ولو كره الإرهابيون

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

حين أصدر صامويل فلبس هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد كتابه بعنوان "صدام الحضارات" أثار جدلاً واسعاً بين الأوساط الثقافية والفكرية .تناول فيه عدة أمور هامة كمفهوم الحضارات، مسألة الحضارة الكونية، العلاقات بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغيرة بين الحضارات حَتَّى فرض نفسه في سياق البحث في القضايا الدولية، سواء أكانت فكرية وثقافية، أو سياسية واجتماعية، أو اقتصادية وتنموية. 

 تعود اللبنات الأساسية لبناء أطروحة مفهوم صراع الحضارات للمفكر وعالم المستقبليات المغربي الدكتور المهدي المنجرة إذ يرى أن الغرض من طرحه لهذه النظرية هو موقف وقائي، بنائي لا أصولي، وذلك من أجل ترسيخ قيم العدالة الإنسانية، وتفادي الكوارث اللاإنسانية في حق البشرية من خلال نبذ الكراهية والتحريض، وضمان سيرورة تاريخية للقيم المثلى، التي تحكم وتحكمت في العامل الإنساني من ناحية بناء القيم المثلى ،وقد اعترف المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون بِأمانة علمية يُشهد له بها هنا، ضمن مؤلفه صدام الحضارات، بمرجعية وأسبقية الدكتور المهدي المنجرة. 

مع اِنْتِشار وشيوع مفهوم (صراع الحضارات) بَرَزَ في المقابل مفهوم آخر (حوار الحضارات) ويرى الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري مدير عام المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بأن الحضارة هي وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً ولذلك، فإن الحضارات لا تتصارع، وإنما تَتَدافَع وتَتَلاقَح ويكمل بعضها بعضاً، وتَتَعاقَب وتَتَواصلُ، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني وحركة التاريخ التي هي، في المفهوم الإسلامي، سنة اللَّه في الكون فالصراع بين الحضارات، ليس وارداً، لأن دورات التاريخ تطَّرِد وفق المشيئة الإلهية، ولأن التاريخ هو من صنائع االله، والإنسان الذي يؤثر في مسار التاريخ ويصوغه ويبدع فيه، هو من أكرم خلق اللَّه .

 "باقية وتتمدد "هذا شعار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والمعروف اختصاراً بـ "داعش" ويسمي نفسه الآن الدولة الإسلامية . برز هذا الشعار بقوة بعد أن حقق اِنتِصاراً كاسحاً على المليشيات الارهابية لجيش المالكي وسيطرته على مدينة الموصل واستيلائه على معدات عسكرية خفيفة وثقيلة.

 تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو تنظيم مسلح يتبنى الفكر السلفي الجهادي يهدف أعضاؤه إلى إعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة. اِنبَثَقَ من تنظيم القاعدة (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) والمعروفة أكثر باسم تنظيم القاعدة في العراق وقد شكلها أبو مصعب الزرقاوي أمير جماعة التوحيد والجهاد ويعتبر الأب المؤسس لهذا التنظيم فقد شارك في قوات المقاومة ضد القوات التي تقودها الولايات المتحدة وحلفائهم العراقيين في أعقاب غزو العراق واشتهر بمسؤوليته عن سلسلة من الهجمات والتفجيرات خلال حرب العراق، وقد أشادت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس بالمهارات العسكرية التي تمتع بها ووضعته في مصاف جنراليّ الحرب الأهلية الأمريكية، أوليسيس غرانت وروبرت ليز..

 في 29 يونيو 2014 أَعْلَنَ المتحدث الرسمي باسم تنظيم «الدولة الإسلامية»، أبي محمد العدناني عن إقامة دولة الخلافة على الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم ومبايعة أبي بكر البغدادي خليفة المسلمين، ويعتبر هذا الإعْلان هو التطور الأهم والأخطر في تاريخ عمل المنظمات الجهادية والتهديد الحقيقي لكلّ النظم العربية الاستبدادية .

