من أجل ربيع عربي أصيل

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

تقديم

أزعم أن ثورات الربيع العربي لم تحسن انتهاز الفرصة. والظاهر أنها مستعدة لأن تُلدغ من الأجحار مرات ومرات. سيقولون: ضغوط ومَكاره! لكن أليس يَحصل التغيير على كُره ومشقة؟ أما الفرصة المضيّعة فهي بناء أنموذج حضاري مستقل يقوم على هويّة الأمة التي حفظت تميّزها عبر التاريخ. والشرط الضروري غير الكافي لتحقيق هذا المطلب هو اقتلاع شجرة الفساد والاستبداد من جذورها. إذ لا يُتصوّر قيام مصالحة بين حق وباطل، ولئن جاز الخضوع والركون والمهادنة زمنَ الاستضعاف، فكيف يجوز والزمنُ زمن الثورة والشعوبُ المنتفضة توّاقة إلى الحرية والانعتاق والمجد؟ لكن القيادة غالبا ما ترى غير ما ترى الشعوب! فمَن ذا يقول لها ما قال محب الدين الخطيب: "العيب في القيادة"؟ ولا يعدم مُتصدِّرو الحَراك حجج الذلة والمسكنة، سواء أكانوا إسلاميين أم قوميين أم علمانيين.  

لا غرابة أنْ تُراوح أنظمة ما بعد الثورة بين إقدام وإحجام، ذلك أنها لم تقم على أساس الاستقلال والتميّز. فكان أن اشتغلت بالتفاصيل كما وضعها اجتهاد بشري بمحاسنه ومساويه. مع أن عقلاء القوم الذين هم أدرى بالشعاب لا يفتؤون يفضحون عيوب الأنموذج الملهِم. يظل النموذج الغربي إذاً بنظريته السياسية وآليات تداول السلطة أفقَ أنظمة ما بعد الثورة. وكأنه لا تاريخ للعرب والمسلمين ولا ذاكرة ولا حضارة تستحق أن تكون محلا للاعتبار. ليس غير النظام الديموقراطي ومنطق الأغلبية والأقلية، ولا بأس أن تضيع المقاصد وتُختزل الغايات الكبرى في آليات وتقنيات، وجزئيات وانتخابات. وإذا كانت العبرة بالخواتيم فلك أن تسأل: أتلوح في الأفق ملامح تغيير حقيقي عميق؟

معاطب ما بعد الثورة

أولا: هل يمكن أن نتكلم عن أنموذج حضاري دون التخلص من التبعية الغربية؟

إن أخطر التبعيات ولا ريب الخضوعُ للمؤسسات المالية العالمية، خضوعٌ لا يعني غير إغراق العرب في ديون متراكمة. والديون هي الطريق المَلكي للإملاءات الخارجية. ولا تسأل حينها عن السياسات غير الوطنية، وعن التبعية الاقتصادية وما ينشأ عنها من تبعية سياسية وثقافية... إلخ. والحاصل أن حكومات ما بعد الثورة ما زالت تهرع إلى مؤسسات الجوْر العالمي، تراه الطريقَ الأقصر لإحداث التنمية والخروج من حالة التخلف الشامل. ولا مجال للتوجه شطر إخوة العِرق والدين، أو حتى محاولة ذلك. مجمل الكلام أن المغالبة الحضارية منعدمة، والكلام الذي يقال قبل الثورة وفي أثنائها عن التحرر من الهيمنة الغربية وإقامة الوحدة العربية أو الإسلامية، والكلام عن دولة الخلافة والاستقلال الحقيقي... سرعان ما يتبخّر في مرحلة الدولة. ثم تبدأ مبررات الضغوط والمكاره والاتفاقيات الدولية والتنمية والاستقرار... إلخ.

