران. ويمكنك الاكتفاء فحسب بذكر تاريخ الميلاد والوفاة في هامش الصفحة، أو ذكر بعض الكتب والمراجع التي تعج بالمعلومات حول الشاعر أو الكاتب المدروس.

كيف ترتّب مراجعك ؟

الترتيب الألف بائي أو الأبجدي.

بحسب التواتر : وهكذا تكون المراجع الأكثر استعمالا هي الأولى ثم ننتقل إلى الأقل فالأقل... الخ.

بحسب النوع : المصادر – المراجع – العربية - الأجنبية – المترجمة – الرسائل والمذكرات - المجلات – المواقع الالكترونية والمقالات المنشورة على الانترنت... الخ.

بحسب الموضوعات : مراجع السيميولوجيا، السرديات، البلاغة، لسانيات النص... الخ.

شروط الإحالة :

بغض النظر عن الطرائق المختلفة المعتمدة في تنظيم الإحالات وكيفية تدوينها، فثمة ثلاث قواعد أساسية يجب أن تتوفر دوما في إحالاتك :

 1. شرط الإفهام : ينبغي أن تصاغ الإحالات بحيث تسمح للقارئ أو الباحث الذي يعتمد على عملك أن يجد المصدر أو المرجع الذي تحيل إليه. (وبالتالي فإن خللا بسيطا في رقم الطبعة يجعل الوصول إلى المعلومة التي تشير إليها مستحيلا : طبيعي أنه إذا اختلفت طبعتان فالصفحة 13 التي تحيل إليها أنت ليست هي الصفحة 13 في طبعة أخرى مختلفة).

2. شرط الانسجام : إذا اخترت طريقة تهميش معيّنة، فالتزم بها خلال المذكرة كلها، من البداية إلى النهاية. (التهميش في أسفل الصفحة أو في نهاية الفصل. الاختيار بين الطريقة الأوروبية أو الطريقة الأنجلوساكسونية... الخ).

3. شرط العقلانية : لا تقدم من المعلومات إلا ما يكون مفيدا للفهم وللوصول إلى المرجع الذي تحيل إليه.

مراجع المداخلة :

أ. باللغة العربية :

البحث العلمي أسسه وطريقة كتابته، محمد الصاوي محمد مبارك، مصر (دون دار نشر)، 1992.

البحث العلمي : الدليل التطبيقي للباحثين، محمد عبد الفتاح الصيرفي، (دون دار نشر، دون بلد)، 2005.

دليل الباحث، أحمد حافظ نجم وآخرون، الرياض-السعودية (دون دار نشر)، 1988.

ب. باللغة الأجنبية :

Comment rédiger une thèse, Joe Wolfe, l’université de Nouvelle-Galles du Sud, Sydney-Australie, 2012.

Guide de préparation du mémoire de maitrise, Claude Morin, université de Montréal, 2003.

Guide pour la rédaction de travaux scientifiques, Benoît Beuret, et all, Janvier 2010 (sur la base de la version de Ansgar Jödicke et Marianna Kropf , 2004).