 بعيداً عن الدخول في الجدل الدائر حول من يقف وراء هذا التنظيم فلم تبق دولة إلا وقد تم ضمها لقائمة الدول المتهمة بتمويل أو تحريك - داعش- فلو كان الكاتب إريك انطون بول فون دانكن عربياً أو مسلماً لخرج علينا بنظرية جديدة تقول : هناك كائنات كونية تقف وراء داعش وهذه الكائنات تريد أحداث فتنة بين البشر ودفعهم إلى حرب عالمية من أجل الاسْتيلاء على الأرض مُستشهِداً بمشروع داعش.

 هذا الجدل حول من يقف وراء هذا التنظيم يعتبر بمثابة الدخول في دهاليز مظلمة لا تفضي إلى شيء بل إلى المزيد من التخمينات والتكهنات والافتراضات والهروب غير مبرر من المسئولية وعدم الاعتراف بما وصلنا إليه من تفكك وانحطاط حضاري وفكري . فهذا نتيجة ثقافة التسطيح والتعليب السائدة في العالم العربي والإسلامي التي تلقى كلّ الدعم والرعاية من قبل النظام العربي وكلّ المؤسسات الثقافية والإعلاميّة بلا استثناء حتى تلك المؤسسات العربية المتواجدة في الغرب. 

 في بداية الألفية الثالثة ، برزت في عالمنا العربي ظاهرة التعصب والتطرف الديني ، وظاهرة القتل والاغتيال السياسي والفكري والعقائدي، وظاهرة الانغلاق على الذات والتنرجس العُنْصُرِيّ ، وظاهرة التكفير المنفَلِت، وظاهرة التخوين، وظاهرة الفساد ، وظاهرة النفاق والمجاملات الفارغة، استشراء وشيوع لغة العنف كلغة وحيدة لمعالجة الكثير من المشكلات التي يمر بها العالم العربي ،ترويج وإشاعة نمط من أنماط الثقافة المبتورة وتسويق الوهم والتَضليل ، فكلّ تلك الظواهر باتت جزء لا يتجزأ من ثقافتنا العربية وتاريخنا المعاصر. 

 جاء ولادة هذا التنظيم من رحم الظلم والاسْتِبْدَادِ والطغيان الانغلاق والاستلاب الفكري وتسويق الوهم، جاء من رحم الجهل المتعلق بفلسفة التنوع القائم على الاختلاف الذاتي بين ما هو فكري أو عِرقي أو ذوقي أو عقائدي، من رحم استغلال المفاهيم الدينية المقدسة بطريقة مجتزئة ومشوّهة من أجل اشعال روح العنصرية الدينية والطائفية، وإشاعة الفوضى ، ونشر مشاعر الكراهية والفتنة، من رحم الفقر والجوع والبطالة ، من رحم السجون العربية حتى أصبح الإرهاب ديناً وعقيدة ، وسلاحاً في يد المَقْهورين ، وتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ.

 من هذا المنطلق سوف أعمل على كشف حقيقة هذا التنظيم من خلال معرفة مشروعه الحقيقي وما يريد إِنجازه عندها نستطيع الحكم عليه . 

في هذا المقال سوف أضع أمام القارئ حقيقة مشروع تنظيم الدولة الإسلامية ومع من يتقاطع هذا المشروع حَتَّى نتخذ موقفاً واضحاً، والأهم رؤية مستقبل هذا التنظيم والمصير الأسود الذي يسير إليه. 

لكي نفهم مشروع تنظيم الدولة الإسلامية علينا البحث عن الإستراتيجية الإعلامية للدولة الإسلامية إذ أصبحت " دابق" الإستراتيجية الإعلامية الأساسية لتنظيم الدولة الإسلامية فقد أصدر صحيفة خاصة به وأطلق عليها اسم "دابق" ويستعد إلى إِطْلاق " قناة دابق الإخبارية ". دابق هي قرية في منطقة اعزاز في محافظة حلب في سوريا . وقعت قربها معركة مرج دابق الشهيرة بين العثمانيين والمماليك.

أما "دابق" في عقيدة التنظيم وفي إستراتيجيته الإعلامية فهي المعركة أو الملحمة الكبرى بين المسلمين والكفار فأول من روج لمعركة دابق في الخطاب الجهادي العالمي هو أبو مصعب الزرقاوي؛ الأب المؤسس لتنظيم «الدولة الإسلامية» ، إذ قال في أحد خطاباته: « ها هي الشرارة قد انقدحت في العراق، وسيتعاظم إوارها ـ بإذن الله ـ حتى تحرق جيوش الصليب في دابق».