ثانيا: أليست أنظمة ما بعد الثورة تكيل بمكاييل؟

الظلم عند المنصفين ظلم ولو وَضع الزِّيانَ على وجهه، وتَسمّى بأجمل الأسماء. هو ظلم في أيّ مكان حلّ وفي أيّ زمان كان. والاستبداد استبدادٌ أيّا كان ممارسُه، والكرامة لبني آدم على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وعقائدهم. فليس من العدل مقاومة الظلم ببلد ومدحُه في بلد آخر. أوليس تقتضي أخوة الإسلام والعروبة أن المسلمين كالجسد الواحد؟ سيقولون: إنها الواقعية والدبلوماسية والظرفية والتدرج، وما لا يدرك بعضه لا يترك كله. لكن أيبرِّرُ ذلك كله قولَ الباطل؟ قد نسكت عن بعض الحق، لكن لا ينبغي قولُ الباطل. مع العلم أن السكوت عن بعض الحق سكوتٌ عن بعض الباطل، وفقهُ الانبطاح لا ضوابط له ولا حدود. والحاصل أن ثورات الربيع العربي ما تزال قُطرية لا روح عربية فيها ولا روح إسلامية. أما أنظمة ما بعد الثورة فلا ترى مشكلا في التعامل مع أنظمة استبدادية هي من النمط الذي ثارت عليه. أفمِن العدل أن يزكّي نظام ثوري نظاما استبداديا قولا أو فعلا؟ كيف يرتضيه شريكا يدعمه على حين أن الذين يَصلَوْن لظاهُ يعملون على إسقاطه؟ أليس في ذلك تثبيتا له وتمكينا بوسائل شتى؟ كيف نطلب لأنفسنا الحرية ونأباها للآخرين بدعوى أنّ أهل مكة أدرى بشعابها!

ثالثا: عدم إدراك التلازم بين القطري والعالمي.

تتفق أنظمة ما بعد الثورة على تأجيل ما لا يقبل التأجيل. فالسوق العربية الإسلامية مؤجلة، وكامب ديفيد ليس أوانها، والغاز اتفاقية مَن قَبلَنا، ومَعبر رفح ليس من الضرورات، وتطبيق الشريعة يقتضي التدرج، وكأن الزمنَ زمنُ تنزُّل الوحي! والوحدة تحتاج زمنا ليس باليسير، حتى وإن كنا كلّنا ثوريين... وهلمّ تأجيلا وتماطلا! أما الأولويات فهي الاستقرار والتنمية والسيادة والدستور والبرلمان والديموقراطية والرئيس والحكومة والخروج إلى الشارع وو... مما لا ينتهي ولا ينضبط ولا حدَّ له يُعرف. وحينما نقول لا حدَّ له يُعرف فليس من باب الكلام الذي يُلقى على عواهنه، فإنك لو تتبّعت تصورات القوم على اختلافهم لوجدتَ للديموقراطية مفاهيمَ لا تحصى، وللسيادة والاستقرار والتنمية... مثل ذلك أو يفوق. إن ما يفوت أصحابَ هذا الرأي أن هذه الأمور يُفضي بعضها إلى بعض، ويتقوّى بعضها ببعض. وليس عبثا أن تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في سياسات الدول الداخلية، وتفرض ما تراه على العبيد. فهي مشتغِلة بشمال مالي وأراكان والروهينغا وأفغانستان والعراق وغزة والربيع العربي... إلخ، ولا يشغلها موضوع عن موضوع. فهل معنى ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تكترث لتنمية داخلية واستقرار وديموقراطية...؟ إنها تفعل ذلك لأنها تعلم علم اليقين أن التدخل في شؤون الآخرين من صميم مصلحتها الداخلية. إنّ تدخلها علامة قوة تُكسب الثقة في النفس، وتُديم ثقة الأمريكيين في نظامهم، وحبّهم لوطنهم ودفاعهم عنه وتشبثهم به، لأنه راعي الحريات والحقوق في العالم! عدا ما في ذلكم التدخل من حماية لمصالحها. والنتيجة المحصَّلة أن الاستقرار الذي هو شرط التنمية يزداد بقدر اقتناع الأمريكيين بسداد سياسة بلدهم الداخلية والخارجية. تلك هي العلاقات الدولية، وذلكم هو الفهم الذي لا يرى القطريَّ إلا ضمن العالمي، ولا يَتصوّر المحليَّ إلا متعلقا بالدولي كتعلق الجزء بالكل.

