هذا الشعب العجيب الذي لا ينكسر

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

لدي وإخوتي عادة في بيتنا، هي أننا نراهن على توقعاتنا أحياناً، تارة بالمال من طرف واحد (كيلا يكون قماراً) وتارة بأن نوقع على الخاسر فينا عقوبة رمزية (كأن يجلي صحون الغداء مثلاً)، فلما كانت بدايات الربيع العربي أراد أحد إخوتي أن يراهنني على أن سورية ستركب الموجة وحدد لذلك أجلاً أكثره سنة واحدة، وأن على الخاسر فينا أن يجلي صحن صاحبه بعد الفطور مرة واحدة، فجعلت أسخر منه وأقول إن المخلوقات الفضائية التي يزعم بعض الحالمين أنها تعيش على غير كوكبنا من كواكب الكون التي لا تحصى قد تثور على قادتها يوماً، وأما الشعب السوري فإنه لن يثور بكل تأكيد، ذلك أنه شعب قد استمرأ الذل والمهانة حتى صارتا جزءاً راسخاً من تركيبته.

وقبلت الرهان.

ويح نفسي كم كنت من الجاهلين! ولو أني عرفت ثمن أو عشر ما أعرفه اليوم عن شعب سورية، بل قل لو عرفت أقل من ذلك بكثير كثير لما قلت يومها ما قلت. لعمري إنه شعب عجيب! شعب غريب ثورته غريبة، لم يبق أحد على وجه البسيطة إلا وخذله وثورته وأدار لها ظهره ولما يجري على أرضها من مجازر تقشعر لها الأبدان (إلا أبدان قادة العالم السياسيين فإنها استثناء من القاعدة). شعب نصفه أهله أبطال، اجتمع أوغاد الدنيا كلهم عليهم، فجعلوا يسوفون للمجرم ويؤجلون محاسبته طمعاً في أن يقضي عليهم، وتركوا فريقاً منهم يمدونه بأسباب البقاء، فقويت شوكة هذا الشعب المغوار بدل أن تضعف، وصابر ثم صابر ثم صابر حتى يئس العالم من موته فقرر أن ينحاز إلى صفه، لا لأنه يحبه ويتمنى له الخير، بل ليسرق منه ومما يكسبه أبناؤه ببذل دمائهم وأرواحهم الغالية.

ثم أتى هذا الاختبار الأخير يوم ذرف الغرب دموع التماسيح، وأبت عليه شهامته -شهامته التي أوحت إليه أن يتفرج على الشعب الأعزل عشرين شهراً والمجرمون يذبحونه، ما نقموا منهم إلا أن يقولوا للظالم أنت ظالم وما نقموا منهم إلا أن يأمروا بالمعروف وينكروا المنكر ولو على شرفائهم- أبت عليه شهامته إلا أن يصر على إنزال ما يسميه زوراً وبهتاناً بقوات حفظ السلام وإن هي إلا قوات احتلال. فوقف له الشعب السوري وقفة الأبطال ورفض أن يبيع كرامته واستقلاله ودماء شهدائه بأمان يعطيه الغادرون (وما الأمان الذي يعطونه بيمينهم إلا ردًّا لما اعتدت به شمالهم من قبل).

وكذلك هي شيم الأكرمين أنهم يفرقون بين البضاعة الرخيصة المغشوشة وبين القيّم الثمين.

وكذلك أمرنا كلما أوشكنا أن نخاف على مصير هذه الثورة التي قامت على الظلم والتجبر، إذا بالشعب السوري يطمئننا بصبره وثباته وصحة محاكمته رغم ما ينوء به من حمل ثقيل.

نسيت أن أخبركم أني جليت صحن أخي بعد رهاننا بأسابيع قليلة، لم أكن أجليه بنفسية الخاسر المسكين كما قد تظنون، بل كنت أشعر أني أكبر رابح في الدنيا.