 هذه المعركة أو"ملحمة دابق الكبرى" كما يطلق عليها أنصار التنظيم هي نبوءة وردت في أحد الأحاديت الصحيحة المنقولة عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم هذا نصه: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق – أو بدابِقَ – فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا مِنَّا نقاتلْهم، فيقول المسلمون: لا والله، كيف نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثُلُث ولا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتَل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يُفتَنون أبدا، فيفتَتحِون قسطنطينية بينما هم يقتسمون الغنائم، قد عَلَّقوا سُيوفَهُهْم بالزيتون ،إذ صاح فيهم الشيطان : إنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ فد خَلَفَكم في أهاليكم، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبيناهم يُعِدِّون القتال ، يُسَوُّون صفوفَهم ، إذا أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم ، فأمَّهم ، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب في الماء فلو تركه لا نزاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح- فيريهم دَمه في حربته » أخرجه مسلم.

إذن، تعتمد الإستراتيجيته الإعلامية على نبوءه دينية واِسْتِغْلاَلُهَا كنداء تعبوي للجهاديين للاِنْضِمام إلى صفوف التنظيم وبهذه الإستراتيجيته تكون دولة الخلافة تمتلك مشروعاً واحداً وهو الاسْتِعْدَاد والتجهيز لحرب كونية بين المسلمين والكفار .

أما الخطاب الإعلامي التعبوي الذي يستند إليه التنظيم فهو السلاح الأقوى في يد التنظيم والزخم في تجدد قوته وعنفوانه ووحشيته إذ يقوم على اِسْتِغْلاَل حالة الظلم والاسْتِبْدَادِ والطغيان المتفشية في العالم العربي والإسلامي ، لعب دور الضحية من خلال الجرائم والاضطهاد الديني والانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها المسلمون في بورما (ميانمار) ، أفغانستان، كشمير، الشيشان ، فلسطين ، العراق ، البوسنة ، الهرسك وغيرها، إِظْهار قوة وصلابة مقاتليه فهم جيش من أحفاد أبو بكر وعمر وخالد بن الوليد والقعقاع .

 هذا الجيش ( تنظيم دولة الخلافة) هو النواة لتوحيد المسلمين وتحريرهم من استبداد الأنظمة الحاكمة ، والجيش الذي سيحرر فلسطين وبيت المقدس ، السيف البتار حامي الإسلام والمسلمين الذي سوف يخلص المسلمين من كلّ أنواع الظلم والاسْتِبْدَادِ والطغيان والاضطهاد والارتهان والتبعية للغرب وتحقيق نهضة حقيقية تؤمن كرامتهم ورفعتهم وعزتهم .

أما لعب دور الضحية في الخطاب الإعلامي للتنظيم له وجهان: الوجه الأول ، نيل التعاطف معه ومع قضيته ومشروعه الجهادي ، الوجه الثاني، تبرير كلّ أفعاله مهما كانت وحشيتها.

يقول المسيح عليه السلام :" " كل شجرة تعرف من ثمارها ". وثمار تنظيم الدولة الإسلامية من خلال الجرائم البشعة التي اقترفها والتي لا يمكن تبريرها، تلك الجرائم تصور الإسلام كدين همجي ، متعطش لسفك الدماء ، دين لا يؤمن بالتعايش السلمي ، لا يحترم حقوق الإنسان وكرامته، دين يمتلك نزوعاً جامحاً نحو الانْتِقامِ ، دين يؤمن بالسلب والنهب والترويع والابتزاز . 

هذا التنظيم أصبح مشروعه الأساسي والجوهري هو شيطنة الإسلام وبهذا يحمل التنظيم بذور فنائه في ذاته ، فيتحول شعاره "باقية وتتمدد " إلى "تتأكَّل وتنتحر ".إذ قال تعالى «وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ». 

فالأشياء الباقية، ولو كره الإرهابيون، هي القيم والمثل الإنسانية العليا ، مكارم الأخلاق ، يقول المصطفى : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فـإن هُمُوُ ذهبــت أخـلاقهم ذهــبوا" ، الأفكار الحرة والنبيلة التي لا تحتاج إلى سيف أو انتحاري ضالّ ومنحرف لكي ينشرها . 