وبالمثال يتضح المقال، أليس قطع العلاقات جميعها مع الكيان الصهيوني، وطرد سفير الكيان الغاصب، والتبرؤ من كامب ديفيد يزيد من شعبية الرئيس مرسي؟ لقد جرت العادة أن يفتعل الكيان الصهيوني أزمة مع الفلسطينيين، وقد يشنّ حربا عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، وكذلك يفعل الأمريكيون. بل إن ما يسمى "الحرب على الإرهاب" أصبح قضية مركزية في سياسة بوش الداخلية والعالمية. وعقب أحداث 11 سبتمبر 2001 نشأت فكرة الهجوم لأجل الدفاع عن النفس! وحينما كان يُواجَه بوش من قِبَل خصومه بكون الحرب على الإرهاب أدّت إلى تجاهل الأزمات الداخلية (البطالة والضمان الاجتماعي...) كان ردّ الرئيس أنه يفعل ذلك حرصا على أمن الأمريكيين وحياتهم، ولذلك وجب نشر الديموقراطية عند غير الديموقراطيين ليس حبّا فيهم، ولكن لنأمَن شرّهم! فانظر كيف تغدو قضية عالمية قضيةً داخلية! وحين يسعى أردوغان ليجعل لتركيا موطئ قدم في السياسة الإقليمية فلِعلْمه أن مصلحة البلد الداخلية تقتضي ذلك.

أما ما يفعله من يعتلي عرش ما بعد الثورة من العرب فطمأنةُ الغرب أنْ لا خشية على مصالحه، ثم التبرؤ من "الإرهاب" وأهله، والتأكيد على الانخراط في المجتمع الدولي والشرعية الدولية. هذا وهم يعلمون أنه لا مجتمع إلا مجتمع السلاح، ولا شرعية إلا شرعية القوة، وأن عالم اليوم لا مكان فيه للضعفاء والبلداء.

على سبيل الختم

لا يُفهم من نقد أنظمة ما بعد الثورة أن الأمور آلت إلى انتكاسة لا قومة بعدها، ففيها من الخير الكثير، لكنه خير على دَخن. ولا يُفهم من باب أَولى أن غيرها من الأنظمة التي لم تشهد ثورة أو أُجهضت ثوراتها أحسن حالا ومآلا. بل هي أنظمة لم تشمَّ للحرية رائحة، وما السكون البادي إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة. فالثورة آتية لا محالة. لكن ما قصدنا إليه أن نبيّن أن الثورة لم تستكمل دورتها ولا بلغت أهدافها. أما تباشير الخير التي ينشرح لها الصدر فحين نرى العرب والمسلمين على قلب رجل واحد، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. أما ما يقتضيه ذلك فتغليب الحق والصدع به، والصبر على ما ترتب على ذلك. وأما الحسابات السياسية والحزبية و"الواقعية" التي لا تنتهي فليست غير ماكيافيلية مُقنَّعة. ثم إنها توقِع في مطبّات شرعية وتصادم سنن التغيير ومنطق التاريخ. كان من الممكن ألا تضطر قوى التغيير المصرية إلى رفع القضاء المصري فوق مقامه، إلى حدّ تقديسه وعدّه شرف مصر، وكثير من أهله خدّام النظام البائد. كان من الممكن أن ترفض قوى التغيير التّحاكم لقانون ما قبل الثورة ابتداء، متفطّنة إلى أن الثورة تصنع شرعيتها. وكان من الممكن ألا تهادن هذه القوى رموزَ الفساد وتُصالح الفلول في الدولة العميقة لو أنها أصرّت على المقاومة وأعملتْ سنّةَ التدافع بمرجعيته الأصيلة وهويّته الراسخة. لَكانت قد تجنّبت الاستغراق في التفاصيل ومداواة الأَعراض وحلّ المشكلات التي يفتعلها الخصوم كل حين. ولكن هيهات! فهل تفعلها سورية؟