مشروع تنظيم الدولة الإسلامية يتقاطع مع رعاة ودعاة "صدام الحضارات" ، خاصة "الأصولية الإنجيلية" أو" العقيدة الصهيونية المسيحية " إذ يؤمن أتباع هذا المذهب أن هناك ثلاثة إشارات إلهية يجب أن تتحقق قبل أن يعود المسيح إلى الأرض، وهي: قيام دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات، وامتلاك مدينة القدس، وإعادة بناء هيكل سليمان، وبعد تحقق تلك الإشارات فإن معركة هرمجدون، وهي معركة يعتقد الإنجيليون أنها ستقع في سهل مجدون (القدس وعكا) وأن التنبؤ بها ورد في أسفار حزقيال ويوحنا ويوشع وهي تقول: إن قوات الكفار سوف تدمر فيها، وإن المسيح سوف يظهر فوق أرض المعركة ويرفع بالجسد المؤمنين به ويخلصهم من الدمار ومن ثم يحكم العالم مدة ألف عام حتى تقوم الساعة. 

 لكي لا يذهب خيال القارئ بعيداً ويظن أن هذا التقاطع هو إشارة واضحة إلى من يقف وراء تنظيم الدولة الإسلامية ، فقد أشرت سابقاً إن هذا التنظيم قد ولد من رحم الظلم والاسْتِبْدَادِ والطغيان والانغلاق والاستلاب الفكري إلّا إن مرجعيته الدينية والسياسية الفكرية تعود إلى الأصولية السلفية المعاصرة ويعتبر سيد قطب منظِّرها الذي تأثر كثيراُ بأفكار أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي.

 وجدت العقيدة الصهيونية المسيحية مناصرين لها في القوى السياسية الفاعلة في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة "المحافظون الجدد" أو "الشتراوسيين" فهذه المجموعة تؤمن بقوة أمريكا وهيمنتها على العالم وتتألف من مفكرين استراتيجيين، ومحاربين قدامى، وإعلاميين ،ومثقفين.

تُحاوِلُ العقيدة الصهيونية المسيحية اسْتِغْلاَلَ ما يسمى "الحَرْب عَلَى الإِرْهَابِ" لتَحْوِيل مَسارِهَا إِلَى حَرْبٍ مُباشَرة عَلَى الإِسْلاَمِ إذ بدأت بَوادِرُ هَذِهِ الحَرْب بِحَرْبٍ إِعْلاَميةٍ شَعْوَاءَ عَلَى الإِسْلاَمِ مِنْ خِلاَلِ رَبْط الإِرْهَاب بجَوْهَر العَقِيدَة الدِّينِيَّة لِلإِسْلاَمِ وَالإِسَاءة إِلَى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وشحن العالم بغذاء الكراهية ضد الإسلام وقامت بتَأْسِيس وَإنشاء وَتَمْوِيل محطَّات تِلِفِزْيُونية لِخِدْمة هَذِهِ الحَرْب في كلّ بلاد العالم وبكلّ اللغات .

 هَذِهِ المحطَّات لَا تكتفي بِحَرْبها الإِعْلاَميةٍ عَلَى الإِسْلاَمِ وَاِتِّهام كُلّ الْمُسْلِمُين بِالإِرْهَابِ بَلْ تَعْمَلُ عَلَى التَحْرِيض ضِدّ الْمُسْلِمُين من خلال إشاعة الخوف بين الناس من الإسلام القادم إليكم بملايين من الانتحاريين ولا هدف لهم إلّا قتلكم ، وتَعْمَلُ أيْضاً عَلَى إِشْعالِ الفِتْنَةِ وَجر العَالَمِ إِلَى حَرْبٍ كَوْنِيّةٍ . فأَقُولُ إِلَى دُعَاة هَذِهِ الحَرْب وَإِلَى من يغذِّيها : إِنَّ حَرْبَكم لَخَاسِرَةٌ وَلَنْ تَحْصُدوا غَيْر الذُّلِّ وَالْخِذْلاَنِ . 

 أصبح العالم المعاصر في بداية الألفية الثالثة يتمحور حول ثلاثة أقطاب فكرية "دابق " و "هرمجدون " و "الثقافة الكونية الإنسانية الحرة" التي تؤمن بالحرية والإبداع والإخاء والمساواة والحوار ، فقطبي دابق وهرمجدون يتآكلان ذاتياً ويسيران نحو الانتحار ، أما الثقافة الكونية فهي الباقية وسيشع نورها كلّ أرجاء الكون فقد قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

 نعم، كان بمقدور تنظيم دولة الخلافة البقاء والتمدد وإِنْشاء دولة الخلافة ، دولة لا تغيب عنها الشمس ، واجتماع أهل الأرض على الإسلام – خاصة إن العالم المعاصر في الشرق والغرب يمر في مرحلة خطيرة وهي اِندِثار الحضارة أو اِندِثار الفكر الحضاري- إذ عمل فعلياً على ترسيخ قيم الحرية والإبداع والإخاء والمساواة والحوار والتعايش السلمي ، وقام بإِنشاء المدارس ، والجامعات ، ومراكز الأبحاث العلمية والفكرية، المسارح والمتاحف وقاعات للفنون، مستشفيات ومراكز صحية ، دور للرعاية ، إنشاء بيت المال لرعاية الفقراء والمحتاجين ، العمل على رفع الظلم، خلافة مثل خلافة عمر بن عبد العزيز الأموي القرشي ، فقد قال عطاء بن أبي رباح : حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشئ حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في اقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عن خصومته، فرحمت نفسي فبكيت . 

رحم الله أمير المؤمنين أبو حفص ، عمر بن عبد العزيز ، فقد جاءوه مرّة بالزكاة فقال أنفقوها على الفقراء والمساكين فقالوا ما عاد في أمة الإسلام فقراء ولا مساكين، قال فجهزوا بها الجيوش، قالوا جيش الإسلام يجوب الدنيا، قال فزوجوا بها الشباب، فقالوا من كان يريد الزواج زُوِّج، وبقي مال فقال اقضوا الديون على المدينين، قضوه وبقي المال، فقال انظروا في أهل الكتاب (المسيحيين واليهود) من كان عليه دين فسددوا عنه ففعلوا وبقي المال، فقال أعطوا أهل العلم فأعطوهم وبقي مال، فقال اشتروا به حباً وانثروه على رؤوس الجبال، لكي لا يُقال جاع طيرٌ في بلاد المسلمين . 

أما رسالتي إلى دعاة ما يسمى "الحَرْب عَلَى الإِرْهَابِ" فهي : لقد أثبتت التجارب إن العمليات العنيفة من قبل الجهات الأمنية في مصر والعراق لقمع موجة الإرهاب قد فشلت فشلاً ذريعاً في الحد من ظاهرة الإرهاب ، و أثبتت التجارب أيضاً إن العمليات العنيفة من قبل الجهات الأمنية في كلّ قطر عربي دون استثناء لقمع المعارضين السياسيين أنجبت حالة من السخط والغضب على أنظمة دموية ساهمت في خراب الشرق الأوسط وبروز ظاهرة الإرهاب كردة فعل على دموية وفاشية تلك الأنظمة وهذا ليس تبريراً للإرهاب بل تشخيص لتلك الظاهرة التي باتت تهدد وجودنا، شعوباً وقبائل. فمكافحة الإرهاب هي عملية تربوية أولاً تحتاج إلى إعادة تأطير البعد الأخلاقي للنفس البشرية. أما أَدَوات وأسلحة تلك الحرب فهي رفع الظلم، إستِئصال الموروث المشوه من الخطاب الديني والثقافي، تسريع الإصلاحات السياسية وإرساء الديمقراطية لإنهاء الحرمان والغضب المكبوت الذي يغذي الإرهاب ، وكذلك التخلص من مفهوم الدولة القاهرة أو الدولة البوليسية وتفكيكها من خلال ضمان الحرية الفكرية والسياسية والعمل النقابي وحقوق المواطنة التي تحول المواطن إلى ذات حقوقية وكينونة مستقلة فالمواطن يمتلك حقوقاً غير قابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة فهي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشُئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.